وبالفعل أذعنت كثير من وسائل الإعلام (الكبرى والمهيمنة) لفعل الأمر الأميركي، وعاد الملفّ النووي الإيراني ليحتلّ صدر الصفحات والشاشات، كما كانت عليه الحال قبل المجزرة الإسرائيلية بحق «أسطول الحرية». ولسوء الحظ لاقى هذا «الإذعان الغربي» صدى طيباً لدى الماكينة الإعلامية الملحقة بالأنظمة العربية. وعلى رأس هذه الماكينة ليبراليّونا الأحرار! لكن مهلاً، ولندع الحجج يقارع بعضها بعضاً. فالذهاب تلقائياً إلى افتراض الأسوأ أمر لا يليق بالمقاربات التي تتوسّل النقد الرصين. لذا دعونا نتفحص المسألة على مهل، ونخضعها لتمرين مقلوب. ذلك أن الإذعان المذكور أعلاه والصدى الطيب الذي لاقاه في ربوعنا لا يعبّران البتة عن نظرية «التلاقي الموضوعي» السيئة الذكر، ولو كان الأمر كذلك لما كنا قرأنا كلّ ذاك «النقد لإسرائيل» في الصحافة العربية. إذاً المسألة لا تعدو كونها صدفة بحتة. فالصدفة إمكانية واردة دائماً في عمل الميكانيزمات الإعلامية، وخصوصاً إذا كانت هذه الميكانيزمات اعتباطية الطابع وغير خاضعة لأجندة السلالات العربية الحاكمة! وعدم الخضوع للأجندات المسبقة يتيح لها قدراً من التعارض مع إملاءات القوى الكبرى! عند هذا الحد لا يعود التمرين مجدياً. إذ كيف يمكن إقناع القارئ بأن التعارض مع القوى المهيمنة والإذعان لها سيّان؟ واستطراداً كيف يمكن الكاتب ذاته (في الصحيفة ذاتها) أن يدين أميركا في يوم على تغطيتها جريمة إسرائيل بحق المتضامنين العرب والأجانب مع غزة، ويهلّل لها في اليوم التالي على رعايتها مشروع حصار إيران وتحويلها إلى عراق آخر؟
يبدو أن التفسير الوحيد لهذا التناقض المنطقي هو بناء هؤلاء حججهم وسردياتهم على أنقاض المنطق. وهذا يعني أن توسّل المنطق العقلي لتفكيك روايتهم لن يجدي نفعاً. فعندما تكون خاضعاً لأجندة سلطوية نافية للعقل والمنطق معاً، لا تعود محاججة الآخرين لك نافعة أبداً، على عكس ما يشيعه البعض. فأنت كـ«ليبرالي» تابع «مسيّر لا مخيّر». ومن يسيّرك ليس الله كما تقول الميثولوجيا الدينية بل «ظلّه على الأرض». وهذا النسق المبتذل من الحكّام ليس حكراً على إيران وحدها كما يشيع أدعياء «الليبرالية». وادّعاء اللبرلة في ظلّ الإذعان للحاكم هو كادّعاء التعارض مع السياسة الأميركية في ما خصّ احتضان حروب إسرائيل. فكلاهما ينتمي إلى منطق العبث بالمنطق. وعليه لا تجوز مقاربتهما بغير منطقهما العبثي. بهذا المعنى يغدو «التعارض مع» أميركا وملحقاتها صنواً للتماثل معها (الإذعان لها). فالاثنان تحركهما عجلة واحدة هي عجلة الصدفة وانتفاء القصدية. وهذه المرّة ساقتهم (أي «الليبراليون») الصدفة إلى وضع «تركيا العثمانية» في مرمى التصويب المبتذل، بعدما كان هذا الموقع حكراً على إيران الخمينية. طبعاً لم يخلُ الأمر من تصويب عارض على الجريمة الإسرائيلية في عرض البحر. لكن التصويب على الجريمة أتى كالعادة ليضعها في سياق مفارق تماماً لطبيعة الفعل الإسرائيلي ومراميه. فالفعل ذاك بحسب مدّاحي الأنظمة جاء ليغذّي دائرة «التطرف» التي تأكل من رصيد قوى «الاعتدال». وإذا كان التطرّف ملاءة مناسبة لنظامي طهران وتل أبيب، فما عساها تكون الملاءة التي تناسب حكومة العدالة والتنمية في تركيا؟ هنا وقع ليبراليونا في مأزق حقيقي. فحكومة رجب طيب أردوغان لا يمكن حشرها في ثوب التطرف الفضفاض الذي ترطن به صباح مساء دعايتهم الجوفاء. ما الحلّ إذاً؟ إنها الشعبوية بلبوسها العثماني الجديد. هكذا، وبعدما استنفدت الدعاية المناوئة لإيران أغراضها، عادت الرّطانة النيوليبرالية لتنبش قبور العثمانيين، وتعيدهم إلينا بلبوس الفاتحين والغزاة الجدد. وحجّتهم في ذلك كتابات منظّر «العثمانية الجديدة» ووزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو. لم يشفع للرجل تنظيره لسياسة «صفر مشاكل» مع الجوار. يريدون إلباسه عنوة ثوب «الشعبوية العثمانية». قد يكون الرجل عثماني الهوى وقد لا يكون، لكن المشكلة لا تكمن في كونه كذلك، بل في إصرار «الليبراليين» العرب على افتعال المشاكل مع كل الأطراف التي تريد أن تملأ الفراغ العربي. كنّا نظن في البداية أن مشكلتهم هي مع التدخّل الإيراني في «الشؤون العربية» ودعمه للمقاومات في المنطقة، لكن تبيّن بعد صعود الدور التركي أن الأمر ليس كذلك تماماً. بكلمة أخرى، السلالات العربية الحاكمة تفضل إبقاء المنطقة على ما هي عليه.
رطانة أردوغان المناوئة لإسرائيل خدشت الحساسية الليبرالية، تماماً كما خدشها من قبل حذاء منتظر الزيدي
* كاتب سوري