حسن شقراني
ماذا اقترف «حمامة فيتنام» بحقّ أميركا والعالم؟

المقاربة بين الترويج لاحتلال العراق والتسويق لاستراتيجيّة تقدّمية للمواجهة خلال أيّام الحرب الباردة، تمثّل مدخلاً أساسياً لتوصيف الماكينة الفكريّة «الدفاعيّة» لدونالد رامسفيلد. فقليل من الناس يعرفون عن النقاشات المُرّة التي دارت في أروقة إدارة الرئيس جيرالد فورد ودهاليزها، حيث كان رامسفيلد سيّداً للبنتاغون قبل ربع قرن. فالنمط السلمي الذي اتّبعه الرئيس ريتشارد نيكسون في التعاطي مع الخطر الشيوعي لم يعد ملائماً لمجمّع الصناعات العسكريّة.
مستشار الأمن القومي هنري كيسينجر كان حينها يعدّ ملحقات تدعم اتّفاقيّة «الحدّ من الأسلحة الاستراتيجيّة» في ظلّ وصول حرب فيتنام إلى نهايتها واعتبار أنّ «أميركا أخيراً في سلام». والفرقاء المنزعجون من هذا التوجّه لم يعد يروقهم الهبوط المستمرّ في موازنة وزارة الدفاع. وبالتالي كان لا بدّ من اعتماد نمط آخر: الترويج لخطر محدق (موجود أساساً) متزايد على الأمن القومي الأميركي.
عندما عرض فورد على رامسفيلد المنصب الأعلى في البنتاغون، عام 1975، استشار الأخير رجلاً، وصفه لاحقاً بأنّه «صديق حميم»، يُعتَبَر المنسّق لسياسات الأمن القومي خلال عقود، بول نيتز. الأخير أوعز بطبيعة الحال بالقبول، غير أن تولّي مهمات الدفاع عن أميركا يستتبع تغيير النمط السائد في الإنفاق العسكري. وهو الأمر الذي وفّرته رؤية كان وضعها نيتز في خمسينيات القرن الماضي (عبّر عنها التعبير الأكثر جلاءً «تقرير غايثر»)، وتفترض بالمطلق أنّ القدرة العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة للسوفيات كانت تكبر بمقدار لن تستطيع الولايات المتّحدة مجاراتهم فيه (وخصوصاً أنّ المعسكر الشيوعي سيكون لديه «قريباً» قدرات على إطلاق ما لا يقلّ عن 500 صاروخ نووي طويل المدى نحو الولايات المتّحدة).
تقارير وكالة الاستخبارات الأميركيّة كانت تشير في حينه إلى تضارب مع التيار الذي أصبح في ما بعد محور سياسة المحافظين الجدد. غير أنّ الرضوخ الذي أبدته إدارة الرئيس جون كينيدي إزاء «الفجوة» التي صوّرها نيتز (وصفها في ما بعد وزير دفاع كينيدي، روبرت ماكنمارا، بأنّها «كانت لمصلحتنا») كان محتّماً لدى سيّد البيت الأبيض بعد ولايتي ليندون جونسون وريتشارد نيكسون.
ولاية نيكسون لم تكن فارغة من «مكيافيليّة» رامسفيلد (التي تحدّث عنها لاحقاً العديد من زملائه لدى توصيفهم لمنحى تصرّفاته وخياراته في إطار منطق «الوصوليّة» في الإدارات التي خدم فيها)، فـ«الرؤية الاجتماعيّة» التي كان جونسون قد وضعها من أجل محاربة الفقر وعبّرت عنها برامج خاضعة لمكتب «الفرصة الاجتماعيّة»، وأهمّها «البرنامج الفدرالي للخدمات القانونيّة» الذي سعى إلى «مساعدة المحتاجين في تحصيل حقوقهم القانونيّة»، لم تكن تعني الكثير للرئيس الجمهوري، وأبرز طريقة لكبح جماح تطوّرها كان تعيين «ذلك النذل الصغير الشرير» (التعبير لنيكسون)، رامسفيلد، على رأس البرنامج الفدرالي.
السياسي المهووس بحلم التمتّع بامتيازات المكتب البيضاوي، لم يترك مفترقاً إلّا واستغلّه لمحاربة وتشويه سمعة المنافسين أو المناوئين لتوجّه كان قد أقرّه هو في محيط نفوذه السياسي المطلق أو أينما يستطيع التأثير. وهذا النمط من التعاطي العدائي إلى الحدّ الأقصى، اتّبعه رامسفيلد في كل مهماته في الإدارات التي عمل فيها.
طرْد المناوئين كان لمصلحة مقرّبين محدّدين. وهنا يبرز اسم ديك تشيني. والعلاقة بين الاثنين كانت، بحسب المراقبين، محكومة بديناميّة محدّدة وبسيطة: رامسفيلد يأمر وديك يطيع. ويقول كاتب خطابات الرئيس فورد، روبرت هارتمان، إنّ «حياة تشيني في سنّ البلوغ كانت في معظمها مخصّصة لدراسة العلوم السياسيّة وخدمة رامسفيلد».
لدى ازدياد حدّة التوتّر بين موظّفي إدارته، وخصوصاً حول موضوع الحرب في فيتنام (كانت لرامسفيلد رؤية مفادها أنّه يجب إنهاء الحرب بسرعة وهو ما مثّل تضارباً مع رؤية كيسينجر في حينها وولّد خلافات معقّدة، زاد تعقيدها إعجاب الرئيس بالأداء العدائي لرامسفيلد وقدرته على اكتشاف «المناوئين»)، قرّر نيكسون إبعاد رامسفيلد عن الساحة السياسيّة الداخليّة، فوفّر له منصب سفير الولايات المتحدة إلى «حلف شمالي الأطلسي» في بروكسل.
«السفير رامسفيلد» خلال فترة بُعده عن الحراك السياسي في واشنطن كان «موالياً لأوروبا» و«صديقه العزيز» في بلجيكا كان نظيره الفرنسي. وما تثيره هذه الملاحظة هو أنّ «رامسفيلد وزير الدفاع» عام 2003 وصف القارّة العجوز بأنّها «أوروبا قديمة» بسبب موقف بلديها الكبيرين، فرنسا وألمانيا، الرافض لغزو العراق.
بعد «فضيحة ووترغيت» وذيولها، عاد رامسفيلد إلى واشنطن بقوّة وبدفع أكبر، وكان ينتظره بطبيعة الحال منصب وزير الدفاع في إدارة فورد. وفي تلك الفترة كان توجّه اللوبي اليهودي يتحوّل من تقليص النفقات العسكريّة في الوزارة إلى زيادتها. وللإشارة، يذكر جونسون قول أحد الحاخامات له خلال زيارة عام 1967، إنّه لا يجب عليه إرسال «مفكّ براغٍ» واحد إلى فيتنام بينما يجب تحريك حاملات الطائرات الأميركيّة عبر مضيق تيرانا من أجل مساعدة إسرائيل.
هذا التوجّه مثّل ولادة تيّار جديد في الولايات المتّحدة، أصبح في ما بعد اللوبي الأقوى في تاريخ الولايات المتّحدة وضمّ «المحافظين الجدد الحقيقيّين»، على حدّ تعبير المستشار السابق للأمن القومي، ريتشارد ألن. الأخير كان عنصراً بين أعضاء تلك المجموعة التي لم تكشف عن نفسها (من بين أفرادها مديرون سابقون في شؤون الدفاع على شاكلة مؤسّس شركة الكمبيوتر «هوليت بيكارد» دايفيد بيكارد) إلا خلال استعداد فورد لترك المكتب البيضاوي، كي يتسلّم الديموقراطي جيمي كارتر زمام الأمور. تلك المجموعة سُمِّيت «لجنة الخطر المحدق» ومؤسّسها ومهندس توجّهاتها لم يكن سوى نيتز، «الصديق الحميم» لرامسفيلد والمقرّب من كارتيلات الصناعات العسكريّة.
الأعوام اللاحقة التي شهدت بناء رامسفيلد لثروته من خلال عمله لمدّة 8 سنوات في شركة الأدوية «سيرل» وتضمّنت استحقاقات شهدت نجاحاً وفشلاً بين الحين والآخر. مسيرة يفنّدها أندرو كوكبرن بحرفيّة قصصية استقصائيّة ليرفع الستار عن «أمير حرب مكيافيلي» شارك في بلورة العقيدة المحافظة الجديدة، وطُرد من معقلها (إدارة الرئيس جورج بوش الابن) عام 2006، لإخفاقاته الكثيرة في بلورة حججها في احتلال العراق.
* من أسرة الأخبار






العنوان الأصلي
rumsfeld his rise fall and catastrophic legacy
الكاتب:
أندرو كوكبرن
الناشر
scribner