أسعد أبو خليل *
ثمّة حاجة ماسة لدراسة ما سمّاه ثيودور أدورنو «صناعة الثقافة» في لبنان وفي العالم العربي في عصر الروتانا ــــ هل من يلاحظ تلك القدرة الهائلة لأمير واحد من آل سعود على التأثير على الذوق الموسيقي والفني العام؟ــــ والسطوة الاحتكارية لمؤسسات جريدة «النهار» لم تَخُرْ في عصر الصعود الخليجي. وبعض العالم العربي، وخصوصاً شيوخ النفط، مصاب بعقدة التفوّق اللبناني، وهو كذبة أطلقتها الشوفينية اللبنانية وصدّقها شعب لبنان وبعض الشعب العربي. لهذا تجد اللبناني واللبنانية بارزين (وبارزات) في الإعلام النفطي، فيما يغيب، أو قل يكاد، السعودي والسعودية والإماراتي والإمارتية. وكانت ثقافة مصر في الستينيات قادرة على إثبات وجودِها بوجه ثقافة «النهار» وما تروّجه من قيم ومن مفاهيم.

«مافيا الثقافة»

وما أُطلق عليه «مافيا الثقافة» في لبنان بارز على أكثر من صعيد، ومبدأ «روّجلي لأروّج لك» سائد وقاتل ثقافياً. فتجد الكاتب في ملحق «النهار» أو في جريدة المستقبل (أو الجرائد الأخرى) يطري على كاتب آخر في الجريدة نفسها، وصفحات «النهار» الثقافية تتفرغ للترويج لمنشورات دار «النهار»ـــ هو التناغم التجاري. «أهلية بمحلية»، والبادئ أظرف. وهذه الشبكة من العلاقات شبه المحرّمة بينهم تفسّر صمتهم عن تلك الدعوة المشينة التي أقامها فخري كريم ـــ المثقّف الرسمي لرئيس دولة الاحتلال في العراق ـــ ضد مجلة «الآداب»، لأنّ رئيس تحريرها، الرفيق سماح إدريس، كتب ما عدّه كريم بعيداً عن «النقد المباح». لم تردّ الصفحات الثقافية، ما عدا «الأخبار»، على فكرة «النقد المباح»، الصادرة عن مثقف وصاحب دار نشر. كان يمكن لمدرسة فرانكفورت الفلسفية أن تفرد فصلاً خاصاً لدراسة تسلّطيّة فكرة «النقد المباح» في كتاب أدورنو عن «الشخصية التسلّطيّة»، ومن يبيح لمن؟ لكن الصفحات الثقافية في إعلام آل سعود وآل الحريري مشغولة بالأهم. هاكم بول شاوول يكتب، ثقافياً، عن السنيورة: «برافو سنيورة يا صخرة الدولة والديموقراطية والسيادة» (المستقبل، 29 كانون الأول، 2007).
قررت جريدة «النهار»، من دون مناقشة، في الستينيات، أنها قادرة ومؤهلة، خلافاً للغير في لبنان والعالم العربي (يسمونه «الشرق» في لبنان تدليلاً على «أوروبيته» على ما نعتقد، لتقرير ماهية وتعريفات «الحضاري» و«الراقي» في الفن والأدب والسياسة. والذوق ليس فطرياً، فقد عشنا من دون صعوبة قبل انتشار مقاهي «الستاربكس» (يفخر اللبنانيون بارتياد مقاهيها إمعاناً في رفض الالتزام بمقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل، لأن مقاطعة إسرائيل بنظرهم سمة من سمات التخلف ومن ثقافة الموت التي ينبذها كريم مروة اليوم بعد أن مدحها بحماسة في التسعينيات)، قبل أن نُدجّن على إدمان مستحدث على مشروبات من مشتقّات القهوة. إن صنع الذوق جزء لا يتجزأ من الرأسمالية الحديثة، التي ترهن حتى العامل أسيراً للإنتاجية الاستهلاكية كما حلل هربرت مركوزه في كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» (أو ما سمّاه ماركس «الهوى الشهواني» بالسلع). وصنع الذوق «النهاري» كبير الأثر: هو الذي يقرر، مثلاً، أن منصور الرحباني، الذي ينجح في تسخيف وتسطيح حتى سقراط والمتنبي، هو شاعر ملهم بناءً على تلك القصيدة «بحبّك يا لبنان، يا وطني بحبّك». وهو، أي مصنع الثقافة اللبناني، الذي يريد أن يقرر ما يجب أن نأخذ من الغرب وما يجب أن يُهمل. والسلع المستوردة من الغرب أو من الخارج تتشوّه في لبنان، ويتحول بناءً عليه تشي غيفارا إلى رمز خالٍ من السياسة (هل من يعلم في لبنان أن الرجل كان ماركسياً ـــ لينينياً متزمّتاً وكان، بتعريفهم هم، لا يحبّ الحياة؟). وجريدة «النهار»، مثلاً، حوّلت محمد الماغوط إلى قومي لبناني إثر وفاته: لم تذكر أنه سمّى ابنته «شام» ـــ تحدثت فقط عن حبه للبنان ـــ، كان يمكن للواقعة أن تخدش آذان عنصريّي الجريدة وقرائها. وكما قال سعدي يوسف في رثاء سركون بولص، هم يتحدثون عن «رامبو مقتلعاً من متاريس الكومونة».
وجريدة «النهار» كانت ترفع من تشاء وتُسقط من تشاء بناءً على معايير استنسابية واعتباطية وشخصية، وسياسية طبعاً (تتحدث جومانة حداد، في حديثها المذكور أدناه، عن معايير «موضوعية»، بالحرف، في تقرير مَن مِن الشعراء والأدباء «يستحقّ»، بالحرف، أن يُكتب عنه (أو عنها) في القسم الثقافي في جريدة «النهار». وللأسف، فإن معايير جريدة «النهار» انتشرت في أكثر من مطبوعة في لبنان وفي العالم العربي. وتعظيم كل من يعمل في جريدة «النهار» هو ركن في صناعة «النهار» للثقافة، حتى رسوم بيار صادق الصبيانية في هزلها، والفجّة في مباشرتها، تصبح فناً رفيعاً ما بعده فن. وبناءً عليه، تصبح قصيدة شوقي أبو شقرا: «أزرع سفرجلاً في صالات السينما. الرجال قبل الظهر يتفرّجون، والنساء بعد الحمام الساخن»، أو «نام على ظهره، أثقل من زئبق، من بطاطا، رفع السلاح، رفع رجليه غصباً عنه، حبشة مذبوحة منتوفة، وشرواله كتّان أبيض. ثم طز» (من ديوان يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً) أدباً ثميناً يستحقّ، كما المعلّقات، أن يُُعلّق على شجر بلوط بيروت. طبعاً، إن الشعر والفن يخضعان للذوق، لكن الذوق، أو المتلقّي، ليس حراً في ظل الجور الطبقي وفي ظل سيطرة رأس المال (والاحتكار) الرجعي على صناعة الثقافة ـــ والدولة في لبنان لا تصنع الثقافة، ما عدا خطب طارق متري الحريرية، فهي أمّ الثقافة وأبوها، على أن لا تحيد عما يرسمه قصر الثقافة في قريطم). لكن هل يمكن أن تساءل شاعريّة شوقي أبو شقرا مثلاً، أو أن تنقدها، حتى وفق شروط «النقد المُباح» الذي يحدّده لنا فخري كريم؟ هناك حيّز هائل في الإعلام الثقافي السائد لنقد القصيدة العمودية أو القصيدة السياسية الملتزمة (ما عدا «ملحمة» يحيى جابر عن رفيق الحريري ــــ يا للحسّ الشعري المرهف ــــ. تأوّه معي الآن)، لكن لا يمكن لك أن تعارض ذوق «النهار» السائد. هل هناك من يستطيع أن يصرخ ـــ ضمن حدود الصراخ المُباح طبعاً حتى لا نتعرض لملاحقة قانونية من نصير حرية التعبير «المُباح»، فخري كريم ـــ معترضاً على مسرحيّات منصور الرحباني التي لا تختلف عن الإنتاج المسرحي لمدارس ابتدائيّة (وبميزانية أصغر بكثير لعدم حاجتها إلى استيراد فرقة سمفونية بحالها من أرمينيا بهدف إحاطة العمل بهالة يفتقرها مضموناً)؟

جمانة حداد وتحدّي الذكورية

هذه المقدمة ضرورية للحديث عن الإطلاق العرمرمي الضخم لكتاب جديد لجومانة حداد. فهي تملأ الشاشات والصحف، شئتَ ذلك أم أبيتَ. وكانت ضيفة في برنامج «خلّيك (مع الحريري) في البيت». يجب أولاً الإقرار بأن عمل النساء في الحقل الثقافي في لبنان وخارج لبنان (حتى في الغرب) يخضع لمعايير ومقاييس مجحفة بحق المرأة كإمرأة (تحدثت جومانة حداد عن مشاكل تعترض العمل في «المجتمع الذكوري»، إذ إنهم في لبنان يقيسون الغرب بمعايير مثالية، وكأن الغرب بعيد عن الذكورية أو عن البنية البطريركية ـــ محاولة هشام شرابي التمييز بين البطريركية وما سماه «البطريركية الحديثة» لم تكن ناجحة، وبدت مستقاة في إسقاطاتها من كتابات استشراقية مبتذلة تعزو إلى العالم العربي سمات استثنائية خاصة به، على نسق كتاب «العقل العربي» لرافييل باتاي، بالإضافة إلى أن تعميماته لم تكن مبنية على دراسات ميدانية ـــ. وروت لي الروائية الأميركية ميشلين ماركوم قبل نجاح روايتها الأولى أن وكيلتها الأدبية في نيويورك ابتسمت عندما رأتها للمرة الأولى وقالت: جيدٌ إنك جميلة. هذا يسهّل عملية الترويج لكتبكِفالعداء للمرأة كإمرأة، وتسليع المرأة وتسويقها جنسياً مشكلة عالمية، وإن اختلفت في أساليبها ولهجاتها). والحديث عن «أدب وشعر نسوي» ينمّ عن نرجسيّة ذكوريّة قاسية، وقد عانت منها على مر العقود كثيرات، من فدوى طوقان وغادة السمان وليلى بعلبكي وسعاد الصباح ــــ هل ستعيد نشر قصائد مديحها لصدّام ــــ وأحلام مستغانمي، وغيرهنّ.
والنظر إلى الأدب بناءً على عنصر الجنس ليس مرفوضاً من منظور دراسات ما بعد الحداثة الأدبية، ولكنه ينحو أحياناً نحو تنميط وتقييد إنتاج الأدب من جانب كاتبات وشاعرات. والنظر إلى المرأة، مهما كان عملها وشأنها، كجسد لا غير، صفة من صفات العنصرية الذكورية (كأن يكتب عباس بيضون مثلاً عن بنازير بوتو مركّزاً على جمالها وقامتها وأناقتها وطلّتها «الجنسيّة»، وهو أبدى سروراً لأنّها لم «تترهّل» قبل موتها). كما أنّ عنصر الكبت الجنسي يؤثّر في الترويج لكتابات معيّنة بناءً على رغبة شعبية في الإثارة الجنسية. وإلا ما معنى أن تجد كتاب نوال السعداوي «المرأة والجنس» على أرصفة أكثر من عاصمة، محاطاً بمجلات الإثارة الجنسية السوقية. وهذا العامل يؤثر حتى على كتّاب رجال: وكتاب نزار قباني «طفولة نهد» أطلقه شاعراً معروفاً قبل سنوات من كتاباته السياسية بعد حرب 1967. ولكن جومانة حداد لم تكن تريد أن تخوض في مسائل تتعلق بالعنصرية الذكورية، ربّما لأنّ مضيفها استهل الحديث بالاشمئزاز من النسويّات لأنهنّ «مسترجلات»، حسب تعبيره، أو «بشعات»، حسب تعبيرها هي.
والحديث مع جومانة حداد جرى على طريقة مقاهي الثقافة في لبنان. كان هناك تعداد للمآثر وتسميات ممهورة باسم «مصمّمين»، على طريقة الاقتناء التجاري، لأن اللبنانيين يبتاعون الأحذية والناس بناءً على إشارة الصنع، مما يجعل الخادمة الفيليبينية أغلى ثمناً من رقيق سريلانكا في بيوت الأحرار في وطن الصخب الشعاراتي. وشاهدنا في تقرير بُثّ أثناء البرنامج جومانة تمتّع ناظريها بالبحث عن اسمها في كشّاف «غوغل». وهي طلبت منّا أن نقبل ترجمة لها عن ترجمة أخرى، لأن الترجمة الوسيطة صادرة عن دار نشر غاليمار «المرموقة». وسمعنا أكثر من مرة في الحديث أنها تتقن سبع لغات (وثامنة على الطريق، حسبما قالت). والنرجسية ومديح الذات اللبنانية جزء لا يتجزأ من ثقافة «النهار».
فاللبناني، يقبر أمه، عبقري بالفطرة، وذلك لكثرة تناوله للبقدونس في الأطعمة المحلية. وما معنى «إتقان» سبع لغات؟ إنّ أيّ فرد درس أربع أو خمس لغات أو أكثر يجد أن الإتقان المتماثل مستحيل، وبرامج الدكتوراه في عدد من الجامعات هنا أو في ألمانيا لا تقبل زعم إتقان اللغات، بل تُخضع الطالب إلى امتحانات لغوية (وإن كان هناك تهاون في تلك الامتحانات). وروى المفكر العراقي محسن مهدي أنه ذهب لمقابلة المستشرق هاملتون غيب، الذي كان عضواً في مجمع اللغة العربية، بعد أن قبل منصب كرسي هاملتون غيب في جامعة هارفارد، ليجد أن غيب لا يستطيع الحديث باللغة العربية. ويجب على الشاعرة أن تحترم تلك اللغات عبر الإقرار بأن العيش في عدد من اللغات يكون بصورة تصاعدية، من اللغة الأم إلى اللغة الثانية، والثالثة،....إلخ، إلا إذا كان القصد إبهار المشاهد والمشاهدة بعبقرية اللبناني واللبنانية. وتعداد اللغات بتكرار المدّعى لا يخدم قضية، إلا جعل اقتناء اللغات مثل اقتناء الفساتين. وتعلّم وإتقان عدد من اللغات يحتاجان إلى عمل مستمر يختلف عن أسلوب حداد في الحديث عن السبع لغات، والثامنة القادمة.
وتحدثت جومانة حداد (بناءً على أسئلة جد ذكورية في سياقها) عن «جمالها» براحة وثقة شديدتين، زادتهما شهادات مهينة في التركيز على شكلها الخارجي من جانب متحدثين ومتحدثات في البرنامج ــــ من قال إن العنصرية الذكورية هي سمة ذكورية فقط. يُراجع هنا الكتاب العظيم لسيمون دوبوفوار «الجنس الثاني» أو كتاب جودث بتلر «مَشكَلة الجندرة» الذي لم يُترجم إلى العربية بعد ــــ من دون اعتبار مسألة الجمال مسألة نسبيّة. هي قالت أكثر من ذلك. فقد اعترضت على عبء «جمالها» لأن هناك من يفترض، حسب قولها هي، أن المرأة الجميلة هي تافهة، وأن «البشعة»، حسب ما قالت بالحرف، هي الذكيّة. فهي تريد، باسم ما تراه جميلاً، أن تدعوك إلى تقدير جمالها الخارجي والداخلي على حد سواء. لن نستفيض هنا. الحكم لكم (ولكنّ). لكنها أضافت حديثاً عن النسوية والأنثوية لا يعكس قراءة في الموضوع الثري فكرياً وفلسفياً، أو إلماماً به خارج ما يُكتب في الصحافة الهينة. فهي اعترضت على النسوية لأنها تطالب بالمساواة بدل انتزاعها، حسبما قالت. والمضيف لا يبدو مطّلعاً على موضوع النسوية ليجادل، فاكتفى بالاستماع، مشدوهاً، فاغراً فاه. هكذا تُختصر النظريات والحركات في لبنان. عناوين، مجرد عناوين. وكلام حداد عن النسوية كان بالنسبة إلى النظريات النسوية مثل علاقة سقراط بمنصور الرحباني (في حلقة سابقة من البرنامج المذكور، ذكر منصور أنه شديد الإعجاب بالشعر الصوفي والصوفية. سأله المضيف، مَن مِن شعراء الصوفية تفضل؟ كلّهم، أجاب فوراً. وبعد دقائق فقط من حديث الصوفية، سأله المضيف عن أهم شيء في الحياة. «صحن الحمص»، أجاب منصور. آه لو أن الحلاج اكتشف صحن الحمص قبل صلبه).
انتقدت حداد التعميمات، ولم تتحدث عن النسوية إلا بتعميم غير عليم، حتى لا نقول أكثر. أية نسوية تلك التي تحدثت عنها حداد بكليشيهات محرجة في افتقارها إلى المعرفة قبل الدقة؟ هل هي تتحدث عن النسوية الليبرالية أم النسوية الوجودية أم ما بعد الحديثة أم النسوية الماركسية أم العلم نفسية أم الانفصالية أم الاشتراكية أم الجذرية؟ الإنتاج النظري للتيارات النسوية غزير وغزير جداً لم يأتِ حداد منه إلا الحذر من المرأة «البشعة». أسعفينا يا جومانة ليستقيم النقاش والحوار. ما هي النسوية التي صوّرتها تصويراً كاريكاتورياً؟ ولماذا تتحول تيارات فكرية وفلسفية إلى عناوين من الكلام التبسيطي المختزل؟ كما أن الحركات النسائية (الليبرالية في بلد مثل أميركا أو الجذرية في أوستراليا أو الوجودية في فرنسا أو الاشتراكية في العراق أو في اليمن عندما كان سعيداً) لم تستعطِ المساواة أبداً، بل انتزعتها انتزاعاً، وفرضت تغييرات في القوانين. أستاذة القانون، والمفكرة النسوية كاثرين ماكنن، لم تستجدِ، بل فرضت الأخذ بقوانين جديدة في السبعينيات لتحريم الاعتداء الجنسي بأشكاله المختلفة.
وأضافت حداد أنها تفضل الأنثوية على النسوية. والنسوية سُبّةٌ في وطن الأرز حتى من جانب من يتعاطى في قضايا المرأة ــــ سارعت مثلاً ديانا مقلّد في برنامج «ترانزيت» إلى نفي نسويتها قبل أن تتحدث عن برامج تعدّها عن المرأة لمحطة «أخبار ودموع» لعائلة من «يحسب أن ماله أخلده» ــــ. وهناك نسوية مزيفة (شبيهة بالنسوية المُستعمِرة التي تحدثت عنها ليلى أحمد في كتابها الهام عن المرأة في الإسلام)، وهي ظاهرة للعيان في برنامج سعاد قاروط العشي على محطة الـ«أن.بي.أن.»، حيث لا تظهر المرأة العربية إلا شاكية باكية، أي غير فاعلة، لنستعمل مفهوم سيمون دو بوفوار في هذا الخصوص. وفات جومانة حداد أن تلاحظ أن علم النفس الحديث (لا يزالون في لبنان أسيري وأسيرات علم نفس فرويد في عنوانه العريض) يرى الأنثوية والرجولية بنياناً اجتماعياً خارج علم أو موروث الطبيعيات. لها أن ترى نفسها ما تريد، ولها أن تنبذ النسوية والنساء «البشعات» ــــ حسبما قالت هي، فتحديد الجمال مسألة تقررها جريدة «النهار» وكتّابها ــــ لكن الكلام على حركات فكرية وسياسية كان لها أكبر الأثر في طريقة التعاطي الاجتماعي والقانوني بين الجنسين حول العالم يجب ألا يفتقر إلى درجة من العلمية، وخصوصاً من جانب من يشرف على القسم الثقافي لجريدة صنع الثقافة اللبنانية الرسمية. وأضافت حداد، ومن استُدعي لإغداق المديح عليها، كلاماً عن التمرّد وعن كسر المحاذير. لم نتبيّن معالم كسر المحاذير في الحديث، إلا إذا كان النقد اللطيف عن سطوة الدين تمرداً. لكن لبنان تتحول فيه تظاهرات طائفية إلى ثورة، وتتحول فيه خزعبلات سعيد عقل إلى «فلسفة»، ويتحول فيه السنيورة إلى «رجل دولة»، ويتحول طبق التبولة إلى دليل قاطع على التفوّق الجيني للشعب اللبناني. فإطلاق الصفات اعتباطاً بات سمة أساسية من الثقافة المهيمِنة، وخصوصاً أن الأسطورة اللبنانية المؤسسة عوّضت غياب معجزة تاريخية باختلاق المعجزات وإطلاقها من على صفحات جريدة «النهار»، كما عوّضت مسرحية فخر الدين (الذي جُرّ مغلولاً بالأصفاد إلى الآستانة) شن حرب استقلال وطنية حقيقية، ـــــ أو حتى دفاعية ــــ لكن أصبح للبنانيين واللبنانيات مشهد تدمير مخيم نهر البارد للافتخار الوطني.
طبعاً، ليس من الإنصاف التركيز على جومانة حداد دون غيرها، لكنها هي تحدثت ضد الإجماع وضد (لا)منطق 99.99. لكن هل ثقافة جريدة «النهار» إلا تعبير عن ثقافة الـ99.99 وعن الإجماع المسيطِر؟ وكانت «النهار» في الستينيات تعبّر بخجل عن انتقادات ليبرالية محدودة للدولة والمجتمع، لكنها اليوم منبر من المنابر الحريرية (القوّاتية) المنتشرة. والكلام عن التمرد من خلال جريدة «النهار» شبيه بالكلام عن الثورة في داخل مجمع تجاري في دبي، أو بالكلام عن الجمال وسط رهط من الضفادع، أو هي مثل الدفاع عن نسق مبتكر من «اليسارية» ــــ من جانب الرفيق (السابق) إلياس زهرا ــــ في... جريدة المستقبل. وإذا كانت حداد ترى أن «مجادلتها» للّه تُعدّ تمرّداً، فأين هي من أغاني مهيار الدمشقي لأدونيس، أو ما كتب أمل دنقل (المُهمل في لبنان، ربما لأنه رفض الصلح مع إسرائيل) في «كلمات سبارتكوس الأخيرة». ثم ليس تناولها لـ«ليليت» من الجدّة كما يفترضون (أو يفترضن) في لبنان. فالموضوع شغل قصيدة للشاعرة الكندية جوي كوغاوا قبل عقد من «اكتشاف» حداد.
لم ألتق بجومانة حداد قطُّ. بعثت لها برسالة إلكترونية أثناء العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان (عندما كان سعد الحريري يطلب وساطة من رئيس قبرص برفقة باسم السبع، الذي مشى في 2003 شابكاً يده بيد رستم غزالة في مسيرة «تأييد ومبايعة» لبشار الأسد)، سائلاً عن سبب تجاهل صفحات القسم الثقافي في «النهار» لأتون النار المستعر. أجابتني جومانة حداد. شرحت أنّها... ليست قومية عربية.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: www.angryarab.blogspot.com)