هل تسمعون عن العلاقة المميزة بين كل من الزوجين كلينتون وأوباما وبول كاغامي رئيس رواندا؟ هل تساءلتم ما سرّها؟ أو هل سمعتم عن قرب جون غارنغ وموسيفيني من عائلة بوش؟ وتساءلتم عن سرّ ذلك؟ السرّ واحد في كل الحالات: مجازر ونهب وعداء طائفي ديني (للكاثوليك والمسلمين وأصحاب الديانات الطبيعية) أبقى شعلة الحروب منخفضة الوتيرة في المنطقة، والفارق أن الأوّلين تجمعهم الليبرالية، بينما اللاحقون هم بروتستانت محافظون. أينما جادت الأرض بثرواتها «سيكون هناك دم» (There will be blood)، يؤكد آخر أفلام الويسترن العظيمة، هذا ذنب كل من السودان والكونغو وما جذب إليهما نوعاً خاصاً من الحروب، التي يكون العنف فيها غاية لذاته، قد يوجه خطابياً ضد حكومة أو نظام أو «ديكتاتور»، لكنه مطلوب حتى في غيابهم، لأن الحروب منخفضة الوتيرة تؤمّن أفضل بيئة لسرقة الثروات بأبخس الأثمان. وفي حالة السلع الاستراتيجية، مثل الكوبالت أو الصمغ العربي، فيتم ضمان مستقبل النهب قبل حاضره بوأد أيّ سلطة قد تتفرغ مستقبلاً للمفاوضة على شروط هذا النهب.
الموضوع لا يتوقف هنا، فالاقتصاد الجيوسياسي للمآسي الإنسانية (والاصطلاح يعود لكيث سنو)، الناتجة من هذا النوع من الحروب، يعمل كشبكة تكاملية من المصالح، من جهة فأنت تؤمّن سوقاً لبيع السلاح الكاسد، وخزاناً بشرياً سيّالاً ومتحركاً للمسلحين (هكذا انتهى الأمر بالسودانيين يقاتلون اليمن)، ومن جهة فإن مخيمات اللجوء هي الفردوس لكبرى الشركات الزراعية الأميركية التي تستفيد من تجارة المساعدات فاحشة الربح، وخصوصاً لتسويق الغذاء الفاسد والكاسد وتجريب الأغذية المعدّلة جينياً من دون مساءلة؛ قد تكون Operation Lifeline Sudan 1989-2005 الأكبر في التاريخ قبل المأساة السورية - ونجحت في إمداد المسلحين بكل شيء، بينما فشلت في تحقيق هدفها المعلن تجنّب المجاعة، كما أنها تستخدم كسلاح استراتيجي من قبل الميليشيات لترويع السكان وإخضاعهم.
الشيء نفسه ينطبق على كبرى شركات الأدوية (عندما قصف مصنع الشفاء في الخرطوم عام 1998 بعد عام واحد من تشغيله كان قد أمّن 60 - 90% من حاجة السودان للقضاء على أكثر الأمراض فتكاً بالبشر والماشية، فضلاً عن الزراعة). كما يؤمّن اللجوء طريقاً سهلاً للاستيلاء على الأراضي (استطاعت الـ USAID، من خلال مساعدة شركات الأغذية الأميركية الكبرى، من السيطرة على مناطق زراعة الصمغ العربي المحوري لصناعاتها والذي تسيطر السودان على 80% من صادراته عالمياً). ومن ناحية أخرى، تؤمّن مخيمات اللجوء تجنيد الأطفال المقاتلين، كما حصل في جنوب السودان (بشهادة جون براندرغاست نفسه قبل أن يحسن روجر وينتر تربيته ويرث دوره في الإقليم)، علاوة على تأمين سوق عمل برواتب مغرية وتدريب مهني لديبلوماسيي المستقبل الغربيين.
هناك تسريب لحديث مسؤول في شركة «بلاك روك» (التي حصلت على عقود لإعادة إعمار أوكرانيا) يشرح فيه لأحدهم أهمية الصراعات لتحقيق هوامش ربح فادحة، هنا المستوى الأعظم للنهب حيث يلعب البنك الدولي وصندوق النقد لإنهاك الدول المهترئة بفعل الحروب لآخر رمق، فتدخل صناديق التحوط لإنزال الضربة القاضية. هذا السياق الذي استثمر فيه كل من بول سنغر، مدير صندوق «إيليوت» السيئ الذكر في الإقليم، وكذلك المحسن وراء المجتمع المفتوح جورج سوروس وصناديق تحوطه، حتى إن له استثمارات مشتركة في دول المنطقة مع مادلين أولبرايت (للأسف، رحلت ولم تُسأل إن كان قتل عشرات الملايين من الأفارقة وتهجير عشرات أخرى مقابل هامش أرباح فاحشة أمراً مستحقاً كما أكدت حين سئلت عن قتل نصف مليون طفل عراقي).
أمّا في الجانب الجيوسياسي، فقد عملت المنظمات على إمداد المسلحين خلف خطوط العدو بكل احتياجاتهم، وهي مهمة عادة ما تتكفل بها قوات المظليين في الجيوش، حتى إن الضلع النرويجي في الترويكا المعادية للسودان كان قد أرسل أحد أفراد الحرس الملكي إلى الحدود الجنوبية للسودان، وهو أيضاً ضابط مظلي سابق، ووصل إلى هناك ممثّلاً عن منظمة NPA التي تدّعي أنها تمثّل الشعب النرويجي ونقاباته. وقد قام الرجل بإمداد الجيش الشعبي لتحرير السودان بشكل مباشر، الأمر الذي أحرج الحكومة النرويجية وضيقت تمويل المنظمة، فتكفل روجر وينتر بتأمين تمويل لهم من الـ USAID. هذا عدا عن الدور الاستخباري الذي تلعبه هذه المنظمات في عمق مناطق الصراع.
أمّا في ما يخصّ إمداد المسلحين من أمام خطوط العدو وأعينه، فإن مفاوضات إمداد المساعدات وبرامج المنظمات دعمت المسلحين أينما احتاجت إليهم واشنطن، بشهادة روجر وينتر نفسه. بل إنه شهد بأن أميركا استخدمت الطيران الخاص ببرنامج الغذاء العالمي (وهي أكبر داعميه، وشركاتها تستفيد من عقوده وخصوصاً في مجال النقل الجوي) للإشراف على الأوضاع المتدهورة في دارفور من الجو، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة السودانية تستهدف أي طيران تعتبره معادياً. ولا تتوقف المسائل هنا، ومرة أخرى بشهادة وينتر، فقد شكلت البرامج الزراعية التي قدّمتها وكالة التنمية الأميركية للسودان والتي اضطرّت السودان إليها بعدما دمّر معمل أدويتها الوحيد، توريطاً تدريجياً للبشير في اتفاق السلام الشامل مع الجنوب، وفتحت موطئ قدم للوكالة (وبالتالي للأميركيين وحلفائهم من المسلحين) في مناطق استراتيجية كان من الصعب الوصول إليها. والأهم من كل ذلك قول وينتر بأننا لم نورطهم باتفاق سلام فحسب، بل كان في الحقيقة دستوراً جديداً يغيّر نظام الحكم في السودان.
هكذا أدار الأميركيون الحدود والصراعات في الإقليم ورفدوا المنظمات التابعة لكبرى الشركات الناهبة (تلقب مجموعة المنظمات/ الشركات الأكثر تعاقداً مع الـ USAID بـ Beltway Bandits قطاع طرق الحزام الدائري، وذلك إشارة الى مواقع إداراتها المتمركزة في الحزام الدائري الذي يلفّ مراكز صنع القرار في واشنطن وإشارة إلى لصوصيتها). وإذا نظرت إلى قائمة الداعمين للمنظمات الكبرى المعنية في قضايا اللجوء، فلن تجد كبرى الشركات الزراعية والكيماوية فحسب، بل ستجد نجوم المجمع الصناعي العسكري وكبرى شركات التنقيب عن النفط والتعدين، لتكتمل بذلك دورة الاقتصاد الجيوسياسي للمآسي الإنسانية.
ما حصل في هذه المنطقة، وفي السودان تحديداً، كان نموذجاً أرادت الإدارة الأميركية استنساخه، لا بل كان انفصال السودان نقطة الانطلاق الحقيقية لما سمّي بالربيع العربي، وهو ما نجح ضد ليبيا وشعبها إلى حد كبير، لكن لا يمكننا أن نتخيّل مصيرنا هنا لو نجح هذا المشروع في المشرق العربي، فلولا مقاومون وشهداء ومحور أفشلوا المشاريع الأميركية وعلى رأسها «الشرق الأوسط الجديد»، لكنا جميعنا ضحايا في مرمى النيران المستدامة للإنسانية الأميركية، ومهما قلنا أو فعلنا فلن نفِيَ كل هؤلاء الشهداء وعائلاتهم حقّهم من الشكر والعرفان يوماً.
[في الجزء التالي من السلسلة، سنلقي ضوءاً على مصيدة المفاوضات تحت نيران الحروب منخفضة الوتيرة، التي وقع فيها السودان وكيف أحسنت واشنطن ابتزاز بلد اللاءات الثلاث وإخضاعه بالتدريج]

* كاتبة عربية