strong>نزار صاغيّة *
القرار الصّادر عن محكمة التمييز، بتاريخ 6-9-2007، بنقل دعوى اغتيال الحريري من المحقق العدلي القاضي الياس عيد للارتياب المشروع، كشف النقاب، للمرّة الأولى، عن ممارسة مزمنة وشديدة الخطورة من شأنها أن تولّد ارتياباً مشروعاً بارتهان قضاة كبار بجهاز أمنيّ. فكتاب المديريّة العامّة للأمن العامّ الذي أثبت أنّ المحقّق القاضي الياس عيد تقاضى منها قسائم بنزين بكميّة /300/ ليتر شهريّاً (قيمتها تقارب خمسة آلاف دولار أميركي أي ما يوازي ضعفي راتبه)، وذلك بشكل متواصل منذ 2003 (أي منذ كان اللواء جميل السيّد أحد الموقوفين في الدعوى المذكورة مديراً لها)، وأثبت في الوقت عينه أن لوائح المستفيدين من قسائم البنزين والمسماة «لوائح التسهيلات والخدمات التي يقوم بها الأمن العامّ» شملت أسماء قضاة آخرين استفادوا من كميّات أقلّ أو أكبر وفقاً لرفعة مناصبهم، وما كل ذلك لسبب معروف ما خلا تقدير المدير العام، وبمعزل عن أيّ معايير موضوعية تتصل بالمصلحة العامة.
وعلى فرض صحّ كتاب مديريّة الأمن العام بأنّ عدد القضاة المستفيدين محدود (أحد عشر قاضياً فقط منذ 1999)، فإنّ من الصحيح أيضاً أن القضاة المعنيين بهذه «المنّة» تولّوا أو يتولّون أعلى المناصب القضائيّة وأكثرها حساسيّة وتأثيراً، أمثال رئيسين سابقين لمجلس القضاء الأعلى أي «ممثلي السلطة القضائية» في البروتوكول اللبناني (وهما السيدان نصري لحود ومطانيوس الخوري)، ونائبين عامين تمييزيين أحدهما سابق والآخر حالي (وهما السيدان عدنان عضّوم وسعيد ميرزا) أي أعلى ممثلي «الحقّ العامّ»، وتالياً الأكثر تأثيراً في الحقل الجزائي. وإنّ من الصّحيح أيضاً في الكتاب المذكور أنّ هذه الممارسة لم تتواصل بعد استقالة اللواء جميل السيّد وانسحاب الجيش السوريّ وانطلاق «مسيرة الإصلاح» فحسب، بل أيضاً على ما يظهر ــــــ وهنا الكارثة ــــــ (وأتمنى أن أكون على خطأ) على رغم افتضاحها! وتالياً، إذا كان توزيع «القسائم» فضيحة بحدّ ذاته، فإنّ ردود الفعل (على اختلافها، أثناء المحاكمة المتصلة بنقل القاضي عيد وبعدها) الآيلة كلها الى تحجيم قضية «استتباع القضاة»، بل إهمالها، تطرح هي الأخرى أسئلة لا تقل خطورة بشأن ما آل إليه «مبدأ استقلالية القضاة».
فعلى صعيد الخطاب المعتمد من فرقاء الدعوى في المحاكمة المذكورة، نلحظ أنّ الجميع ناقش، كل من وجهة نظره، مسألة توزيع القسائم من باب مدى تأثيرها في حياديّة القاضي عيد في تحقيقات الحريري إزاء أطرافها (وتحديداً إذا كانت مؤثرة في حيادية القاضي إزاء أطراف الدعوى فتنقل القضية أم لا فلا تنقل) بمعزل عن أيّ أمر آخر، وخصوصاً بمعزل عن استقلاليّة القاضي أو أخلاقيّاته. وهذا ما نقرؤه في ردّ القاضي عيد نفسه على الدعوى الآيلة الى نقله: فهو أقرّ صراحة وبالفم الملآن بأنه استفاد ولا يزال من القسائم منذ شباط 2003 وتالياً ليس فقط في ظلّ تولي اللواء السيد مديرية الأمن العام، بل أيضاً في ظلّ ولاية خلفائه وأن قضاة آخرين استفادوا من قسائم مماثلة وأن هذه الأموال هي أموال عامة(!!) وليست أموالاً خاصّة للواء السيّد ليخلص الى القول بأن هذا الواقع لا يشكل بأية حال رابطاً مميّزاً بينه وبين اللواء جميل السيد أو تصرّفاً «مريباً» يوحي باتخاذه موقفاً منحازاً تجاه أحد المتقاضين يجرّده من صفة النزاهة والعدالة، بل إنه ذهب الى حدّ مطالبة المدعين في دعوى ردّه بتعويضات للمساس بسمعته!
هكذا وبكل بساطة! ومن دون أن يكلف القاضي نفسه عناء الإدلاء بأيّ مبرر لإفادته من هذه «المنة» التي توازي تقريباً ضعفي راتبه، لا بل من دون أن يكلف نفسه محاولة التوفيق بين هذا التصرف وأخلاقيات القاضي الذي يفترض به أن يكون بأقل تقدير مستقلاً، وخصوصاً إذا تولّى التّحقيق في إحدى أخطر القضايا العالقة أمام القضاء اللبنانيّ!! بل كأنّما يكفي أن يصدر الخطأ عن جهاز رفيع كالمديرية العامة للأمن العام وأن يتناول مالاً عاماً وأن يقع فيه قضاة من ذوي الشأن ليصبح أمراً عاديّاً، فيما المعضلة تكمن تحديداً في اجتماع هذه الوقائع المدلى بها، أي في سعي جهاز أمنيّ الى استتباع القضاة بواسطة المال العامّ!! فأبعد من مدى تأثير تقاضيه القسائم في حياديته إزاء اللواء السيد، ألا يشعر القاضي بأنه متّهم بتقاضي أموال عامّة من جهاز أمنيّ من دون مبرّر، وأنّ الأحرى به هو الدفاع عن نفسه في حال وجود مبررات وإلا فالاعتذار وردّ الأموال العامة والاستقالة صوناً لكرامته ولكرامة القضاء؟
وتحجيم أبعاد قضية القسائم على هذا النحو (أي مدى تأثيرها في حيادية القاضي إزاء أطراف الدعوى حصراً) يظهر أيضاً في دفوع وكلاء اللواء جميل السيّد (المشابهة لدفوع القاضي وخصوصاً لجهة خلوّها من أيّ مبرّر لتخصيص القاضي عيد بهذا الكمّ الهائل من المال العامّ). ويظهر في دفوع طالبي نقل الدّعوى الذين حصروا دعواهم في الطعن في حياديّة القاضي من دون أيّ التفاتة لمدى خطورة هذه الممارسة بحدّ ذاتها.
لا بل إنّ محكمة التّمييز ــــــ التي قررت نقل الدعوى للارتياب المشروع ــــــ ارتضت هي أيضاً تحجيم «القضيّة» ومعالجتها ضمن أضيق إطار ممكن. فهي رأت لزاماً عليها أن تعلن في متن قرارها موقفها المحايد إزاء مسألة أخلاقيّة القاضي أو سلوكيّاته ومنها استقلاليّته إزاء أيّ تأثير خارجيّ. وهكذا نقرأ: «الارتياب المشروع لا يتناول تقويم سلوكيّة القاضي المشكو منه ومدى انطباقها أو عدمه على القواعد الأخلاقيّة وتلك المتعلّقة بالمناقبيّة القضائيّة، إذ إنّ ذلك يعود شأنه للملاحقة التأديبيّة في حين أنّ مبرّر نقل الدّعوى للارتياب المشروع يبقى متحقّقاً حتّى ولو لم يكن يشوب سلوكيّة القاضي أيّ عيب أخلاقيّ أو مناقبيّ، فيكفي أن ينبئ تصرّفه بما يثير الشكّ في حياده (إزاء المتقاضين)..». وهذه الحيثيّة التي توحي بإرادة المحكمة التقيّد بإطار النزاع من دون أيّ استفاضة، والابتعاد عن أي موقف قيمي بشأن الممارسة المذكورة بحد ذاتها، تقبل ــــــ بما تقوله أو لا تقوله ــــــ الانتقاد من أبواب ثلاثة:
ــــــ أوّلاً، أنّ الحيثيّة توحي بأنّ عناصر الارتياب المشروع بحيادية القاضي تحققت بسبب تقاضيه هبات من جهاز كان يديره اللواء السيّد وهو أحد فرقاء الدعوى، ما يوحي بوجود رابط مميز بينهما. وتالياً، جاز القول عن طريق التأويل العكسي إن عناصر الارتياب ما كانت لتتحقق لو لم يكن اللواء السيد طرفاً في الدعوى أو لو تقاضى المحقق هبات من جهاز آخر أو لو تقاضى هبات من الجهاز نفسه فقط بعد انتهاء ولاية اللواء كما هي حال النائب العام التمييزي. ففي هذه الحالة، تكون المسألة مسألة مناقبيّة تخرج عن اختصاص المحكمة وليست مسألة حياديّة! والواقع أن ترك المجال مفتوحاً لتأويلات مشابهة في قضية بخطورة قضية الحريري تكثر فيها احتمالات التدخل السياسي هو، بتقديري، غير صائب. ففي حالات مماثلة، يكون الارتياب المشروع متحققاً فور ثبوت أدنى دليل جدي على احتمال ارتهان القاضي بأي جهة كانت!
ــــــ ثانياً، أن المحاكم المعاصرة (وخصوصاً المحاكم العليا) درجت في معرض إصدار أحكامها على إبداء آراء وملاحظات «ولو استطراداً، أو على سبيل الاستفاضة»، وذلك من باب التصويب أو الإدانة، في مسائل تجابهها أثناء الدّعوى المعروضة عليها كلما استشعرت حاجة الى ذلك، تأكيداً لدور القاضي الرائد في مجتمعه، وخصوصاً لجهة صون العدالة. وهذا الأمر ينطبق بشكل خاص في القضية الحاضرة حيث إنّ المحكمة شهدت خلالها للمرّة الأولى إعلان «فضيحة» بهذا الحجم، ما يجعل «الكلام» واجباً.
ــــــ ثالثاً، أنّ المحكمة خرجت أصلاً عن إطار الدّعوى الضيّق حين صرّحت بأنّ نقل الدّعوى من القاضي بسبب الارتياب المشروع لا يعني بالضرورة تشكيكاً في سلوكه أو مناقبيّته، ما لم تكن مضطرة إلى التصريح بذلك، وأنها إذا أعلنت ذلك استشعاراً لحاجة بحفظ كرامة القاضي في معرض حكمها، فإنه كان يتوجب عليها إدانة الممارسة المذكورة من باب أولى صوناً لما هو أعظم شأناً أي كرامة القضاء.
وأخطر من الخطاب السّائد أثناء المحاكمة، الخطاب العامّ الذي تلاها. فبين مؤيّد للقرار ومعارض له (وغالبهم لأسباب تتصل بتوقيف الضباط الأربعة و/أو لأسباب سياسية ملازمة لمسألة التوقيف)، خلا الخطاب العامّ (وخصوصاً الرسميّ) لأربعين يوماً حتى الآن من أيّ استياء إزاء الممارسة المذكورة. فلا بيان يصدر عن مجلس القضاء الأعلى (الضّامن الأول لاستقلاليّة القضاء) للمطالبة بوقف هذه الممارسة وبإجراء تحقيق شامل لمدى شيوعها داخل الأمن العام أو داخل أي جهاز حكومي أو غير حكومي آخر وبأقل تقدير بإجراء ما يلزم للتحقيق مع القضاة المستفيدين منها. ولا بيان يصدر عن وزارة العدل لتأكيد حرصها على صون القضاء في وجه التدخلات الخارجية، ولا عن وزارة الداخلية أو الأمن العام لإعطاء تفسيرات واضحة، وعلى الأخصّ لإعلان وقف هذه الممارسات، ولا عن أيّ من الكتل النيابيّة أو الأحزاب أو الشّخصيات العامّة، ولا حتّى عن القضاة الذين وردت أسماؤهم في اللوائح. وكأنّما استقلاليّة القضاء مسألة نافلة لا تعني أحداً وليس لها أيّ وظيفة اجتماعيّة في النّظام الجديد!! والى ذلك، أسئلة عدة لا بد منها على صفحات الصحف وفي التلفاز: ماذا يعني أن يتقاضى قضاة قسائم بنزين بهذا الحجم، وما مدى تأثير ذلك في أعمالهم؟ ما مدى تأثير ارتهان النيابات العامة بالأمن العام في حماية الحقوق والحريات، ولا سيما بما يتصل بالأطراف الأضعف اجتماعياً، أي الخدم الأجانب واللاجئين الذين غالباً ما تتقرر مصائرهم في ردهات الأمن العام بإشراف يخشى أن يكون في ظل هذه الممارسة شكلياً من النيابات العامة؟ وما مدى تأثير كل ذلك في ثقة الناس بالقضاء وفي ثقة القضاة بزملائهم الأعلى درجة، ولا سيما بمن بات يدير بالنيابة عنهم قسماً كبيراً من شؤونهم باسم «استقلال القضاء»؟ وقد يقول قائل: ما العجب؟ انزلاقة إضافيّة في ظروف التأزم السياسيّ (أو ربما في زمن الانحطاط)! نعم، لكنّها من المؤكّد الانزلاقة الأكثر
إيلاماً!
* محامٍ وباحث قانوني