تعتمد هذه المقاربة التأريخية التحليلية مفهوم «الهوية الحضارية/ الثقافية» بمحتواه الاناسي «الإنثروبولوجي» للدول والمجتمعات موضوع البحث، في تعارض جوهري مع مفهوم «الهوية القومية» بمحتواه العرقي «الإثنولوجي». وعلى هذا المفهوم «الحضاري /الثقافي» ينبني تعريفنا لهويات مجتمعات ودول سادت ثم بادت في شمال العالم العربي الآسيوي، وتحديداً في منطقة الجزيرة الفراتية الممتدّة من جنوب جبال طوروس شمالاً ونزولاً حتى خط الفلوجة تكريت شمال بغداد.
بين الاناسية والعرقية
معنى ذلك، أننا لا نأخذ مقولة الهوية الحضارية بماهيتها العِرقية التي سادت وشاعت في العصر الحديث، ففي سهول الشرق القديم، تنعدم حالات الصفاء العرقي أو «النقاء الرِّسي» في تلك الممالك البائدة. وعلى الأرجح، فلم تكن هذه الحالات والنَّزَعات تهم الشعوب القديمة ودولها كثيراً في غابر الأزمان، على الرغم من الحروب والصراعات المديدة بين شعوب وأمم تلك العهود حول الأراضي الخصبة الغنية بالماء والغذاء أكثر منها حول الأصول والأعراق، بل سجّلنا عدة حالات تخلّت فيها بعض الشعوب غير الجزيرية السامية، كالحيثيين والميتانيين، عن لغاتها القومية ودياناتها، طوعاً أو تماشياً مع موجبات الاندماج المجتمعي والحضاري الدائب، واتخذت الأكدية أو الآرامية والآلهة الرافدانية لغة وآلهة لها، واندمجت في الأمة السائدة أو الأكثر إنجازات حضارية.


إنّ القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية، كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية، والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة، يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلاً للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية «السامية»، بدءاً من الأكديين ومروراً بالآشوريين والكلدانيين وانتهاءً بالآراميين، عرباً لا يجوز التشكيك في عروبتهم، بل إنهم أحياناً لا يستثنون من حملاتهم التعريبية حتى الأقوام والشعوب غير الجزيرية «السامية» كالكرد والأمازيغ وغيرهم. غير أن هاتين الرؤيتين «القوميتين»، المتخاصمتين مظهراً، تنطويان على جوهر واحد نواته النزعة الإيديولوجية النفسية الشاطبة على التنوع والتعدد السلالي الجزيري، والساعية إلى تسييد لونها ونمطها القومي الخاص.
إنّ هذه النظرة الواقعية إلى مفهوم الهوية الحضارية المركبة، ليست ابتكاراً جديداً، بل يمكن أن نجد جذروها في ما عبّر عنه الباحث طه باقر، حيث كتب: «إنّ ما سنذكره عن الأقوام التي استوطنت وادي الرافدين وأسهمت بالأدوار الرئيسية في بناء حضارته سيقتصر بالدرجة الأولى على الجوانب اللغوية وليس بما يطلق عليه الجنس أو "الرِّس" (RACE)» - «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة»، ج1، ص 73. ومعلوم أن المعطى اللغوي ينتمي إلى الفضاء الثقافي الحضاري الأوسع وينأى عن المعطى العرقي السلالي الضيق.
سنحاول تطوير وتنمية هذا المفهوم، لنعطيه مضموناً مادياً تاريخياً أكثر سعة وعمقاً، عَبْرَ ربطه بسياقه التاريخي الواقعي الموثّق بما توفر من أدلة حاسمة، سواء كانت آثارية واناسية وتأريخية، في محاولة للخروج من الإطار الضيق لمفهوم الهوية الحضارية وتوسيعه إلى الحد الذي يسمح لنا بتتبّع التدرّجات في تلك الهيمنة وفي محتوى الهوية وتحولها إلى هوية تعددية، بما يؤكد حقيقة التدامج والامتزاج بين مكوّنات منطقة الجزيرة الفراتية.
لنبدأ بالأسماء العَلَمية: إنّ عبارة «آرام نهرايم»، كما يرى طه باقر (م.س - ص24)، هي عبارة آرامية، وردت في التوراة وتعني أرض النهرين. وأقدم منها، وُجدت عبارة أكدية بابلية بالمعنى ذاته هي «مات بريتيم»، وترجمتها الحرفية هي «أرض الما بين»، وأصبحت لاحقاً تعني الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين والتي تُسمى غالباً منطقة الجزيرة. وهناك أيضاً مصطلح «بيت نارم» (ما بين النهرين)، ومصطلح «نهارينا» الذي أطلق على المملكة الميتانية التي بلغت أوج قوتها حوالي سنة 1350 ق.م، في منطقة الجزيرة ذاتها كما ورد في رسائل تل العمارنة.
وبعد ترجمة التوراة إلى اليونانية (الترجمة السبعينية)، أخذ الإغريق عبارة «ما بين النهرين» وترجموها إلى لغتهم فكانت «ميزوبوتاميا»، وبعد الإغريق جاء الاحتلال الروماني للمنطقة فأمست ميزوبوتاميا اسماً لاثنتين من المقاطعات التابعة للإمبراطورية الرومانية في بلاد الرافدين، إحداهما ظهرت لفترة قصيرة أثناء حكم الإمبراطور تراجان بين عامي 116 و 117 م، والأخرى أسّسها الإمبراطور سيفيروس حوالي عام 198 م، أمّا آسوريا (بلاد آشور) والتي اختزلت لاحقاً إلى «سوريا» اختزال الكل إلى الجزء، فقد أطلقها الرومان على ما سمّاها العرب بلاد الشام (من شمأل أي الشمال). وبعد ترجمة التوراة اليونانية السبعينية إلى اللغات الأوروبية الأخرى اتسع مدلول الكلمة (ميزوبوتاميا) كترجمة حرفية لما بين النهرين وتحول من معنى القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين ليعني البلاد كلها. وظل هذا الاسم بهذه الدلالة في اللغات الأجنبية حتى عودة اسم العراق الحالي في عصر ما قبل الإسلام (عصر الاحتلال الفارسي الساساني)، والذي تعود جذوره إلى العصر الآشوري في القرن الثامن ق.م بلفظ «آراكيا/آراقيا» كما كشف الباحث أولمستيد في كتابة «تاريخ آشوريا».

جدلية الكيانية الجغرافية والأخرى السياسية
إنّ الخلل في النظرة «التعقيمية/ الاستئصالية» إلى هوية وماهية الدويلات القديمة في المنطقة، إذا وضعنا جانباً الدافع النفسي والإيديولوجي الكاره للعرب والمحاوِل الشطب على اسمهم وحضورهم، ينبع أساساً من عدم إدراك كُنْهِ العلاقة الجدلية بين الكيانية الجغرافية والأخرى الثقافية/ الحضارية في سياقهما التطوري، وتفاعل هاتين الكيانيتين، وتحول إحداهما إلى الأخرى بمرور الأزمان. فالبعض، ممن يجهل طبيعة هذه العلاقة، يشطب على الوجود العرقي لشعب ما، ويعتبر الاسم الموجود دالّاً على الكيانية الجغرافية فقط ودائماً، وقد حدث هذا فعلاً حتى مع الكنعانيين الذين قيل إنَّ اسمهم لا يدل على شعب بهذا الاسم، بل على المنطقة «المنخفضة» التي عاشوا فيها.


وحدث مع الآراميين أنفسهم حيث أنكر بعض الكُتاب وجود شعب بهذا الاسم واعتبره مشتقاً من «أور رمثا» أي الأرض المرتفعة، بل إنَّ هناك مَن أنكر وجود شعب باسم الآراميين واعتبر الكلام عنهم تلفيقاً من مؤرّخين غربيين «متآمرين» لأغراض سياسية (فاضل الربيعي مثلاً، في مقالته «خرافة الشعب الآرامي وتخريب تاريخ فلسطين القديم»/ موقع «الجزيرة» 19 كانون الأول 2017)، وهذا كلام يُلقى على عواهنه ولا يصح منهجياً كما سنرى.
إنّ الدليل على وجود هذا الخلل في معالجة موضوع الكيانيات الجغرافية والأخرى الحضارية نجده مثلاً في عرض تحولات اسم «بيت نهرين» الذي يقدّمه هنري كيفا نفسه في مقالة له. فاللافت أن كيفا يؤكد في إحدى الفقرات التي يقدّمها لتحولات اسم بيت نهرين، وربما دون أن يعلم، بقِدَمِ اسم بيت نهرين وكونه يسبق قيام مملكة الرها بعدة قرون. تقول الفقرة: «وقد عُثر على لوحات فخارية تذكر أسماء بعض العبيد الذين قدموا إلى بابل من مدن، تقع في بلاد (مات بيريتم)، وفي كتابة أخرى (مات ناريم)». ويضيف: «وقد أثبت العالِم جاكوب جي فنكلشتاين في بحثه أن هاتين التسميتين هما التسميتان الأكاديتان اللتان أطلقتا على بيث نهرين قديماً» - مقالة بعنوان: «بيت نهرين؛ تسميتها موقعها وحدودها».
ومعلوم أن الدولة الأكدية يعود تاريخ تأسيسها على يد سرجون الأكدي إلى القرن الرابع والعشرين ق.م، أمّا مملكة الرها فتأسّست بعدها بواحد وعشرين قرناً، وزالت من الوجود بعد 180 عاماً؛ فهل يُعقل أن يطلق الأكديون اسم بيت نهرين على مملكة ستنشأ بعد أكثر من ألفي عام، أم أن المنطق العلمي يقول إنَّ الآراميين ورثوا هذا الاسم الأكدي للمنطقة (للكيانية الجغرافية) التي هاجروا إليها والتي تقع فعلاً بين نهرين مثلها مثل بلاد الرافدين الأكبر والأقدم، مثلما ورثوا أسماء الأنهار والروافد وهي أسماء أكدية مثل الفرات وبليخ والخابور؟

هوية مملكتي الحضر والرُّها
يخلط بعض الباحثين المعاصرين بين مملكتين قديمتين نشأتا في شمال بلاد الرافدين (الجزيرة الفراتية)، ويطلقون على كل منهما مملكة «عربايا»، وتعني وفق التفسير الأشيع «العربية»، وهما مملكة الرُّها / أورهاي / أسروينا / أدمة (عمَّرت بين 132 ق.م، و214)، وتقع اليوم داخل حدود تركيا المعاصرة، ومملكة الحَضَر جنوب الموصل في العراق (عمَّرت أقل من قرن بين 185م و241م). فهل نحن إزاء مملكة واحدة أم مملكتين مختلفتين، أم أن هذا الاسم يشمل هذه المنطقة ككيانية جغرافية واحدة نشأت فيها هاتان المملكتان اللتان يصفهما بعض الباحثين بالعربيتين، فيما يصفهما البعض الآخر بالآراميتين والسريانيتين وينفي أي علاقة لهما بالعرب؛ فما هويتهما وموقعهما الجيوسياسي بين الدول العربية وغير العربية القديمة؟
وردت كلمتا عربي وعربايا بملفوظات مختلفة في الكتابات المسمارية الرافدانية، فكلمة عربي، كما يخبرنا عبد الحق فاضل في كتابه «مغامرات لغوية» (ص 17)، ترد بالملفوظات التالية: عَرَبي – عَرْبي – عُرْبي – عرِبي - عَرُبي. ونضيف أنها وردت أيضاً بلفظ «آريبي /آريبو» في اللغات التي ينعدم فيها حرف العين. أمّا الصفة، التي ربما تطورت إلى اسم علم للمنطقة، فوردت بلفظتين: عَرَبيا – عرابايو. كما وردت في اللغة الآشورية بلفظة آريبو كصفة لقائد حربي هو «جنديبو آريبو/ جندب العربي» الذي شارك بجيشه من الهجانة على الجمال في معركة قرقرة سنة 853 ق.م. وما يهمنا هما لفظتا عربايا وعرابايو واللتان تدلان على مسمى أو موصوف واحد.
يمكن القول إنَّ المعطيات التاريخية والجغرافيا والآثارية تؤكد وجود مملكتين مستقلتين؛ الأولى والأقدم هي مملكة الرها «أورهاي»، فأوّل ملوكها هو أريو (132-127) ق.م، وآخرهم أبجر العاشر إبراهاط بن معنو 242-240 م، والثانية التي نشأت بعد الميلاد هي مملكة الحضر وأول ملوكها ولجش (158- 165 م) وآخرهم الملك سنطروق الثاني بن عبد سميا/ والأدق؛ عبد سميسا، نسبة إلى الرايات المقدّسة التي كانوا يسمونها الـ«سميسا» التي كانت من معبوداتهم (200-241 م).
وثمّة العديد من الممالك والإمارات الأخرى الناطقة بالآرامية، يحصي منها طه باقر ست ممالك أو إمارات - مدن. أمّا الباحث الهولندي في حقل الدراسات الآرامية، البروفيسور هولْغَر غزيلا، فيذكر الإمارات الآرامية الأولى في الفرات الأوسط وهي تيمانا، بيت بحياني، بيت زماني، بيت عديني، والإمارات الشمالية بيت أغوشي، يأدي، والإمارات الوسطى والجنوبية حماة، دمشق، صوبا، رحوب، ومعكا - مقابلة معه، موقع «ضفاف» 18 كانون الأول 2017.
ولكنَّ الآراميين، رغم هذا الفشل السيا-حضاري، نجحوا - كما يسجل طه باقر وآخرون - في إنتاج تراث ثقافي ولغوي عريض فاق تراث جميع الأمم والشعوب السابقة لهم في المنطقة، حيث تحوّلت اللغة الآرامية إلى لغة دولية في شمال غربي آسيا، وأنجزوا الثورة الكتابية الثانية بعد أن أنجز الرافدانيون الجنوبيون الثورة الأولى بابتكارهم الكتابة المسمارية على الطين، أمّا الثانية فكانت الانتقال إلى الكتابة الأبجدية على ورق البردي وجلود الحيوانات وقد أصبحت اللغة الآرامية هي لغة العلم والثقافة والدولة منذ الدولة الأكدية الحديثة «الكلدانية» واستمرت خلال فترة الاحتلال الفارسي لبلاد الرافدين والشام وبلوغه وادي النيل.


أمّا نسبة ابتكار الكتابة على الجلود وورق البردي إلى الدولة الفارسية في زمن داريوس الأول، كما ذكرنا سهواً ذات مقالة، فليس صحيحاً، بل إنّ الدولة الفارسية استعملت الإنجاز الآرامي الموجود قبلها، وحدث ذلك بموجب قرار الملك الفارسي باتخاذ الآرامية لغة رسمية للدولة - «آرامية العهد القديم»، ص24، د. يوسف متي قوزي. وفي عهد داريوس كان اليهوذاويون المسبيون في بابل، قد تخلوا عن أبجديتهم القديمة وكتبوا أجزاء من التوراة وخاصة سفر عزرا وأجزاء من سفر دانيال باللغة الآرامية وأبجديتها ذات المربعات. ولا تزال هذه الطريقة في الكتابة قائمة حتى اليوم (ويسمّونها في «إسرائيل» الحروف العبرية المطبعية وينكرون أنها آرامية).
ومن المؤسف حقاً أن يخضع بعض العرب والآراميين المعاصرين للابتزاز الصهيوني فيتخلون عن استعمال هذه الأبجدية الآرامية المربعة وعن اسمها - كما حدث في المعهد العالي لتعليم اللغة الآرامية في بلدة معلولة بسوريا قبل سنوات قليلة. لقد تراجع هذا المعهد عن اعتماد الأبجدية الآرامية المربعة لأن الصهاينة في الكيان - كما قيل في التبرير - استولوا عليها ونسبوها إلى أنفسهم، وكان الأجدر بالقائمين على المشروع أن يتمسكوا بأبجدية أجدادهم ويفضحوا لصوص الحضارات الصهاينة المعاصرين لا أن يتحولوا عنها إلى أبجدية إحدى لهجاتها وهي الأبجدية التدمرية الأحدث عهداً، فهذا أمر لا يمكن وصفه إلا بالخضوع للابتزاز الصهيوني واستسلام مجاني له.
إنّ كتابات اليهوذاويين المسبيين في بابل القديمة، والتي يسميها د. متي قوزي «العبرية» لم تكن «عبرية» إلا على سبيل التشبيه والمجاز؛ فالتوراة نفسها كانت تسمي اللغة التي تكلّم بها بنو إسرائيل في فلسطين «شفة كنعان»، أي اللغة الكنعانية، أمّا ما يسمّى باللغة العبرية (لاشون عبريت = اللسان العبري)، كما تكتب الباحثة الجزائرية هاجر شيخي، فلم تظهر كمصطلح إلى الوجود إلا مع البدء بتدوين المشناة (المثنى) كتفاسير توراتية في القرن الثالث الميلادي، وتخلُص شيخي إلى أن العبرية هي في الحقيقة لهجة من لهجات اللغة الآرامية، ورغم تسميتها اللغة العبرية فهي لم تكن لغة «جميع العبريين» بل لغة فرع منهم هو فرع بني إسرائيل (أبناء يعقوب) - «الكنعانيون وتأثيرهم على اليهود»، ص 41.
أمّا الهوية الحضارية (الثقافية) للمملكتين -الرها والحضر- فالراجح أن مملكة الرها كانت ثنائية القومية مع غلبة للآراميين. أمّا الحضر، فكانت ذات غالبية عربية ولغتها المكتوبة هي الآرامية التي حلَّت بأبجديتها الصوتية السهلة محل الكتابة المسمارية المقطعية الرافدانية المعقّدة وصارت سائدة في الشرق الجزيري «السامي» آنذاك وحتى في دول فارس، أو هي هوية عمادها مزيج حضاري من العربية والآرامية.

مزيج حضاري ودول ثنائية الهوية
إنَّ هذه الفكرة حول المزيج الحضاري، أو الثنائية القومية في الممالك والإمارات الآرامية والعربية القديمة، قريبة أيضاً من الفكرة الخاصة بالعلاقة بين اللغتين العربية والآرامية والتي عبّر عنها الباحث الهولندي البروفيسور هولغر غزيلا، قال فيها: «يمكن القول إنَّ الآرامية بمثابة ابنة عَمٍّ للعربية، وليست شقيقة مباشرة، فاللغتان ساميّتان غربيتان، لكن الآرامية تنتمي إلى الفرع السامي الشمالي الغربي، أو إلى لغات بلاد الشام القديمة بالمعنى الجغرافي» («ضفاف» 18 كانون الأول 2017)؛ أي أنه يضع الآرامية بالتزامن، أو إلى جوار العربية المنتمية إلى اللغات السامية الشمالية الغربية أيضاً، ولكن إلى جنوبها (وشمال الجزيرة العربية). كما يوضح فكرته في موضع آخر بقوله: «لا يمكن الحسم بهيمنة العربية في المناطق التي ذكرت (تدمر والحَضَر وأورفا)، فالأسماء تهاجر كما تعلم وليست دليل انتشار عرقي. هنا يأتي دور الدين والثقافة. الأسماء تهاجر مع الأفكار. ولتلافي التعميم في حالة شرقي المتوسط في العصر الروماني، يمكننا الحديث عن مجتمعات ثنائية اللغة، آرامية-عربية، في سوريا الوسطى والشمالية، مع أكثرية عربية في الأردن وشمال الجزيرة العربية (الأنباط)».
إنّ هذه الفكرة التي يقدّمها غزيلا حول الفرق اللغوي واللهجوي بين العربية والسريانية يمكن استلهامها بشيء من الحذر عند الحديث حول المكوّنات العرقية المتجاورة والمتداخلة في المنطقة في العهدين الفارسي فالروماني، بهدف رفض المنطق القومي الإيديولوجي المعاصر والساعي لفرض هوية عرقية واحدة هي السريانية، أو العربية في حالتنا، على سكان الممالك القديمة في هذه المنطقة، وخصوصاً في منطقة مملكة الرها. أمّا في ما يخص هوية مملكة الحضر الثقافية والسكانية فيبدو أن هويتها العربية كانت أكثر نضجاً ووضوحاً.
لقد عُثر على دليل آثاري يؤكد عروبة الحضر، أو في الأقل يؤكد ما سمّاه هولغر غزيلا «الغالبية العربية»، وقبله توصّل الباحثان العراقيان د. يوسف قوزي ود. محمد روكان في كتابهما «آرامية العهد القديم»، إلى هذا الاستنتاج، فكتبا: «وقد كان سكان هذه المملكة - الحضر - أخلاطاً من الآراميين والعرب ويبدو أن القبائل العربية كانت تشكل غالبية سكانها لذلك يطلق عليها اسم (عربايا)، أو ربما لأن ملوكها كانوا من أصل عربي» (ص 30). عوداً إلى الدليل الآثاري، وهو نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق، ونصّه بالآرامية: «صلما دي سنطروق ملكا دي عرب (ز-ك-يأ-) بر نصرو مريا بر نشريهب». وترجمته الشائعة هي: «تمثال (صلما /قارن مع صنم العربية) سنطروق، ملك العرب المنصورين/ الظافرين، ابن نصرو سيدي، ابن نشريهب». ولكني أتحفظ على عبارة «ملك العرب المنصورين/أو الظافرين» التي أرجحُ أنها لم ترد حرفياً في العبارة الآرامية بل وردت «ملك دي عرب زكأ» وأعتقد أنها تعني، كما يوحي السياق، «ملك العرب الظافر»، دون أن أجزم بذلك لأنني لا أجيد اللغة الآرامية، ولكن المعنى العام المؤكد لعروبة الملك ورعيته لن يتغير كثيراً.
ثمّة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان (الجيري) يؤكد ما تقدّم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية وقد دُوِّنت عليه بالآرامية في سطرين وترجمتهما: «تمثال سنطروق ملك العرب ابن نصرو سيدي».
وفي كِلا النصين، لا يمكن نسبة كلمة «العرب» إلى البادية أو الصحراء، كما يعتقد البعض ممن ينفون عروبة مملكة الحضر، بل إلى هوية السكان. وقريب من هذا الاستنتاج ما يورده د. قوزي الذي فسّر كلمة عربايا، في هامش له على ص 45 (م. س)، قال فيه إنه آتٍ من سكانها المختلطين من الآراميين والبدو الرحل (رعاة غنم/ عِربايي).

مملكة الحضر في الأدب العربي قبل الإسلام
ومن الأدلة الثقافية التي تفيدنا في سياق تأكيد عروبة هذه المملكة الكاتبة بالآرامية، يمكن إيراد اهتمام المؤرّخين والشعراء العرب في عصر الإسلام وما قبله بقصة مملكة الحضر وملوكها، فقد ذكروها في أشعارهم، وسمّوا أشهر ملوكها؛ قال ياقوت الحموي (ت 1229) إنّ مؤسسها هو الملك الساطرون، وهي تحريف من «سنطروق» كما يرجح الباحث فؤاد سفر في الكتاب الذي ألّفه بالاشتراك مع زميله طه باقر «المرشد إلى مواطن الآثار» - ص33.
في هذا الكتاب ينقل لنا فؤاد سفر وصف الحموي لأبراج عاصمة الحضر الستين، وتفاصيل سقوط مملكة الحضر وتدميرها ومقتل ملكها الضيزن / سنطروق الثاني، بأيدي جنود الملك الفارسي شاهبور، بعد صمود رائع أمام جيوشهم. وقد ذكر مملكة الحضر مؤرّخون وأدباء عرب كثر منهم ابن قتيبة وابن إسحاق، وأورد أبو الفرج الأصفهاني وياقوت شعراً عربياً مقفّى لشعراء عرب من عصر ما قبل الإسلام، منهم مثلاً عمر بن آلة وفقَ رواية أبي الفرج الأصفهاني، أو جدي القضاعي حسبَ رواية ياقوت، كما نُسبت الأبيات إلى عمرو بن كلثوم، في رثاء الحضر وأهلها:

أَلَم يَحزُنكَ وَالأَنباءُ تَنمي
بَما لاقَت سَراةُ بَني العُبيدِ
وَمَقتَلُ ضَيزَنٍ وَبَني أَبيهِ
وَإِخلاءُ القَبائِلِ مِن يَزيدِ


وبنو العُبيد - بضم العين - هم بطن من عشيرة سليح من قبيلة قضاعة القحطانية اليمنية. كما ورد ذكر مملكة الحضر في قصيدة للشاعر الجاهلي عَدي بن زيد العبادي التميمي (توفي سنة 587 م وكان شاعراً ومترجماً وديبلوماسياً، عربياً مسيحياً من أهل الحيرة) التي خاطب فيها النعمان بن المنذر عاهل مملكة المناذرة جنوبي العراق مذكّراً إياه بمأساة الحضر وملكها الضيزن وشعبها.
عوداً إلى موضوع العلاقة بين مملكتي الحضر والرها، وأيهما كانت تسمّى عربايا، يمكن القول إنّ دليلاً آثارياً آخر تم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال. وهذا الدليل هو لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم «الحضر» كمركز لمنطقة «عربايا» (مملكة عربايا). خلال فترة الاحتلال الفارسي البارثي، من القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي، والنقش معروض في المتحف العراقي في بغداد.

النفي الإيديولوجي للحضور العربي
إنّ مملكة الرُّها لا تختلف من حيث الهوية الحضارية كثيراً عن مملكة الحضر، على الرغم من احتمال غلبة الطابع الآرامي على الأولى، والعربي على الثانية، فأسماء ملوك الرها «الأباجرة» (جمع أبجر) والتسميات الأجنبية التي أُطلقت عليها تؤكد أنها على الأرجح، كشقيقتها الحضر، مزيج سكاني وثقافي من العرب والآراميين. وعلى هذا، فإنَّ الخلاف حول هويتها وهل هي عربية أم آرامية (سريانية) فقط ولا علاقة لها بالعرب، هو خلافٌ نافل ولا يخلو من شحنة إيديولوجية وعاطفية معاصرة ولكنها لا علمية. أمّا إضافة الفرس الآريين كمكوّن ثالث لسكان الحضر كما يفعل بيرتولينو (R. Bertolino)، فهو أمر لا يمكن القبول به بحثياً، فالفرس دخلوا المنطقة عدة مرات كجيوش غازية، شأنهم شأن الإغريق والرومان، لأراضي ممالك شعوب أخرى مختلفة عنهم لغة وهوية، ثم رحلوا عنها برحيل جيوشهم.
نجد مثالاً على هذه النظرة الإيديولوجية القومية الباترة لدى هنري بدروس كيفا، وهو من القائلين بأن مملكة عربايا تعني مملكة الرها لا الحضر، فهو ينفي أن تكون عبارة «ملكا دي عرب زَكّأ» الآرامية تعني «ملك العرب المظفّر» كما يقول منطوقها، بل تعني «ملك البادية المظفر» مع اعترافه بأن الرها بعيدة نسبياً عن الصحراء. بمعنى، أن كيفا يحاول تحويل المعطى الإثني الصريح والمعبّر عنه بكلمة «عرب» إلى آخر جغرافي محتمل وبعيد نسبياً عنها هو البادية أو الصحراء التي جاؤوا منها وليس بسكانها.
من الحجج التي يوردها كيفا أن القبائل العربية كانت تتنقّل من الصحراء العربية الجنوبية إلى البادية السورية فعلاً، ولكنها لم تستقر في بيت نهرين وعاصمتها الرها في «بيت عربايا» ولهذا بقيت بيت عربايا آرامية! أمّا لماذا لم يستقر العرب في مملكة تحمل اسمهم وظلوا يعيشون بمحاذاتها في الصحراء المجاورة لها، ولماذا نَسب الملك الحضري سنطروق المظفر نفسه إلى العرب ولم ينسبها إلى الآراميين أو إلى مملكته الحضر، وماذا عن سلسلة ملوك الرها (الأباجرة) وغالبية أسمائهم العربية؟ فهذا ما لم تفسره لنا هذه القراءة.
ويضيف كيفا حجة أخرى يصفها بالجغرافية فيقول: «لقد أطلق علماء التاريخ والجغرافيا القدامى من اليونانيين تسمية "بلاد العرب" على المناطق الواقعة جنوب سوريا وشرقي نهر الأردن وليس على المناطق الواقعة قرب الرها أو نصيبين»، ما قد يعني أن بلاد العرب لا تشمل وادي الرافدين ولا منطقة أعالي الجزيرة الفراتية. وعبثاً يحاول السيد كيفا إبعاد العرب عن مملكته الخاصة بكل الوسائل، فإذا ما علمنا أن هذه المنطقة التي نسميها بلاد الشام وسهول بلاد الرافدين حتى منطقة الحضر وشمالها الرها هي منطقة مفتوحة لا عوائق طوبوغرافية فيها، تعزل أجزاءها عن بعضها، وهي مفتوحة تماماً على شبه الجزيرة العربية، وهي أيضاً صفيحة تكتونية واحدة تمتد من جبال طوروس شمالاً وحتى البحر العربي وساحل حضرموت جنوباً وتسمى الصفيحة التكتونية العربية (Arabian tectonic plate)، وإنّ الكيانات السياسية التي نشأت فيها منذ أقدم الأزمان كانت تتسع أحياناً لتشمل هذه المنطقة كلها بل وتعبر أحياناً صحراء سيناء نحو وادي النيل كما حدث في عهد الآشوري آسرحدون سنة 673 ق.م، وتضيق أحياناً أخرى في عهود انحطاطها وضعفها فتنكمش إلى حدود عواصمها الأولى، إذا ما علمنا كل هذه الحيثيات، أصبحت وجهة النظر النافية لعروبة مملكة الحضر متهافتة ولا معنى لها، وبالمثل لا يمكن القبول بالشطب على الوجود العربي الممتزِج والمتداخل مع الوجود الآرامي في مملكة الرها.
باختصار، يمكن الاتفاق مع جورج شمعون على أنَّ هوية مملكة الرها هي مملكة آرامية لغةً، بدليل أن غالبية الآثار والكتابات التي عُثر عليها فيها كانت باللغة الآرامية السائدة. وسيادة اللغة لا يمكن اعتبارها دليلاً حاسماً على السيادة العرقية لأهل اللغة، فالآرامية كما قلنا كانت لغة الدولتين الفارسيتين (الأخمينية والبارثية)، أمّا أسماء الملوك فهي مزيج بين العربية والآرامية (بينهم ملوك بأسماء عربية بحت كعبدو وبكرو ومعنو وأبجر، وأخرى آرامية كأريو وسومقا)، وهذا ما يجعلنا نميل إلى مقولة الهوية الثنائية الآرامية العربية للمملكة، مثلما كانت حال النسيج السكاني كله لمنطقة الجزيرة الفراتية في شمالي بلاد الرافدين.
يُفهم من الإحداثيات الكرونولوجية المسجّلة أن المملكتين - الرُّها والحضر - قد تزامنتا لفترة قصيرة، ثم زالتا من الوجود بفرق زمني قد لا يتجاوز العام الواحد. وهناك معلومات تأريخية أخرى تؤكد أن المملكتين تحالفتا في فترة تاريخية معينة مع إمارة حيداب ومركزها أربيل وحاكمها المتهوِّد إيزاط الأول سنة 194م، لمواجهة الهيمنة الرومانية وانتهت تلك المواجهة بهزيمة الحلفاء وتحويل مملكة الرها شبه المستقلة إلى ولاية رومانية تابعة.
إنّ القول بالكيانية الجغرافية المتحوّلة إلى أخرى حضارية تأريخية ثنائية أو مختلطة السكان عرقياً، لا يعني - إذا كان الحديث هنا عن العرب والآراميين في مناطق الجزيرة الفراتية - أي تأكيد أو تأييد لما يزعمه بعض المعاصرين لوجود سكاني أو ثقافي آشوري وكلداني، فالآشوريون والكلدان كيانات حضارية وسياسية انتهت بانتهاء دولها الإمبراطورية البائدة، وذابت كشعوب في شعوب وأمم أخرى طالعة، ولا يمكن من الناحية العلمية جعل الآراميين السريان امتداداً عرقياً للآشوريين أو الكلدانيين القدماء أو العكس في عصرنا، ولأسباب سياسية وإيديولوجية، وهذا موضوع يستحقّ مقاربة منهجية علمية مفصّلة أخرى مستقبلاً.

[هذه خلاصات مكثّفة من دراسة مسهبة حول الموضوع ستُنشر لاحقاً كاملة ضمن مجموعة دراسات في كتاب]

* كاتب عراقي