لم يكن النظام اللبناني يسيرُ يوماً وفقَ أحكام الدستور اللبناني، أو حتى وفقَ أحكام الميثاق الوطني. الذي يدرسُ النظام السياسي اللبناني منذ الاستقلال حتى اندلاع الحرب الأهلية، يرى أن النظام، بعيداً عن سراب «الزمن الجميل»، كان نظام الرئيس المستبدّ المتفرِّد بالحكم. طبعاً، كان هناك انتخابات نيابيّة، وكان هناك مجلس وزراء وكانت الانتخابات أحياناً تجرى على غير ما يريد الرئيس (وإن كان الرئيس يتدخّل أحياناً من أجل ضمان وصول أزلامه إلى المجلس وحرمان خصومه من الفوز، وخصوصاً إذا ما كان ينوي التجديد كما فعل كميل شمعون في انتخابات ١٩٥٧ والتي فصّلها على مقاسه وقامت الحكومة الأميركية بتمويلها). ورئيس الوزراء لم يكن ذا سلطة أبداً (يقول رجل أعمال لبناني عرفَ عهوداً متعاقبة، وشغل منصب مستشار لأكثر من رئيس جمهوريّة وحكومة، إن كل رؤساء الوزراء كانوا «طراطير»). كان رئيس الجمهوريّة يستبدلُ رؤساء الحكومات بسهولة فائقة: إذا تمرّدَ واحدٌ يأتي ببديل منه أو بمنافسِه لمعاقبته، وكان هناك نادٍ (غير رسمي) كان يُسمّى «نادي رؤساء الوزراء»، في إشارة إلى هؤلاء الذين يُبدون استعداداً للانضواء في معسكر الرئيس الحاكم، أو هم خدموا في الماضي ويريدون العودة إلى الكرسي. وكلمة «الكرسي» كانت تُستخدم للإشارة إلى تلك الجاذبيّة البرّاقة التي تستحوذ على عقول الطامحين إلى رئاسة الوزارة. لم يكن هناك رئيس وزراء يحكم قبل الحرب الأهلية. صائب سلام كان له من الجرأة في ١٩٧٣ (بعد اغتيال قادة المقاومة في بيروت) أن يعترف بأن من الضرورة الاعتراف بأن الرئيس يستأثِر بالحكم، وفق مزاجه هو (وبالتفاهم مع قوى خارجية من دون المرور بمجلس الوزراء أو حتى بوزارة الخارجية). يكفي أن نعرف أنه كان للرئيس اللبناني مستشارُ اتصال مختصّ مهمته التواصل السرّي مع الإدارة الأميركية خارج أقنية وزارة الخارجية اللبنانية (ميشال خوري لعب الدور في عهد شارل حلو، فيما لعب أنطوان الدحداح الدور في عهد سليمان فرنجيّة).
هذا لا يعني أنه لم يكن هناك تنافس حقيقي في داخل النظام السياسي اللبناني. كان هناك تنافس، ولكن التنافس كان محكوماً ومضبوطاً. كان هناك تنافس، مثلاً، بين كامل الأسعد وصبري حمادي، بين آل الزين وآل الأسعد، بين آل عسيران وآل الزين، كما كان هناك تنافس بين عبد الله اليافي وصائب سلام وعثمان الدنا. وكان هناك تنافس بين كمال جنبلاط ومجيد أرسلان، لكن كل هؤلاء كانوا يحتاجون إلى غطاء ورعاية من رئيس جمهورية من أجل التمتّع بحظوة الحكم، أو القرب منه. لم يكن لحزب الكتائب (الذي كان فرقة متطرّفة من المتعصّبين الفاشيين) أن يصعدَ في الحياة السياسية اللبنانية لو لم يدعم فؤاد شهاب حزب «الكتائب» نكايةً بريمون إده، المنافس المزعج لفؤاد شهاب. وكامل الأسعد ضمنَ رئاسته للمجلس لأنه كان ملحقاً بسليمان فرنجية، وكان جزءاً من تكتّل «الوسط» الذي رشّحه للرئاسة في عام ١٩٧٠. صائب سلام كان مأمولاً منه أن يستمرّ رئيساً للحكومة في عهد فرنجيّة، إلا أنه تمرّدَ بعدما اكتشفَ أن لا نيةَ للزعامات المارونية لتلبية المطلب الإسلامي في ما كانَ يُسمَّى مطلب المشاركة (أي تعزيز صلاحيات رئيس الحكومة وإشراكه بالفعل في الحكم، وإن من موقع أضعف). ننسى اليوم أن المسلمين، وغير المسلمين من المعارضة في لبنان، كان لهم قبل الحرب مطالب خاصّة بهم خارج ملف القضية الفلسطينية. السائد اليوم هو أن كل الصراع في لبنان كان حول المقاومة الفلسطينية ودورها في لبنان. المقاومة الفلسطينية كانت بعداً من أبعاد مختلفة من الحرب الأهلية، واختصارُ الصراعات اللبنانيّة الأهليّة بالمقاومة كان من أجل ترسيخ سردية حزب الكتائب اللبنانية، ومن أجل إغفال الظلم والجوْر الذي فرضه الحكم اللبناني قبل الحرب على جميع اللبنانيين طائفيّاً وطبقيّاً وسياسيّاً.
النظام السياسي قبل الحرب الأهلية كان نظاماً قائماً على التكاذب. و«الميثاق الوطني» كان أبعد ما يكون عن تفاهم بين المسلمين والمسيحيين أو بين النخبة السياسيّة السنيّة والنخبة السياسيّة المارونيّة. لم يكن ذلك صحيحاً على الإطلاق بالرغم من ترويجات الكتابات عن «الميثاق» من قبل باسم الجسر وغيره. جعلوا منه تجليّاً لنموذج «الديموقراطيّة التوافقيّة» (وهو نموذج أو تصنيف نظري، وليس نظام حكم كما يدرجُ القول في لبنان). السرديّة تقول إنه كان هناك تفاهم بين النخب الطائفيّة الحاكمة وإن ذلك أدّى إلى تعزيز الديموقراطية في لبنان. في الحقيقة، لم يكن هناك من سلطة أو نفوذ للنخب السنيّة السياسية لأن كل رئيس وزراء كان يدين لرئيس الجمهورية بمنصبه وبأجَل منصبه. وكان لكل زعيم ماروني أدوات من السياسيين السنّة والشيعة والدروز. كان مجيد أرسلان تابعاً لشمعون، كما كان كاظم الخليل تابعاً لشمعون، وسامي الصلح كان تابعاً لشمعون وقِسْ على ذلك. الفكرة أن النخبتين السنيّة والمارونيّة توصلتا إلى معادلة لتجنّب توريط لبنان في السياسة الخارجية بما يمكن أن يؤدي إلى انقسام بنيه كانت باطلة منذ التأسيس.
النظام السياسي قبل الحرب الأهلية كان نظاماً قائماً على التكاذب. و«الميثاق الوطني» كان أبعد ما يكون عن تفاهم بين المسلمين والمسيحيين


النخب المارونيّة الحاكمة (كلّها من شمعون إلى إده والجميّل والحلو) ارتبطت بدول الغرب، وبالدول العربية المرتبطة بالغرب، على امتداد كل سنوات تاريخ لبنان المعاصر منذ الاستقلال حتى نشوب الحرب الأهلية اللبنانية. كان لبنان، في كل مفاصل التاريخ العربي المعاصر، في صف دول الغرب والخليج. لبنان عادى كل المشاريع القوميّة العربيّة في الزمن الناصري. كان الناشطون الناصريّون والقوميّون العرب في لبنان يتعرّضون للاضطهاد والسجن في سنوات ما يُسمّى بشهر العسل بين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر. كان لجمال عبد الناصر ما يكفيه من مشاغل قوميّة وضغوط صهيونيّة غربيّة ومحليّة لدرجة أنه لم يكن يريد تفجير الوضع في لبنان، حتى لو أن ذلك كان في مصلحة الفريق القومي العربي. والذي كان مسؤولاً عن ضبط الوضع في لبنان كان جمال عبد الناصر من خلال الضغط على مريديه لتقديم التنازلات والولاء لنظام فؤاد شهاب وشارل الحلو. في سياسات معاداة الشيوعية واليسار، كان لبنان يُسخِّر أجهزته الأمنية والتجسّسيّة لتقديم العون للحرب الأميركية ضد الشيوعية حول العالم. الأرشيف الخاص لفريد شهاب يؤكد أن أجهزة الأمن لم تكن إلا أداة بيد الطرف الغربي في الحرب الباردة. أي أن لبنان كان منحازاً للغرب في الحرب الباردة على الصعيد العالمي والإقليمي، خلافاً لاتفاق «الميثاق الوطني». وفي الصراع العربي الإسرائيلي كان لبنان دوماً في موقف متناغم مع السفارة الأميركية في بيروت (ومع السفارة البريطانية قبل ذلك) من أجل إخلال لبنان بالتزاماته القوميّة، عبر ميثاق الدفاع العربي المشترك. لبنان نأى بنفسه عن الحروب العربية الإسرائيلية حتى عندما كانت إسرائيل «تزوره» في الحروب والاجتياحات والغزوات. كان لبنان يعتبر نفسه غير معنيّ ليس فقط بما يجري على الجبهات العربية مع إسرائيل، بل حتى على ما تقوم به إسرائيل من عدوان على أرض لبنان. هذه هي حقيقة «الميثاق الوطني» الذي يريد البعض العودة إليه. أمّا الحديث عن العروبة اليوم، من خلال الفريق اليميني الرجعي فلا يعني إلا إسباغ عباءة العروبة على السياسات الغربية الرجعيّة عينها التي كانت موجودة في زمن الحرب الباردة.
اتفاق الطائف أراد أن يُصلح النظام السياسي اللبناني إصلاحاً طفيفاً وبناءً على قواسم مشتركة بين القليل من مشروع الحركة الوطنية الليبرالي والكثير من مشروع حزب الكتائب اللبنانية في السياسة الخارجيّة وفي الهويّة. في الهوية، اعتنقَ اتفاق الطائف الرؤية الفينيقية وتحدّث عن كيان لبناني أزلي ضارب في القدم واللانهاية. أمّا الكلام عن العروبة فكان ليس أكثر من نقل الهوية من وجه لبنان، حسب «الميثاق الوطني»، إلى إسباغ الهويّة على كامل الجسم اللبناني. التغيير الأكبر الذي حدث في سياسة النظام السياسي اللبناني بعد الطائف هو في تقليص، أو تحجيم، دور رئيس الجمهورية اللبنانية، وكان هذا ليس فقط نتيجة رجحان الكفة الديموغرافية (التي تمّ تجاهلها لعقود من أجل تسويق الحظوة المارونية السياسية في النظام السياسي) وإنما هو نتيجة لهزيمة ميليشيات الزعماء الموارنة، ونتيجة أيضاً للتعنّت الذي بدرَ في فترة حكم سليمان فرنجية وأمين الجميل. والصراعات بين الزعماء الموارنة، كما كان ريمون إده يقول دائماً، أضعفت موقع رئيس الجمهورية الذي كان يستطيع أن يستغل الموقع لتحسين موقعه ولإضعاف خصومه ومحاربتهم، وهذا يسري على فؤاد شهاب كما يسري على كميل شمعون.
الحكم على نظام الطائف يبقى منقوصاً لو أنه انحصر بحقبة سيطرة النظام السوري في لبنان. النظام السوري كان يستطيع أن يلعب دور الحَكَم، وإن كان منحازاً، ودور المنفِّذ أو الفارِض. وكان للسعودية دور في ذلك الحين، طبعاً. عندما أصرّ رفيق الحريري على رفض إطلاق اسم كميل شمعون على مدينة بيروت الرياضية لم يستطع إلياس الهراوي إقناعه، حتى بعدما استعان بالنظام السوري. فما كان من الهراوي إلا أن استغلّ زيارة الأمير عبد الله للبنان ليطلب منه إقناع الحريري، وكان له ما أراد (كم كان مُطيعاً الثائر رفيق الحريري). وخلال مرحلة سيطرة النظام السوري، استمر استشراء الفساد. كان فاسدو لبنان الذين يسخون في عطاءاتهم على عبد الحليم خدام وضباط المخابرات السورية في لبنان، ينالون مكاسب سياسية. هذا يسري على فيصل درنيقة وعلى ميشال المرّ، وطبعاً يسري أكثر من أي شخص على رفيق الحريري الذي استطاع أن يَنشرَ نِعَمه على حكمت الشهابي وعبد الحليم خدام وغازي كنعان، أي أنه أسّس جناحاً فاسداً داعماً له داخل النظام السوري. ومن المعروف أن لدى الخبير الأميركي في الشأن السوري، جاشوا لاندس، نظرية مفادها أن فريق الحريري في دمشق كان يُعدّ للاستيلاء على الحكم وأن ذلك هو الذي تسبب في قتل رفيق الحريري.

النظام السياسي الذي تشكّل بعد الطائف عانى من مشكلة كبيرة، أساسها حول كيفية انتقال السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، فيما مجلس الوزراء ليس إلا مجلس الطوائف


النظام السياسي الذي تشكّل بعد الطائف عانى من مشكلة كبيرة، أساسها حول كيفية انتقال السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، فيما مجلس الوزراء ليس إلا مجلس الطوائف، ويدين فيه الوزراء لزعماء طوائفهم، وفيما الرئيس يعلو على الأعضاء بدرجة تتعلّق بشخصه ورعايته الخارجيّة. ولهذا، لم تكن صلاحيّات رئيس الوزراء في تلك الفترة السوريّة متساوية بين الذين تولّوا المنصب. سليم الحص كان أضعف بكثير من رفيق الحريري، ورشيد الصلح وعمر كرامي كانا أضعف من رفيق الحريري، لأن الحريري يتمتّع بقوّة ونفوذ هائليْن. وعناصر قوّته كمنت في الفساد الهائل الذي ارتبطَ بسلطته السياسية حيث (على طريقة أبو عمار) ابتاعَ لنفسه نواباً ووزراء، حتى من أحزاب وتيّارات خارج تيّاره السياسي. فترة سليم الحص كانت ضعيفة جداً لأنه عانى من ضعف التأييد السوري له، بسبب رفضه بناء قاعدة طائفيّة له، مثل الحريري، ولم يكن لديه علاقة بالعطاء الفاسد على ضباط المخابرات السورية. ولم يزرع في داخل الوزارات دكاكين تابعة له، بالتنسيق مع مكتب الأمم المتحدة في لبنان (كان لرفيق الحريري وزارات ظلّ تعينه أثناء فترة حكمه وتعطّل حكم خصومه في الفترات الوجيزة التي غاب فيها عن الحكم). أي أن الحكم المجرّد على طبيعة النظام السياسي اللبناني بعد الطائف غير ممكن لأن ما شاب تجربة النظام اللبناني بعد الطائف ظهرَ بوضوح بعد خروج الجيش السوري من لبنان. أي أن المشاكل التي نعاني منها الآن في لبنان هي من نتاج سقم اتفاق الطائف.
وإصلاح النظام السياسي بعد الطائف افترض أن زعماء السنّة والشيعة سيبقون متفقين وأن الانقسام في لبنان سيبقى كما كان في فترة الحرب الأهلية بين المسلمين والمسيحيين، واليسار واليمين. هذا تغيّر كلياً بعدما بلع رفيق الحريري اليسار وانضوى في مشروع تأجيج مذهبي. الحرب المذهبية التي فجّرها التحالف الغربي الإسرائيلي الخليجي في المنطقة برمّتها غيّرَ طبيعة الصراع في لبنان. كما أن فترة النظام السوري فرضت، بقوة الترهيب والترغيب، ثقافة سياسيّة مصطنعة في لبنان. لو تعود إلى الصحف بعد سنة واحدة من خروج الجيش السوري من لبنان لرأيتَ تصاريح وخطباً من قِبل كل قادة ١٤ آذار، وفيها يلهجون بحمد المقاومة ويتحدّثون عن عداء حادّ لإسرائيل، وعن حقّ لبنان في دعم المقاومة والحفاظ على سلاحها. كان هذا بعد خروج الجيش السوري من لبنان وبعد تحرير الجنوب في عام ٢٠٠٠، وكان هؤلاء يقسمون أغلظ الايمان على الضرورة الوطنية في تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. العودة إلى الأرشيف صادمة (أذكر مرّة بعد اغتيال الحريري أنني زرتُ جوزيف سماحة في مكتبه في جريدة «السفير» وبدا لي منقبضاً. فسألتُه عن سبب ذلك فأجابني: لا أدري ما خطرَ لي صباح هذا اليوم، إذ رجعتُ إلى الصحف قبل عام واحد من اليوم). والنظام السياسي اللبناني المكتوب لا يلحظ مؤثرات غير واردة في الدستور. ليس هناك في الدستور ما يشير إلى النفوذ الهائل الذي يتمتع به البطريرك الماروني، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان. البطريرك الماروني يقدّم قائمة بمرشحين موارنة للرئاسة في لبنان. البطريرك الماروني له سياسة خارجيّة خاصة به حتى وإن تناقضت مع ما اتفق عليه ممثلو وممثّلات الشعب اللبناني. البطريرك الماروني ابتدع مشروع الحياد الذي يتعارض مع اتفاق الطائف (ومع «المثياق الوطني»). وطبعاً، هذا نتاج تاريخ لبنان الذي شهدَ سياسة خارجية خاصّة بالبطريركيّة المارونيّة، وسمحَ لها بعقد اتفاقية سريّة مع الحركة الصهيونية في عام ١٩٤٦. ولا يذكر الدستور المكتوب أن الكثير من الزعامات في لبنان يدينون بالولاء لأنظمة خارجيّة. الجميع في صف ١٤ آذار يتحدّثون اليوم عن ولاء الثنائي الشيعي لإيران، ولكن ماذا عن ولاء زعامات بحالها للنظام السعودي؟ هذه الزعامات تستّرت على خطف واعتقال رئيس حكومة لبنان للمرة الأولى في تاريخه.
وكما أن موقع رئاسة الحكومة يخضع لشخصيّة ونفوذ الشخص الذي يتبوّأ المنصب، فإن منصب رئاسة مجلس النواب يخضع لنفوذ وسلطة الشخص الذي يتبوّأ المنصب. لم يكن منصب رئيس مجلس النواب قوياً في فترة حسين الحسيني. المنصب في حقبة نبيه برّي قوي، ليس لأن له صلاحيّات جديدة أو مُزادة عليه منذ الطائف، بل لأن شخصية رئيس المجلس الحالي قوية (بحكم قيادته لحركة سياسيّة كبيرة) وقد راكمَ خبرات ونفوذاً أهّله لكي يكونَ أقوى شخصيّة في الدولة اللبنانية بعد رفيق الحريري (في حقبة النظام السوري). كان رفيق الحريري أقوى شخصية في الدولة، بحكم شخصيّته وفساده ورُشاه ورعايته من الخارج السوري والسعودي والغربي. وكان نبيه بري يتصارع معه حول صنع القرار.
ورأينا أن موقع رئيس الجمهوريّة تقلّص كثيراً بعد خروج الجيش السوري من لبنان، لأن النظام السوري كان يدعم موقع الرئيس في لعبة توازنات لم يرثه فيها أحد. أصبحت رئاسة الجمهورية، كما جعلها الطائف، ضعيفة وخالية من الصلاحيات إلا الشكلية والمِنبرية (لا أقلّل من أهمية السلطة المِنبريَة لرئيس الجمهورية وهناك مصطلح بالإنكليزية اجترحه الرئيس ثيدور روزفلت عن هذا الجانب من سلطات رئيس الجمهوريّة هنا).
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أننا في نظام سياسي هشّ، ومعطّل ومتأثّر بالعلاقات بين الطوائف. عندما يتوافق زعماء السنّة والشيعة فإنهم، كما حصل في فترة النظام السوري، سينتقون ما يلائمهم من ممثلي المسيحيين. وإن ساءَت العلاقة بين زعماء السنّة والشيعة فإنهم سيستخدمون ممثلي المسيحيين لترجيح كفتهم. والرعاية الخارجيّة في لبنان قويّة، لكنها تخضع لبروباغندا تُخفّف من السلطة الهائلة لدول الغرب وتهوّل بسلطة مفترضة للنظام الإيراني أو حتى النظام السوري. نستطيع أن نقول اليوم إن سلطة النظام السوري ونفوذه في لبنان لا يزيدان عن سلطة ونفوذ النظام الجزائري أو التونسي. والنظام السوري والإيراني يفوّضان الأمين العام لحزب الله التصرّف بما يراه ملائماً للمحور. وهذه سلطة محليّة وليس هناك ما يوازيها في الطرف الآخر الخاضع بالتمام للرعاية الغربية الخليجية له. هذا النظام المرسوم في الطائف كان محتّماً له أن ينتج أزمات، وخصوصاً أنه لم يقرّر إذا كانت الطائفية هي في صلب النظام أو أنها شكليّة ومؤقتة. وطلع الطائف بنفس تخريجة دستور ١٩٢٦ بأنها مؤقتة، والمؤقت دائمٌ حتى اشتعال حرب ما في تاريخ لبنان المعاصر.
الحل في لبنان إمّا أن يكون علمانياً بالكامل، وتُنزع الهوية الطائفية من النصوص من دون الغوص في تحليل النفوس، وأن نجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة وأن ننتخب الرئيس من الشعب. أو أن نقبل بالحل الطائفي لكن أن نجعل من الحكم جماعيّاً بأن نقلّد النظام السويسري بتشكيل مجلس رئاسي يتناوب على إدارته ممثّل من طائفة ما بالتناوب والتداول. لكنّ حلولكم الطائفية لا تغريني بالحديث.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@