أثارت التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية في الجامعات الأميركية اتهامات بشأن انتشار معاداة السامية في هذه الجامعات، ما دفع وزارة التعليم الأميركية إلى فتح تحقيقات، ومثُلت ثلاث رئيسات لجامعات أميركية كبرى، هي هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أمام لجنة في مجلس النواب للإدلاء بشهاداتهن حول الاحتجاجات المعادية للسامية. وكان السؤال الأكثر إثارة للجدل، الذي وجهته النائبة عن ولاية نيويورك إليز ستيفانيك إلى عميدات الجامعات كل على حدة، لتجيب بنعم أو لا. وكان سؤالها: «هل كنت تدركين أن استخدام مصطلح الانتفاضة في سياق الصراع العربي - الإسرائيلي هو في الواقع دعوة إلى مقاومة مسلحة عنيفة ضد دولة إسرائيل والعنف ضد المدنيين والإبادة الجماعية لليهود .هل كنت على علم بذلك؟».هكذا تفهم النائبة الأميركية كلمة انتفاضة على أنها دعوة إلى إبادة اليهود في فلسطين والعالم أجمع. وهذه الادعاءات الباطلة التي تخلط بين حق تقرير المصير وارتكاب المجازر، تحتّم طرح السؤال الآتي: ماذا سيحدث للإسرائيليين المستوطنين في اليوم التالي لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر؟
يمكن الإجابة على هذه التساؤل عبر العودة إلى التجارب التاريخية مع الاستعمار الاستيطاني وتحديداً في الجزائر وجنوب أفريقيا كنموذجين يحتذى بهما، وثانياً إلى الرؤية الفلسطينية للتعامل مع المستوطنين اليهود ومدى انطباقها مع قواعد القانون الدولي.

النضال الجزائري: استقلال لا انتقام
نالت الجزائر استقلالها بعد استعمار استيطاني فرنسي دام 132 سنة، عُدّت خلاله الجزائر الإقليم الجنوبي لفرنسا وفقاً للدستور الفرنسي. ومنذ بدء الاستعمار الفرنسي في تموز/ يوليو 1830، تدفّق على الجزائر عدد كبير من المهاجرين الأوروبيين من المزارعين والأيدي العاملة من جنوب إيطاليا ومالطا وفرنسا وأسبانيا، وصادرت السلطات الاستعمارية أراضي القبائل والقرى والأوقاف، وأعادت توزيعها على المهاجرين المستوطنين.
بدأ النضال الجزائري منذ عام 1832 وتوالت الثورات ضد المستعمر الفرنسي. في عام 1945، خرجت تظاهرات مطالبة بالاستقلال في مدن جزائرية عدة، وارتكب المستعمر الفرنسي آنذاك مجزرة قتل خلالها 45 ألف جزائري. وفي عام 1954، شكّل الجزائريون جبهة التحرير الوطني، وبدأت معها حرب الاستقلال. ارتكب الاستعمار الفرنسي جرائم ضد الإنسانية، وحاول طمس الهوية العربية للجزائر باعتبار العربية فيها لغة أجنبية. ونظرت فرنسا إلى الجزائر كأرض خالية من السكان منذ عام 1830 وحتى 1962، متجاهلة كل الحقائق التاريخية والثقافية والجغرافية، وانتزعت الأرض من أصحابها واستحكمت بمقدرات البلاد وثرواتها، فيما عانى الجزائريون من مجاعات ومن سياسة ممنهجة أقرب إلى الفصل العنصري لا على أساس لون البشرة، بل على أساس الانتماء الديني.


وشهدت سنوات الاستعمار الفرنسي مجازر عدة وتهجيراً قسرياً لمئات الآلاف من السكان عن مناطقهم الأصلية. ووفقاً لبيانات جزائرية رسمية صدرت عام 2016، فإن عدد الشهداء الجزائريين هو 5 ملايين و630 ألفاً قتلوا بين عامَي 1830 و1962، وأن حرب الاستقلال وحدها أسفرت عن استشهاد مليون ونصف مليون جزائري. ورغم قساوة الاستيطان الفرنسي وبشاعته، اتخذ مجاهدو جبهة التحرير الوطني موقفاً تجاه المستوطنين الفرنسيين تمثل بعدم التعرض لهم، وتكرس هذا الالتزام في البيان الأول الذي صدر عن جبهة التحرير الوطني في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، ونص على ما يلي:
«انسجاماً مع المبادئ الثورية، واعتباراً للأوضاع الداخلية والخارجية، فإننا سنواصل الكفاح بجميع الوسائل حتى تحقيق هدفنا... إن هذه مهمة شاقة ثقيلة العبء، وتتطلب كل القوى وتعبئة كل الموارد الوطنية، وحقيقة أن الكفاح سيكون طويلاً، ولكنّ النصر محقق. وأخيراً، وتحاشياً للتأويلات الخاطئة وللتدليل على رغبتنا الحقيقية في السلم، وتحديداً للخسائر البشرية وإراقة الدماء، فقد أعددنا للسلطات الفرنسية وثيقة مشرفة للمناقشة، إذا كانت هذه السلطات تحدوها النية الطيبة، وتعترف نهائياً للشعوب التي تستعمرها بحقها في تقرير مصيرها بنفسها، وتتضمن النقاط الآتية1-.... 2 - جميع الفرنسيين الذين يرغبون في البقاء في الجزائر يكون لهم الاختيار بين جنسيتهم الأصلية ويعتبرون بذلك كأجانب تجاه القوانين السارية، أو يختارون الجنسية الجزائرية وفي هذه الحالة يعتبرون كجزائريين بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات...».
ومع وصول ديغول إلى سدة الرئاسة تم الاعتراف في نهاية المطاف بحق الجزائريين في تقرير المصير. وفي أيار/ مايو 1960، انطلقت محادثات ايفيان بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير، وأسفرت عن توقيع اتفاقيات ايفيان في 18 آذار/ مارس 1962، وأهم ما تضمنته في ما يتعلق بوضع المستوطنين الأوروبيين: «احتفاظ المستوطنين وعملائهم بالحقوق التي كانت لهم ثلاثَ سنوات قبل أن يختاروا جنسيتهم النهائية: إما الجزائرية فيصبحون مواطنين جزائريين أو الفرنسية فيعَاملون كأجانب».
فرغم قسوة الاستعمار، لم يقدم الجزائريون على الانتقام ولم يتعرضوا لأي من المستوطنين الذين فروا من البلاد (نحو 800 ألف مستوطن أوروبي) مع اقتراب موعد إعلان الاستقلال.

جنوب أفريقيا: عدالة ومصالحة
خضعت جنوب أفريقيا لنظام فصل عنصري أنشأه المستعمرون البريطانيون والأفريكانيون (أو البوير) الذين يتحدرون من أصول هولندية. وبموجبه حُجزت معظم الأراضي (87 في المئة) للبيض، وأُجلي نحو 3.5 ملايين شخص قسراً من السود ونقلوا إلى «محميات عرقية». وحتى عام 1986، كان على السود التنقّل حاملين وثيقة هوية تحدد المكان الذي يسمح لهم بالذهاب إليه تحت طائلة السجن أو دفع غرامة. نتجت من هذا النظام العنصري مقاومة اعتمدت في بدايتها أساليب سلمية كحملات المقاطعة والعصيان، ثم اختار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي العمل السري والكفاح المسلح. وفي عام 1964، حُكم على زعيمه نيلسون مانديلا بالسجن مدى الحياة بعد إدانته بتهمة «التخريب». لفت القمع الوحشي للنظام انتباه العالم، ما أدى إلى بدء عزلة جنوب أفريقيا دولياً. وتراكمت العقوبات الدولية ضدها، وفي النهاية تم إلغاء الفصل العنصري في 30 حزيران/ يونيو 1991 وإطلاق مانديلا، وأجريت انتخابات عامة وانتخب رئيساً للبلاد.
ولكن، كيف تعاملت الغالبية السوداء مع المستوطنين من الأقلية البيضاء؟
أنشأت الحكومة الجديدة عام 1995 لجنة الحقيقة والمصالحة للمساعدة في تعافي البلاد، وتحقيق المصالحة بين شعبها عبر الكشف عن الحقيقة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت خلال نظام الفصل العنصري، وتم تكليفها بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في الفترة بين عامَي 1960 و 1994، بما في ذلك ظروف وعوامل وسياق هذه الانتهاكات؛ والسماح للضحايا بفرصة رواية قصتهم؛ ومنح العفو؛ وصياغة سياسة التعويضات. وتلقت اللجنة أكثر من 22 ألف إفادة من الضحايا وعقدت جلسات استماع علنية أدلى فيها الضحايا بشهاداتهم حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتي تم تعريفها في القانون بأنها التعذيب والقتل والاختفاء والاختطاف، وسوء المعاملة الشديدة التي عانوا منها على أيدي دولة الفصل العنصري. وأصدرت اللجنة عام 1998 تقريراً تضمّن شهادات أكثر من 22 ألف ضحيّة وشاهد، أدليت في جلسات استماع علنية. وقد زودت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا العالم بأداة أخرى في مكافحة الإفلات من العقاب والبحث عن العدالة والسلام. ورغم الانتقادات التي وجهت إلى تجربة جنوب أفريقيا تحديداً لعدم ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية قضائياً، إلا أنها كانت كفيلة بالحد من إراقة الدماء ودوامة العنف.

المستوطنون اليهود في فلسطين الحرة
يرى المستشار حسن أحمد عمر الخبير المصري في القانون الدولي، (في مقابلة على قناة الغد في 25 شباط/فبراير 2024) أن إسرائيل فقدت حقها في الوجود عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 14 كانون الأول/ديسمبر 1960، القرار عن 1514 المتعلق بإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة. فقد وضع هذا القرار، سريعاً ومن دون أية شروط، حداً للاستعمار بجميع صوره ومظاهره، ولهذا الغرض ينص على وضع حد لجميع أنواع الأعمال المسلحة أو التدابير القمعية الموجهة ضد الشعوب التابعة، لتمكينها من الممارسة الحرة والسلمية لحقها في الاستقلال التام، وتحترم سلامة ترابها الوطني، ويصار فوراً إلى اتخاذ التدابير اللازمة في الأقاليم المشمولة بالوصاية أو الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، أو جميع الأقاليم الأخرى التي لم تنل بعد استقلالها، لنقل جميع السلطات إلى شعوب تلك الأقاليم، من دون أية شروط أو تحفظات، ووفقاً لإرادتها ورغبتها المعرب عنهما بحرية، من دون تمييز بسبب العرق أو المعتقد أو اللون، لتمكينها من التمتع بالاستقلال والحرية التامين. وقد دأبت القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبعينيات القرن الماضي، إلى ربط فلسطين بالدول المستعمَرة فعلى سبيل المثال القرار رقم 3070 لعام 1973 الذي ينص على أن الجمعية العامة للأمم المتحدة «تدين جميع الحكومات التي لا تعترف بحق الشعوب في تقرير المصير واستقلالها، ولا سيما شعوب أفريقيا التي لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية والشعب الفلسطيني. وبالمثل تم تصوير حالة فلسطين أيضاً على أنها قريبة من حالة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كما في القرار 2787 لعام 1971 الذي نص على أنه «تؤكد مشروعية نضال الشعوب من أجل تقرير المصير والتحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاستعباد الأجنبي، ولا سيما في الجنوب الأفريقي... وكذلك الشعب الفلسطيني، بكل الوسائل المتاحة بما يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة" .
إن المستوطنين اليهود الراغبين في البقاء في فلسطين لهم أن يختاروا الجنسية الفلسطينية أو أن يعودوا من حيث أتوا


وبحسب رأي المستشار، فإنه بناء على القرار 1514 لم يعد لوجود إسرائيل أي أساس قانوني لأنها كيان استعماري، وهي لذلك طالبت الفلسطينيين الاعتراف بحقها في الوجود عند عقد اتفاقيات أوسلو في عام 1993، لأنها تدرك تماماً أنها فقدت شرعية وجودها منذ عام 1960. أما الوضع القانوني للمستوطنين اليهود، فتحدده القواعد القانونية التي كانت مطبقة قبل إنشاء «دولة إسرائيل»، أي صك الانتداب الذي ينص في المادة السابعة منه على أن «تتولى إدارة فلسطين مسؤولية سَن قانون للجنسية، ويجب أن يشتمل ذلك القانون على نصوص تسهّل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم». وبناء عليه، فإن المستوطنين اليهود الراغبين في البقاء في فلسطين لهم أن يختاروا الجنسية الفلسطينية أو أن يعودوا من حيث أتوا.



التعامل مع الإسرائيليين وفقاً للرؤية الفلسطينية
في 30 أيلول/ سبتمبر 2021 عقدت «هيئة وعد الآخرة» في قطاع غزة، التي شُكلت من أجل إدارة فلسطين بعد التحرير، المؤتمر الاستراتيجي الاستشرافي الأول تحت عنوان «مؤتمر وعد الآخرة»، والذي وضع تصورات لأساليب العمل في المجالات المختلفة إبان تحرير فلسطين. وتضمن البيان النهائي للمؤتمر نقطتين تتعلقان بوضع اليهود المستوطنين وكيفية التعامل معهم، هما:
«15- يجب التمييز في معاملة اليهود المستوطنين في أرض فلسطين، ما بين محارب، يجب قتاله، وهارب يمكن تركه أو ملاحقته قضائيّاً على جرائم، أو مسالم مستسلم، يمكن استيعابه أو إمهاله للمغادرة، وهي قضية تستحق إمعان النظر وتقديم الروح الإنسانية التي اتسم بها الإسلام دوماً.
16- الاحتفاظ باليهود العلماء والخبراء في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا والصناعة المدنية والعسكرية لفترة وعدم تركهم يغادرون بالمعارف والعلوم والخبرات التي اكتسبوها وهم يقيمون على أرضنا ويأكلون من خيرنا، ونحن ندفع ثمن ذلك كله من ذلنا وفقرنا ومرضنا وحرماننا وقتلنا وسجننا».