أمين محمد حطيط *
تشتد حدة الجدل اليوم حول الحكومة القائمة منذ انتخابات هيّأت ظروفها جريمة 14 شباط 2005 وما تلاها من تدخّل أجنبي فاضح في الشأن اللبناني، ويستشري الانقسام بين متمسك بالحكومة بذريعة امتلاكها أكثرية نيابية، ورافض اســــــتمرار هذه الحكومة بذريعة مخالفتها في وجودها أصلاً اتفاق الطائف، فأي من الفريقين أقوى حجة وأسلم منطقاً؟
بداية يجب ان ننطلق من طبيعة النظام اللبناني الذي أُقيم وفقاً لتسوية الطائف (ونقول تسوية ولا نقول أكثر من ذلك على رغم ان المتعارف عليه للتسمية هو وثيقة الوفاق الوطني، أو اتفاق الطائف، ويبقى شرح الأمر وتبريره لمكان آخر ليس هذا المقام مجاله)، ومن ان جوهر التسوية التي أنهت الحرب ــ الفتنة في لبنان يقوم على المبادئ التالية:
1 ــ المشاركة بين الطوائف في السلطة، والتوازن بين الطوائف الكبرى الثلاث في فعالية الدور والمساهمة في القرار الوطني من دون التوقف عند حجمها القائم أو ما سيؤول إليه هذا الحجم.
2 ــ رفض استئثار أي طائفة أو فئة أو شخص بالقرار الوطني بصرف النظر عن حجمه الشعبي (الطائفي أو السياسي) أو حجم تمثيله في البرلمان، وقد حفظ ذلك من طريق امتلاك الأقلية «للثلث المعطل للاستئثار» مرفقاً بشرط اتخاذ القرارات الأساسية بأكثرية الثلثين في مجلس الوزراء.
3 ــ تحقيق العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن بين المناطق اللبنانية.
4 ــ إنشاء الضوابط بين السلطات الدستورية ما يحول دون تهميش بعضها من قبل البعض الآخر، وإنشاء توازن بين المؤسسات الدستورية لتضبط إحداها الأخرى، وكان المجلس الدستوري هو أهم ما جاء به الطائف ليمنع التشريع الكيفي.
5 ــ تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية (التي كانت أقرب الى الملكية) وجعل الرئيس مضطلعاً بدور الحكم وضابط الايقاع للعمل الوطني الرسمي من دون ان يكون صاحب القرار في الأصل بل يكون صاحب القدرة على كبح الجموح وترشيد الاداء مع حفظ دور مركزي له في الدولة باعتباره رمزها والمفاوض باسمها في الخارج، على ان يكون تصديق ما يتوصل إليه من نتائج ونفاذه رهن بموافقة مجلس الوزراء أو مجلس النواب وفقاً لطبيعة الأمر.
لقد جاء مؤتمر الطائف بتسوية لتحفظ وجود الطـــــــــــوائف كطوائف، ولم يأت بحل يقيم الدولة الديموقراطية التي تساوي بين أبنائها في الحقــــوق والواجبات، ولكنه وعد بذلك عندما تضــــــمّن نصاً على وجوب إلغاء الطائفية السياسية في يوم من الأيام!؟؟ ومع ذلك وعلى رغم الظلم الذي لحق بشريحة واسعة من اللبنانيين من جراء هذه التسوية فقد قبـــــــــلت النتائج (ظُلمت الطائفة الكبرى عدداً كما ظُلم أصحاب الكفـــــاءات عامة) وانطلق العمل بالتسوية لأنها كانت المخرج الممكن الوحيد أو المتاح آنذاك للتخلص من الحرب. وقد ظهر من التطبيق الأولي لهذا الاتفاق ان النص جمد في الأوراق، والفعل جارى الأهواء، ما أحدث احباطاً لدى فئة، وأنشأ أمراء طوائف لدى فئات أخرى، وعمّت ثقافة المحاسيب والأتباع ونشرت سياسة الفساد، وأُرسي مبدأ تهميش الدولة لمصلحة الأشخاص ــ الأمراء الجدد....
ثم كان الانقلاب السياسي بعد جريمة 14 شباط 2006 حيث نادى الانقلابيون بالحرية والسيادة والاستقلال، وبناء الدولة الديموقراطية على أساس اتفاق الطائف، وكانت الكارثة الكبرى متمثلة في عودة الفئة عينها التي انحرفت في تطبيق الطائف في المرة الأولى، الى الحكم لتطبّقه في شكل آخر ولكن أسوأ حيث جاء الأمر كما يلي:
أ ــ في الانتخابات عقدت هذه الفئة تحالفاً مع فريق المقاومة الذي لم يدخل الحكم طوال العهد السابق، فنالت منه أصواتاً، مكّنتها من جمع أكثرية برلمانية تتيح لها تأليف حكومة. وهنا لا بد من التنويه بأن المقاومة ما أقدمت على مثل هذا التحالف إلا لتحفظ سلاحها الذي تشهره دفاعاً عن لبنان في وجه اسرائيل، وقد كان تعهّد في الاتفاق بحماية هذا السلاح وبكل الوسائل.
ب ــ في تأليف الحكومة، وعدت الفئة الانقلابية فريق المقاومة بالعمل ضمن فريق حكومي واحد على أساس بيان وزاري يجعل حماية المقاومة هدفاً وطنياً لتحقيق الاهداف الاستراتيجية، فتساهلت المقاومة في امتلاك «الثلث المعطل للتفرّد بالقرار» داخل الحكومة (وفقاً للطائف)، فتألّفت الحكومة مع أكثرية قرار متجمعة بيد فئة واحدة في البلاد تماماً كما كانت الحال قبل الطائف شكلاً، ولكن أخطر منه مضموناً، إذ قبل الطائف لم يكن نص ملزم لرئيس الحكومة بالتوقيع على المراسيم في مهل معينة بينما نجد رئيس الجمهورية لا يستطيع اليوم تعطيل مرسوم أو قانون أكثر من 15 يوماً أو 30 يوماً إذا أصرت عليه الهيئة التي أصدرته، وبما ان الفئة الانقلابية تملك القرار في البرلمان ومجلس الوزراء، فقد أصبح موقع رئيس الجمهورية شكلياً، كما أصبح موقع الفئات الأخرى هامشياً.. ما يقود الى القول بأن الحكم أصبح متجمعاً بيد رئيس الحـــــكــــــومة واقــــــعياً، من غـــير أي مانع أو عائق.
ج ــ على صعيد المؤسسات: بعدما امتلكت فئة السلطة الانقلابية الجديدة تلك الأكثريات، وباتت في مأمن من أي طعن أو مساءلة، راحت تمعن في تعطيل المؤسسات في الدولة على أساس واحد، إما امتلاك قرار المؤسسة كما هي الحال في البرلمان والحكومة، أو تعطيلها كما هي الحال بالنسبة إلى المجلس الدستوري (صمّام الأمان من الطغيان التشريعي أو الكيدي)، وكرّت السبحة بعد ذلك الى أن وصلنا اليوم الى وضع لا يوجد فيه مؤسسة من مؤسسات الدولة إلا وتستأثر فئة السلطة بقرارها دونما اعتبار لقانون أو دستور أو نظام (مع التحفظ بالنسبة إلى الجيش الذي استطاع قائده بمناقبيته المميزة ووطنيته الحقيقية أن يبقيه وطنياً ويمنع سقوطه في الفئوية القاتلة وهو الخبير بتاريخ الجيش الحديث، وما أنتجته الفئوية من مصائب للجيش والوطن).
د ــ على صعيد رئيس الحكومة: بعدما قبضت الفئة الانقلابية على مؤسسات الدولة، وعطلت ما بقي خارج يدها، بدأ رئيس الحكومة بتشجيع من القوى الخارجية (منتجة الانقلاب وراعيته) بالتصرف على أساس انه هو رئيس البلاد وقائدها (كما كان يمارسه رئيس الجمهورية قبل اتفاق الطائف) وإذا به:
ــ هو الذي يفاوض باسم لبنان (وهي صلاحية رئيس الجمهورية دستورياً).
ــ هو الذي يقتحم مؤتمرات القمة لرؤساء الدول أو يُدعى إليها لتمثيل لبنان (القمة العربية والقمة الفرنكوفونية).
ــ هو الذي يقرر صرف الأموال وتخصيص أو تحديد وجهة الإنفاق (المهجّرون).
ــ هو الذي يعد بالأموال أو يهدد بقطعها (أموال النازحين والمتضررين من العدوان الاسرائيلي الأخير).
ــ هو الذي ينشئ الأجهزة أو الهيئات أو يعدّل في وظيفة أو صلاحيات بعضها (الهيئة العليا للاغاثة، مجلس الجنوب، صندوق المهجرين، الفروع والشعب في قوى الامن الداخلي).
ــ هو الذي يطلب الدعم من هذه الدولة أو تلك أو يفتح الأبواب أو يغلقها في وجه هذه الدولة أو تلك... إلخ.
ــ وهو الذي يرى نفسه قائداً لشعبه (كما أسبغ عليه بوش تلك الصفة التي يذكّرنا أمرها بما كان السلطان العثماني يسبغه من ألقاب على عمّاله وولاته في سلطنته من باشا وبك وسواها).
ولكن الأكثر خطورة هو ان يظهر المخفي من الامر، وخاصة عندما نجد ان رئيس الحكومة هذا ليس هو صاحب القرار الحقيقي، بل انه منفذ قرار مَن جاء به وأسبغ عليه يومها تسمية رئيس الأكثرية النيابية وهو شاب يافع لم يحترف السياسة، وأقحمه ظرف حزين في غمارها من غير ان يكون قد استعد لها، ثم وجد نفسه فجأة «رئيساً واقعياً» لدولة تفتش عن مستقبل لأبنائها، وهو الذي ما عرفها إلا بعضاً من سني حياته، التي عاش معظمها في الخارج يلاحق أعمال أبيه...، وكانت الطامة الكبرى في أداء هذه الحكومة إبان العدوان الاسرائيلي الاخير، أداء لن يغيّر في وصفه ما تزعمه الحكومة من نجاحات أدت الى التحرير، لأنه زعم لا ينطلي على البسطاء العاديين، فكيف يمكن ان ينطلي على المراقبين المحترفين، فهي التي تنصّلت من المقاومة وأعمالها خلافاً لما تعهدت به في البيان الوزاري، وهي التي تعهدت للخارج بنزع سلاح المقاومة خلافاً لتعهداتها الداخلية، وهي التي هددت اثناء العدوان باستمرار الحرب وتدمير لبنان إن لم تلقِ المقاومة سلاحها، وهي التي شاركت في مؤتمر روما الذي أعطى إسرائيل فرصة استكمال العدوان ولم ينسحب رئيسها احتجاجاً على ذلك، وهي التي (كما قال بولتون) وافقت على مشروع القرار الفرنسي الاميركي الذي كاد يضع لبنان تحت استعمار القوات المتعددة الجنسيات، وهي التي ضيّعت الفرص الثمينة في التفاوض اثناء الحرب ولم تثمر نصر الأبطال المقاومين فتراخى أمر تحرير مزارع شبعا...
قد يدّعي البعض دوراً للحكومة في شيء ما لمصلحة لبنان في الحرب، وقد نقبل ذلك تساهلاً ولكن نقول فوراً لو لم تهزم اسرائيل على يد المقاومة لخرج لبنان من الحرب كما خرج عام 1978 أو 1982.
وعلى هذا لا نستطيع ان نقول ان لدينا في لبنان حكومة تحاكي جوهر الطائف والدستور بل ان الموجود هو سلطة الفئة أو الشخص، وأكثر تحديداً هو سلطة الشخص الموزعة بين الظاهر والباطن، ولا يمكن مطلقاً وصف ما نحن فيه بدولة المؤسسات، او دولة الطائف، وإن الذي كان يُشكى منه قبل جريمة شباط 2004 بات أدهى وأمرّ اليوم، فقد كان سابقاً حكم الترويكا وأمراء الطوائف المحظوظة، أما اليوم فقد أصبحنا في ظل حكم الشخص والفئة المستأثرة التي لا تمثل طائفة بكاملها.. فحكومة اليوم تخالف الطائف في أهم نقاطه:
ــ فهي ليست حكومة وفاق وطني كما ينص الطائف، إذ ان ثلثي الشعب الآن خارج القرار.
ــ وهي ليست حكومة الوطن أو الوحدة الوطنية بعدما أضحت حكومة الفئة او الشخص.
ــ وهي ليست حكومة المشاركة التي يمنع تركيبها تمركز القرار السياسي في الوطن بيد فئة أو شخص واحد بل هي حكومة الاستئثار، ما دام غير موجود فيها ثلث يعطل التفرد بالقرار.
ــ وهي ليست حكومة التوازن الوطني التي ينص عليها الدستور بعدما همّش الجميع لمصلحة الفئة..
ــ وهي ليست حكومة المؤسسات المتعاونة، بل حكومة الشخص القابض على المؤسسات العاملة، أو المعطلة إن بقيت خارج القبضة.
ــ وهي ليست حكومة العدالة الاجتماعية والتوازن الانمائي وهي التي تحصر اهتمامها بأتباعها. ان حكومة اليوم ليست هي حكومة الطائف، وليست طبعاً الحكومة التي تستجيب لروح الدستور، لهذا وجب رحيلها، والإتيان بالبديل الذي ينص عليه الدستور ويستجيب لاتفاق الطائف. في المشاركة ومنع الاستئثار (بوجود الثلث المعطل له) وعودة رئيس الحكومة الى حجمه الدستوري. ولا يكون البديل إلا حكومة الوفاق الوطني التي يتمثل الجميع فيها وفقاً لأحجامهم الشعبية لا وفقاً لانتخابات لم يرضِ قانونها أحداً.
ان حكومة الوحدة الوطنية تبقى الممر الاجباري لتنفيذ اتفاق الطائف، ومن غير هذه الحكومة لا استقرار أو طمأنينة في وطن ينشد أبناؤه العيش المشترك، ولا شرعية لأي حكومة تناقض هذا العيش كما يقول الدستور.
* عميد ركن متقاعد في الجيش