رشيد ثابت
ما زال تراث وفولكلور التبعية بخير. تاريخ التبعية الرسمية العربية لأميركا يجدّد نفسه كل بضع سنوات بالصور نفسها والمظاهر نفسها. هل هناك فرق بين زيارة جيمي كارتر لقاهرة السادات بعد «كامب ديفيد» وزيارة طوني بلير لأرض عمر المختار بعد شحن المفاعل النووي إلى الولايات المتحدة؟ وبأي شيء تختلف زيارة كلينتون إلى غزة عن زيارة بوش إلى رام الله؟
في الحقيقة هناك اختلاف. في غزة كان لدينا ميثاق لنلغيه في جلسة لم تخلُ مجرياتها من طرافة؛ أما في رام الله، فلم يعد هناك من شيء نتنازل عنه ــــــ بعد 15 سنة تنازلات ــــــ وأيضاً كان الجوّ في المقاطعة ثقيلاً ويفتقر «إلى خفة دم» الختيار وهو يدير حفل إلغاء الميثاق... هذا رغم تسابق مسؤولي السلطة إلى الضحك وفرج الأسارير والتنكيت أيضاً.
لكننا حقّقنا أولى خطوات تجسيد الدولة الفلسطينية وأشراط السيادة. هل رأيتم كم كانت السجّادة الحمراء طويلة؟ صحيح أن بوش وصل رام الله بسيارة؛ لكنه أكل من فتّوشنا وكبّتنا وأرزّنا. صحيح أن «مازتنا» وسلطتنا صنعت في آنية أميركية؛ وصحيح أن المسلّحين الأميركيين احتلّوا المقاطعة وأُخرِجَ معظم الفلسطينيين منها لأسباب أمنية؛ لكن كلّ ذلك سهل إذا كان سينتهي بأن تقوم لنا دولة. بل يهون علينا ألّا يزور بوش قبر الراحل عرفات ما دمنا سنأخذ دولة (كما قال نبيل عمرو). لكن بصراحة عز عليَّ أن الأميركيين جاؤوا معهم بخمسة عشر كلباً بوليسيّاً لأغراض أمنية.
صحيح أن بوش عزيزٌ وغالٍ؛ لكن ليس لدرجة الاستهانة بالكلاب البلدية. أملنا في كلابنا الوطنية ألا تكون «زعلت» وأرجو أن تكون قد تفهّمت الموقف من أجل المصلحة الوطنية العليا وفي سبيل أن تقوم لنا دولة...
كذلك لم يكن هناك من داعٍ لأن يردّد أكثر من مسؤول فلسطيني بين يدي الزيارة عبارة «ضرورة عدم رفع سقف التوقّعات»؛ فشعبنا المنكوب متعوّد الحزن و«يعزّ» الزعل والغمّ مثل أمه وأبيه؛ وهو «بلا مؤاخذة» عاش خمس عشرة سنة تفاوض ورأى كيف أن الزيارات والمؤتمرات لا تأتي بإنجاز.
لكنّ الغريب أنّ أوّل من كسر هذه الدعوة هم أصحابها؛ وراح القوم من سياسيين وإعلاميين يعيدون الكلمات القديمة نفسها عن «الزيارة التاريخية» و«اللحظة التاريخية» و«الدفعة الجديدة لعملية السلام» وما إلى ذلك من مفردات قاموس مدريد وأخواتها. وبلغت المسألة ذروتها في رسالة كتبها عمودٌ من أعمدة إعلام «الثورة الفلسطينية» يطلب فيها من السيد بوش بكلّ لباقة أن يمنح الفلسطينيّين دولة: دولة لأن الفلسطينيين يريدونها، ولأنه بذلك يمكن استعادة غزة كما قال.
لم نكتف بخداع أميركا لنا طوال الوقت بل رحنا نخدع أنفسنا. للأسف، هكذا كان... فإذا كان الإعلام الغربي ينقل عن بوش أنه قال «من الضروري ومن الممكن ولا شك أن يكون هناك اتفاق على دولة فلسطينية في الوقت الذي أنهي فيه فترتي الرئاسية»، فمن هذا الذي حوّلها إلى ما اشتهر في أكثر وسائل الإعلام العربية من أن بوش قال إنه «يمكن ويجب أن تقوم دولة فلسطينية قبل نهاية 2008»؟. من هم لصوص الكلام والمواقف هؤلاء الذين من مصلحتهم خداع أنفسهم وخداع الشعب الفلسطيني وتحويل «تنبّؤات» بوش غير الملزمة إلى كلام ذي صبغة إجبارية؟
ضيفنا أيضاً سمع من أولمرت أن الاستيطان في القدس غير الاستيطان في غيرها وسكت؛ وأسمعنا في مقرّ المقاطعة أن هناك بؤراً استيطانية غير قانونية ــــــ وبالتالي هناك منها ما هو قانوني ــــــ وسكتنا. فضلاً طبعاً عن إسقاطه حق العودة وحديثه عن التعويضات؛ وبصرف النظر عن أن الدولة التي يتنبّأ بها زعيم الكاوبوي هي دولة حدودها غير معروفة، وموعد قيامها غير مضمون؛ وسيادتها في علم الكيان، فهل يذكّركم هذا بحدث مشابه؟ مشروع دولة «كامب ديفيد 2» مثلاً؟
ليس فولكلور التبيعة وحده إذًا بخير. تراث العملية التفاوضية لا يزال هو الآخر حيّاً ويكرّر نفسه بانتظام؛ فطِب يا أيها النظام الرسمي العربي نفساً!