ألكسندر أدلر *
  • ترجمة أرنست خوري

    «تأبى المصائب إلا أن تأتي دفعةً واحدةً». قد ينطبق هذا القول على الوضع الباكستاني اليوم، أكثر مما ينطبق على أي حالة أخرى. فبعد أن توتّرت الأوضاع الداخلية الباكستانية بشكل عنيف خلال الأسابيع القليلة الماضية، جاءت الاعترافات الفضائحية من معتقل غوانتانامو على لسان القائد العسكري لتنظيم القاعدة خالد محمد شيخ، لتسلّط الأضواء على تورّط الأجهزة الأمنية السرية الباكستانية في أعمال «الإرهاب الإسلاموي». وسط هذه العاصفة، كان الجنرال ـــ الرئيس، برويز مشرّف قد نجح حتى الآن، في إيجاد نوع من الاستقرار السياسي النسبي في بلاده، من دون أن يبتعد عن عين الإعصار. بتعبير آخر، فعل ذلك باعتماد خطاب متناقض وغير متناسق، يرضي الإسلاميين المنظّمين جدّاً من جهة، من دون أن يُغضب الحليف الأميركي المزعوم من جهة أخرى. يبدو أنّ هذا التوازن الهشّ وصل الى حدوده القصوى اليوم.
    وبحسب القاعدة، تشقّ الضرورات التاريخية طريقها من خلال المصادفة: في هذا السياق، يُعدّ السلوك الذي سارت به المحكمة الباكستانية العليا التي يرأسها القاضي شودهاري، مناقضاً تماماً لـمشرّف في ما يختصّ بقضايا تتعلّق بالحريات الأساسية، وتحديداً باعتقال الناشطين الإسلاميين في تنظيم القاعدة وتسليمهم بطرق فوق ـــ قانونية لفرق التحقيق التابعة لوكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (السي أي إي)، الذين بدورهم، وزعوهم على مراكز اعتقال غير قانونية في كل بلدان العالم.
    في الوقت الذي تحوّلت فيه انتفاضة السلطة القضائية في باكستان الى صفعة قوية للرئيس، وتزامناًَ مع بلوغ نقمة المؤسسة العسكرية ذروتها ضدّ سياسات التسوية والتنسيق الملموستين مع الإدارة الأميركية والجار الهندي، كانت ردّة فعل مشرّف عنيفة بإقالة رئيس المحكمة العليا وثلاثة من معاونيه من مناصبهم. أما الآن، فهو يحاول مواجهة انتفاضة الجهاز القضائي التي تفرض إضراباً عاماً على المحاكم، ممّا يتسبّب منذ فترة بشلل عمل مؤسسات السلطة، وهو إضراب يدعمه رأي عام يقف بشدّة الى جانب «دولة القانون».
    يفهم القارئ بوضوح، أنّ المسألة تتعلّق بارتباط عوامل لا يجمعها سوى التناقض: ليس القضاء الباكستاني ذا سمعة عظيمة في ما يختصّ بالاستقلالية والنزاهة والترفّع عن التدخلات السياسية في عمله. لكنّ السلطة الثالثة قرّرت في هذه المسألة، أن تقف الى جانب التيار الإسلامي الذي يكسب التأييد المستمر في أوساط المواطنين باضطراد، أضف قرار المؤسسة القضائية تلك، بأن تضغط بصرامة على النقطة الأكثر حساسية في التحالف الذي يثير النقمة بين الولايات المتحدة وباكستان، وهي تمركز فرق وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية فوق الأراضي الوطنية الباكستانية.
    إنّ سلوك مشرّف لم يغضب الإسلاميين فحسب، بل أيضاً أثار وبشدّة، المعارضة الليبرالية بجناحيها اليساري (بنازير بوتو) واليميني (رئيس الوزراء السابق نوّاز شريف)، وهما يديران من منفاهما، حزبين نافذين جدّاً على الساحة الباكستانية. فمنذ بداية العقد الجاري، تمكّن النظام العسكري من السيطرة السلمية على الموجة الإسلامية، تاركاً فسحةً من حرية التعبير أمام الأحزاب الديموقراطية العريقة، لاجئاً الى الوسيلة الأدهى لإضعافها، وهي اللعب على تغذية الخلافات فيما بينها.
    حقّقت الردّة الدفاعية التي عبّر عنها شودهاري ما عجزت عن تحقيقه عشرات السنين، وهو تأليف جبهة موحّدة لا يجمعها سوى «الشيطان»، حيث الاسلاميون أنصار بن لادن، والمحافظون الموالون للغرب بالاضافة الى اليسار العلماني (الشيعي بغالبيته) يقفون جنباً الى جنب.
    بغية زيادة الوضع تعقيداً، لم يكن ينقص الفوضى المسيطرة سوى الاعتراف الصاعق لخالد شيخ محمد الذي سلّط الضوء على النمو السريع لتنظيم القاعدة.
    من خلال هذا الاعتراف، يمكن استخلاص عنصرين أساسيين: الأوّل هو أنّ تنظيم القاعدة لا يزال مُمَركزاً ومُداراً من المنطقة الباكستانية ـــ الأفغانية، حتّى في ما يختصّ بتفاصيل العمليات التي نُفِّذت على امتداد السنوات الـ15 الأخيرة. تلغي هذه الملاحظة الفرضية القائلة باستقلالية كل فرقة من فرق التنظيم المذكور. أمّا الملاحظة الثانية فمفادها أنّنا لو سلّمنا جدلاً بصحّة الاعترافات التي أدلى بها محمّد، فإن الاسمين البارزين فقهيّاً للتنظيم، أسامة بن لادن ومساعده أيمن الظواهري، قد يكونان من دون سطوة أساسية على سير عمليات التنظيم. لم ينتظر خالد محمد شيخ تأسيس القاعدة لينضم الى المجموعة الإسلامية، فهو مهندس العمل التفجيري الأوّل الذي كان من المفترض أن يودي بمركز التجارة العالمي عام 1993 بواسطة متفجّرات وُضعَت في شاحنة تحت الأرض، في وقت كان فيه بن لادن يستعد للابتعاد عن البلاط السعودي.
    يبقى هذا الاعتداء مليئاً بالألغاز من حيث يبدو أنّه كان تحت أمرة ـــ أو على الأقل بإشراف لوجستي ـــ الأجهزة الأمنية السرية العراقية في عهد صدّام حسين. تؤكّد لنا تلك الاعترافات، أنّ رئيس الأركان الفعلي لتنظيم القاعدة استفاد طويلاً من الدعم غير المباشر للاستخبارات العراقية والباكستانية، وهما جهازان ظلا على تنسيق كامل طوال أعوام العقد التاسع من القرن الماضي في سياسية مشتركة كان عنوانها «محاصرة إيران».
    إذا كان منسوب النقد الداخلي والضغط الخارجي يتعاظمان على مشرّف ونظامه، فإنّ الضعف والهشاشة يُعدان خاصيتين ملازمتين للدولة الباكستانية الممزّقة منذ القدم، ما بين هويتها الثقافية الهندية من جهة والتمدّد الإسلامي الذي غلب على طابعها من جهة أخرى، وهي كلّها عوامل قد تفجّر الوضع الداخلي الباكستاني مع كلّ القدرة التي يختزنها النظام القائم على ضبط النزاعات والتناقضات.
    للمزيد من التحسّس بالمخاطر والضغوط الممارسة على باكستان وجوارها، لنفكّر قليلاً بالقنبلة النووية الباكستانية، بالإضافة الى الرابط الأمني العضوي الذي يربط بين إسلام أباد والرياض، وأخيراً بالطابع المركزي الذي بات يميّز التحالف الباكستاني ـــ الصيني أخيراً.
    كلّ التطورات الإقليمية والدولية توحي بأنّ الحريق بات يتنقّل أخيراً بانتظام نحو شرق الحدود الإسرائيلية ـــ الفلسطينية باتجاه العراق، وحالياً تتنقّل النيران من العراق لتصل الى قلب باكستان.
    (من صحيفة لو فيغارو الفرنسية).
    * كاتب غربي