أحمد أبو حسين *
انتقدنا أحد الصحافيين اللبنانيين الذي يحسد الاسرائيليين على ديموقراطيتهم، وإن كنا لم نرغب في حينه في مناقشته بقدر ما نسمح لأنفسنا أن نكون دليلاً له، ربما بسبب انكشافنا على المجتمع الاسرائيلي بشكل يومي. وشهادتنا منذ اندلاع الحرب على لبنان، وفق ما تعلّمنا من أسس «السياسة المقارنة»، تشير إلى أن لبنان بلد ديموقراطي أكثر من «ديموقراطية اليهود» على رغم التركيبة الطائفية، وما يحكمها من ولاءات ورواسب تاريخية لها تأثيرها على ديموقراطية البلد. وقد يتهمنا المعجبون بديموقراطية القبيلة الاسرائيلية بأن ثمة مبالغة، وخاصة أن هناك من يحاول دائماً أن يستحضر، «حكايات» مما شهده البلد، كي ينزع عنه صفة الديموقراطية. وفي كل الأحوال فإن مقاييس الديموقراطية هي التي تحكم سلوك الدولة تجاه مواطنيها وأيضاً في الحرب سواء كان في الإعلام أو حتى في الممارسات والأعمال ضد المدنيين من وراء حدودها. قد يعجب «الليبراليون العرب» بلجنة التحقيق الاسرائيلية ويعتبرونها خطوة سوبر ديموقراطية على رغم أنها لن تتناول مسائل أخلاقية تتعلق بالعداء للعرب ومسح القرى وقتل المدنيين، إنما ستبحث في الإخفاق والفشل العسكري. نذكر أن أولمرت كان يصرخ في الكنيست أول أيام الحرب والصواريخ والقنابل تتساقط على الضاحية والقرى اللبنانية، «لن يعلّمونا الأخلاق.. نعلّمهم دروساً في الأخلاق».. حتى إن الكاتب الاسرائيلي دافيد غروسمان، الذس فقد ابنه عشية انتهاء الحرب، ومؤلف كتب «الزمن الأصفر» و «حاضرون غائبون»، شرعن الحرب لكنه عاد وطالب بوقف إطلاق النار قبل مقتل ابنه بأيام! وهذا الكاتب «الثاكل» المغرّد دوماً في ملعب اليسار الاسرائيلي لن يتورّع عن الاعتراف بهزيمة اسرائيل كي يبقى في ملعب القبيلة، لكنه سلك سلوكاً أشكنازياً خالصاً وبقي في خصوصياته وحيّزه الخاص واعترف بالهزيمة الشخصية التي لحقت بعائلته الصغيرة. يقول غروسمان في وثيقة تأبين ابنه التي نشرها في يديعوت أحرونوت في الأسبوع الماضي «إن ابنه أوري كان يبتسم أثناء خدمته العسكرية في المناطق المحتلة للأطفال الفلسطينيين وهم ينتظرون على الحواجز».. أرأيتم الأخلاق وأهل اليسار والاحتلال الإنساني.
ومع انتهاء الحرب كثر الحديث عن الأخلاق، أخلاق الجيش وفضائح التحرّشات الجنسية وتمادي الأيدي على أجساد الموظفات، و«خلطة» الصحافة العبرية حول هذه المواضيع شبيهة الى حد ما بنميمة المومسات عن الشرف واعتزال المهنة، حتى إن الشاعر الاسرائيلي حاييم غوري وصف صديقه س. يزهار أو سامخ يزهار (لفظ حرف السين في العبرية) المتوفي أوائل الأسبوع الجاري بأنه «أكثر الأخلاقيين والضميريين بين أدباء اسرائيل»، وقد يكون هذا الكلام «صحيحاً» لكونه شاعراً وكاتباً نقدياً من داخل الإجماع أثارت كتبه مثل «خربة خزعة» جدلاً واسعاً في حينه، على رغم أن الكاتب اعتقد على الدوام بأنه من الممكن تصحيح الأمور مع الفلسطينيين، لكنه تشبّث بالأخلاق كصفة ملازمة للحركة الصهيونية. نسامح يزهار لأنه لم ينطق بكلمة أيام العدوان بسبب مناطحته للموت لكننا لا نسامح أدباء اسرائيل (ضمير المجتمع) الذين لم يتفوّهوا بكلمة واحدة عن الدمار وقصف الأموات والأحياء. ولا يحق لأحد منهم، لا حاييم غوري ولا أ. ب. يهوشاع أو عاموس عوز، أن يتحدّثوا عن الأخلاق بصورة عامة، لقد سقطوا سقوطاً مدوياً في الامتحان.. ولم ترحمهم الشرعنة الأميركية للحرب، يستطيعون أن يتحدثوا فقط عن الأخلاق الاسرائيلية صاحبة المعايير المتميزة!!! لم يكتب واحد منهم أن هناك «جينوسايد» بحق المواطنين اللبنانيين.. لم يتجرأ أحد على التفوّه بكلمة.. ويحدثك الزميل اللبناني بأنه يحسد الاسرائيليين.. بدل أن يحسد المقاومة على تعاملها مع الشهداء، والقيام بتنظيم جنازات طقوسية مع الورود والأرز والأهازيج.. أية مقاومة فعلت ذلك.. من المهم أن نرصد ما يحدث في اسرائيل من حراك، ولكن من الوقاحة أيضاً الاستناد الى وقاحتها معياراً لديموقراطيتها، ولا أجازف في القول عندما نقول إن هناك تافهين في اسرائيل.. نعم هناك تافهون.. والتفاهة والوقاحة الاستعلائية المنفوخة تشكل حالة مرضية في الثقافة الاسرائيلية.. من حق اسرائيل أن تراجع حساباتها.. وتسأل «الأسئلة التي أجوبتها معروفة» للإسرائيليين كما يقول وزير الأمن الاسرائيلي السابق موشية أرنس في مقالة في هآرتس يوم الثلاثاء 22 ــ 8 ــ 2006.
سمعنا «كلام الناس» من لبنان والتنظير في «بناء الدولة»... و«هات المقاومة نعطيك الدولة» و «الحرب الاستباقية» و «التمايز الطائفي» ورأينا بأم أعيننا «المستقبل»، وقرأنا مقالات «اسرائيلية» بأقلام عربية في صحف لبنانية، فيما المقاومون كانوا يدافعون عن لبنان.. ويحدثنا زميلنا اللبناني عن حسده للإعلام الاسرائيلي، بدل أن يعترف بحسد الآخرين لقيادة المقاومة.
واجب المقاومة أن تقوِّم التجربة وتراجع حساباتها وطروحاتها وتعمق علاقتها مع مجتمعها المنكوب وتفتح حواراً ونقاشاً مع القوى الحية وتسأل أسئلة من نوع «كيف نحافظ على أجواء لبنان بعد الآن»، «كيف نحافظ على الانتصار» لمواجهة محاولة التقليل من أهمية انتصار المقاومة وإضعافها من خلال النعرات الطائفية ومهاجمة «التشيّع» مثلاً، واستعمال نقاط الضعف المختلفة والحديث عن «أهمية الاندماج في المجتمع». تجربة المقاومة تؤكد أن المراهنة على تيري رود لارسون وكوندوليزا رايس باءت بالفشل..
* صحافي فلسطيني