«...بالتأكيد ثمّة تناقضات لم نواجهها بعد (في ثورتنا)، لقد رأينا ثورات أخرى تولد وتنمو وتموت أحياناً. ولربما نعتقد أن ذلك لا يحدث إلا للثورات الأخرى؛ حسناً يمكن أن يقع ذلك لثورتنا أيضاً»[سانكارا- خطاب سنوية الثورة الرابعة 4 آب 1987]

«شعرنا أن لدينا للمرة الأولى زعيماً يهتم بالشعب من صميم قلبه، وقد تداعت تلك الآمال عند قتله؛ ورأينا (من ثم) اغتياله خيانة ألقت بتبعاتها على جميع أرجاء أفريقيا»
[أبيولا إريلي]


صدّرت صحيفة «نيويورك تايمز» قصّتها عن اغتيال الرئيس البوركيني الشاب توماس سانكارا في 15 تشرين الأول 1987 عن عمر لم يتجاوز 38 عاماً، وعلى خلفية تأكد معلومات تورّط صديقه وذراعه اليمنى بليز كومباوري في العملية، بعنوان «موت الصداقة في انقلاب دموي»، ولم تحل هذه الحقيقة دون تولي الأخير رئاسة بلده منذئذ حتى عام 2014، ثم الحكم عليه في نيسان 2022، في ظل غضب شعبي مكتوم لعقود، بالسجن مداناً بقتل سانكارا، ما شكّل، بدوره، أفق عمق الثورة «العسكرية- الشعبية» الراهنة ضد الهيمنة الفرنسية المباشرة أو عبر أدواتها «الوطنية» (التي كان كومباوري أبرزها في السنوات الأخيرة).
ومثل حنين الشعوب الأفريقية في إقليم الساحل وغرب أفريقيا (وربما خارجهما) إلى تجربة سانكارا في استقلال بلاده وتنميتها، ورفع صوره في جميع التظاهرات الداعية لخروج فرنسا أو الداعمة لـ«الانقلابات العسكرية» في دولها، إشارة لا تخطئها العين إلى وصول دولة ما بعد الاستقلال في أفريقيا لمرحلة فاصلة من الوعي بضرورة تجاوز الارتباط بـ«المتروبول» الغربي، وضمان عدم وصول «خونة الثورات» إلى الحكم مجدّداً (كما جرت الأمور في أحيان كثيرة) وتحويل بلادهم إلى «حقول دم» لقاء دعم خارجي لـ«هؤلاء الخونة»، محصّل بالأساس من هوامش ضئيلة من عائدات نهب موارد هذه الدول الأفريقية وشعوبها.

طريق سانكارا إلى السلطة: التحرّر والتفاعلات العسكرية-المدنية
ظهر توماس سانكارا في المشهد السياسي البوركيني كمحصّلة طبيعية تماماً لمسار العلاقات العسكرية-المدنية في البلاد منذ استقلالها وما شهدته من انقلابات بدءاً من انقلاب عام 1966 الذي سبقته حالة سخط شعبي، مدعومة بتحرّك النقابات إزاء الفساد الحكومي. وكان الانقلاب، حسب قراءات لاحقة من أحدثها دراسة دانيل إيزينغا عن الانقلابات العسكرية في بوركينا فاسو في عمل هام عن هذه الظاهرة في أفريقيا جنوب الصحراء (2021) (1)، حلاً للوضع المتردي ونزعاً لفتيل أزمة كانت مرشحة للتصاعد بعد الإجراءات التقشفية الصارمة التي تبنّاها نظام الرئيس موريس ياميوجو نهاية عام 1965ودعوة النقابات لإضراب عام في مطلع عام 1966. ثم مطالبة النقابات نفسها، بعد تزايد وتيرة التظاهرات وخروجها عن السيطرة على الأرض، للجيش بالتدخّل لعزل الرئيس؛ الأمر الذي استجاب له العقيد سانجولي لاميزانا وقاد نخبة من كبار الضباط للتفاوض مع الأول، ونُقلت السلطة بالفعل إلى لاميزانا ليقوم أوّل نظام عسكري في البلاد وظلّ على رأسه حتى نهاية 1980، ولم تفلح في عهده محاولات وضع نظام التعدّدية الحزبية في البلاد موضع تنفيذ إلا لفترة وجيزة (1970-1974). ويمكن القول إن نظام لاميزانا كان نظاماً عسكرياً-مدنياً مختلطاً احتفظ فيه الرئيس بمنصبَي قائد الجيش ورئيس البلاد قبل أن يحظر أنشطة الأحزاب السياسية نهاية عام 1974، ثم يستقيل في عام 1978 من منصبه العسكري ليخوض انتخابات هذا العام ويفوز بها في الجولة الثانية في انتخابات اتّسمت نسبياً بطابع المنافسة، وإن لم يمكنه هذا الفوز من مواجهة الفساد المستشري في أجاء البلاد؛ لتشهد انقلاباً ثانياً بقيادة العقيد ساي زيربو نهاية عام 1980 تم على إثره عزل لاميزانا وإقالة حكومته.
تكشف هذه السياقات باختصار عن تعمّق مشكلات دولة ما بعد الاستقلال البنيوية في بوركينا فاسو (القائمة حتى الوقت الحالي) وإعاقتها أيّ قدرات تغييرية للفكاك من أسرها حتى في حال توفّر إرادة سياسية مشروطة، كما في تجربة لاميزانا في نهاية عهده. كما يتضح من تلك السياقات أن الجيش البوركيني ظل القوة الفاعلة والوحيدة تقريباً في إدارة البلاد سياسياً. وقد ظهر دور سانكارا بشكل أوضح في عهد زيربو (1980-1982) الذي سعى بدوره جاهداً لتحجيم نفوذ ضباط الجيش ذوي الميول اليسارية ومن بينهم سانكارا الذي فاق أقرانه بتمتعه بكاريزما لافتة أوغرت صدور عدد من مناوئيه ورفاقه على حد السواء. وحظي زيربو بدعم الجماعات المحافظة داخل الجيش تخوفاً من نفوذ صغار ضباطه. كما عمد زيربو إلى توجيه «ضربة استباقية» إلى هؤلاء الضباط «اليساريين» (والذين التحق كثير منهم بالجيش في عهد لاميزانا)، ودفعت هذه السياسة كبار ضباط الجيش إلى العمل على تفادي مزيد من انقسام مؤسستهم بإقالة زيربو وتكوين «حكومة وحدة» بين المحافظين واليساريين بقيادة النقيب سانكارا الذي تولّى منصب رئيس الوزراء بينما استأثر جان-بابتيست ودراوجو بمنصب الرئيس، وفشل تماماً في مجاراة شعبية سانكارا الطاغية أو حتى امتلاك الحد الأدنى من القدرة على إدارة مهام منصب الرئيس.
وتسارعت الأمور بعد سجن سانكارا، ما أثار فرق صغار الضباط والجنود المتعاطفين مع الأول وصولاً إلى إعلان فرقة المظلات النخبوية عصيانها العسكري والضغط على الحكومة للإفراج عنه والتحفّظ عليه في منزله حيث تمكن رغم ذلك من تنسيق العمل مع رفيقه النقيب بليز كومباوري للقيام بانقلاب 4 آب 1983 الذي جاء بسانكارا لقيادة البلاد منفرداً تقريباً حتى اغتياله بعدها بنحو أربعة أعوام فقط.

تجربة سانكارا في رؤية شعراوي وعبد الرحمن: نظرة عن قرب
قدّم البروفيسور حمدي عبد الرحمن عملاً تأصيلياً تناول سيرة سانكارا بوصفه «جيفارا الأفريقي» (2015) (2)، فيما عدّه المخضرم في الشأن الأفريقي حلمي شعراوي، في تقديمه الهام للعمل، اختياراً صائباً، بل وعدّه أفضل من اقترانه بفرانز فانون وأميلكار كابرال (بكل التشابه الأيديولوجي القائم بينهم ولا سيما في مسألة القاعدة الريفية للتحرّر الوطني)، لعدة أسباب أبرزها سمة «الأسطورية» الثورية التي اكتسبها سانكارا في حياته القصيرة للغاية، وتبنّي سانكارا فكرة «البؤرة الثورية»، أو «الفوكو» بمعنى الحلم الأسطوري الذي رأى فيها جيفارا «أن الحرب الثورية لا يمكن أن تهزم»، ما عدّه شعراوي اختصاراً «جوهر صعود وانتحار سانكارا».
بأي حال، فقد قدّم عبد الرحمن، في عمله الذي سبق به جهوداً أخرى لتناول سيرة سانكارا، من بينها كتاب شديد القرب من «جيفارا الأفريقي» لبريان ج. بيترسون بعنوان Thomas Sankara: A Revolutionary in Cold War Africa (2021)، فصلاً تأصيلياً بعنوان «في الفكر السياسي الأفريقي»، من خلال استقراء أهم ملامحه وصولاً إلى وضع أفكار سانكارا في سياقاتها الأفريقية، التي يرتبط فهمها إلى حد كبير بالملاحظة الذكية التي أوردها عبد الرحمن في موضع آخر عن ذهاب ريتشارد سكلار (2002) للمناداة بضرورة التخلص من «حالة الولع المرتبطة بإسار الإطار الاستعماري والاستعماري الجديد». وعادت أصول أفكار سانكارا إلى دراسته في الأكاديمية العسكرية في واغادوغو (1966)، إذ درس على يد آداما توري (من بين آخرين)، المثقف اليساري الذي عمد، بجانب التلقين الأكاديمي للتاريخ والجغرافيا، إلى عقد نقاشات مفتوحة مع مجموعة الشباب، ومن بينهم سانكارا، تطرقت إلى قضايا الاستعمار والإمبريالية والاشتراكية والثورات وحركات التحرّر الوطني في العالم الثالث. وكان سانكارا ضمن حلقة ضيقة من الضباط، من بينهم كومباوري، الذين نمّوا في منتصف السبعينيات وعياً وطنياً قوامه التواصل مع المدنيين اليساريين (أفراداً أو أحزاباً مثل الحزب الشيوعي الثوري الفولتاوي).
وأوجز حمدي برنامج سانكارا عندما وصل إلى رئاسة البلاد في رفضه مفهوم الدولة «التي تناضل من أجل البقاء»، والتخفيف من حدة الضغوط المفروضة على المجتمع، وتحرير الريف من حالة الجمود والتخلّف، وإقامة نظام ديموقراطي مقرون بفهم المسؤولية الجماعية، ووضع الجيش في خدمة الشعب، مع ملاحظة مهمة، وضعها عبد الرحمن في الفصل الثالث، وهي إشكالية أيديولوجية التغيير الثوري لسانكارا (مانفستو 2 تشرين الثاني 1983) في تمتعها بالأساس بدعم بين سكان الحضر فيما أنها تقوم على تحرير الريف ومواجهة «البورجوازية الوطنية» التي تمكّنت بمرور الوقت من موازنة مصالحها مع القوى الإمبريالية في حواضنها الحضرية.
وجاءت ملاحظة شعراوي في المقدّمة كاشفة لهذه الإشكالية بشكل حاسم تماماً؛ معتبراً أن سانكارا قد جاء في إحدى الحلقات المتأخرة للتحولات الكبرى في أفريقيا، ما مثّل فجوة ما بين أفكار سانكارا ومجتمعه. والأخير كان ابن تجربة سياسية (واعية) وعلى اتصال بالتجارب السياسية الأخرى (ولا سيما في غانا، والتجربة الفريدة لماثيو كيريكو في بنين جنوبي بوركينا فاسو)، ورغم الانتقادات التقليدية التي يسوقها مفكرو التعددية الليبرالية لمن عُرفوا في أدبيات أفريقية بقادة «النظم العسكرية الشعبية التقدّمية» ومن بينهم سانكارا، فإنّ الأخير كان واعياً تمام الوعي بمساعي الاستعمار مواصلة استغلال بلاده بشكل مباشر أو عبر دولة جارة مثل ساحل العاج (في سيناريو باتَ متكرّراً في اللحظة الراهنة واستبدال ساحل العاج بنيجيريا).

رؤية غربية لتجربة سانكارا: منشور التناقضات
تأثّر سانكارا أيّما تأثر بالزعيمين الكوبي فيدل كاسترو والأرجنتيني تشي غيفارا، إضافة إلى رسوخ أفكار مناهضة الإمبريالية والوحدة الأفريقية والخيار اليساري لمواجهة الهيمنة الاستعمارية في بلاده، وهي المنطلقات الرئيسة التي لخّصها مارتن ولز في مؤلّفه Africa Since Decolonization (2021) (3)، لسياسة سانكارا بعد انقلابه مع كومباوري وزونغو ولينجاني. وتبنّى سانكارا أجندة ثورية تبلورت في إعادة تسمية بلاده من فولتا العليا إلى بوركينا فاسو، والتخلّي عن الصورة النمطية لرئيس الدولة، وإعلانه حرباً على الفساد، وتعبئة جموع المواطنين خلف سياسة الإصلاح الثوري، وتقوية الحكم المحلي، ومواجهة دور الزعماء التقليديين وحتى النقابات (التي كانت عنصراً فاعلاً في الحراك الشعبي في السنوات السابقة)؛ ما قاد إلى فقدان سانكارا قدراً من الدعم ووقوع انقسامات بين سانكارا ورفاقه الثلاثة.
وقد قدّم إليوت ب. سكينر، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا والسفير الأميركي في فولتا العليا في الفترة 1966-1969، دراسة مهمة وناقدة من نواحٍ متعددة كشفت عن متابعة سابقة ولصيقة، عن سانكارا والثورة البوركينية (1988) (4)؛ إذ بدت ملاحظاته وأفكاره واضحة تماماً وقابلة للاشتباك مع الجدل الدائر حالياً في أفريقيا على خلفية بروز «ثورات عسكرية» مشابهة لتجربة سانكارا (ولا سيما خلفه الرئيس البوركيني الحالي النقيب إبراهيم تراوري الذي ولد في العام التالي لاغتيال سانكارا). ومن أهم هذه الملاحظات أن حياة سانكارا ومقتله يثيران عدداً من الإشكالات النظرية والعملية على حد السواء التي تواجه «الجيل البازغ من القادة الأفارقة» بمن فيهم من جاؤوا من الثكنات كورثةٍ لحقبة ما بعد القضاء على الاستعمار «بشعاراتها وأساطيرها». وعمد سكينر إلى تبنّي رؤية ديفيد أبتر المعروفة بالإشارة إلى هؤلاء القادة (وحتى في الجيل السابق عليهم) بأنهم «روبين هود» نتجت أدوارهم عن أنماط الشكوى النسبية ولا سيما في المجتمعات الساعية للتحديث عند تداعي أنماط الالتزام القديمة، وعن الحاجة إلى ضمان الحقوق والالتزامات الجديدة شخصياً ومعنوياً، وأن دور «روبين هود» هو القوة المحرّكة لتكوين «سلطة ملهمة»، وأن شخصية الزعيم الملهم (سانكارا) لا تقبل بأيّ شرعية (قبلية أو تقليدية كما شهدت تجربة الأخير في الحكم) سوى قدرته على إرضاء أتباعه، وأن السمة الملهمة، نقلاً عن ماكس فيبر، تظهر مع القائد وقت المعاناة أو الصراع، إذ يمثّل بدوره أكبر قوة ثورية لتقديمه بديلاً راديكالياً لنظام المواقف واتجاهات الحركة المركزي مع توجيه جديد لجميع المواقف نحو مشكلات وأبنية مختلفة لـ«العالم»؛ وفي حين يرتبط الجدل الحالي حول الانقلابات في أفريقيا بـ«تغيّرات النظام الدولي»، ربط سكينر شعبية سانكارا (وغيره من القادة الثوريين) بما جدّدته الحرب الباردة من سياقات إمبريالية القرن التاسع عشر العالية التكلفة والسيئة السمعة.
وفي سياق رؤيته أن سانكارا وثورته كانا خارج السياق التاريخي في عالم بدا متغيّراً تماماً مطلع ثمانينيات القرن الماضي عن أجواء ما بعد الاستعمار، انتقد سينكر خطاب سانكارا عندما كان رئيساً للوزراء (تشرين الثاني 1982) ودعوته لتغيير الحكم في البلاد نحو «الحكم الدستوري» وتنظيف الفوضى السياسية، والسعي لإصلاح المجتمع الفولتاوي وتنظيفه وتطهيره؛ إذ كان أداة ذلك ما عُرف بـ«مجلس الخلاص الشعبي» Coneil de salut du people (C.S.P) المكوّن من 120 عسكرياً، فيما عُدّ اختزالاً عسكرياً للإرادة الشعبية. كما أشار سينكر إلى أنه رغم إعلان سانكارا أن الثورة البوركينية قائمة على الحقائق المحلية وأنهم لا يتبعون جيري راولينغز ولا معمر القذافي، فإن سانكارا بادر بعد قيام الثورة مباشرة إلى الاصطفاف خلف مواقفهما (ومعاداة فرنسا والولايات المتحدة) وتوطيد العلاقة مع رئيس داهومي (بنين) ماتيو كيريكو. ورصدت مجلة «جين أفريك» قبل الثورة بشهور مباغتة ضباط الجيش البوركيني وغضبهم عند معرفة إرسال سانكارا (رئيس الوزراء حينذاك) وفداً سرياً إلى كوتونو خلال زيارة القذافي لبنين لتوجيه دعوة للزعيم الليبي للتوقف في واغادوغو عند عودته إلى بلاده. وإلى جانب هذه التصورات الثورية المتناقضة أو «غير الناضجة»، حسب سكينر، فإنه لاحظ أن قاعدة تأييد سانكارا وبرنامجه «الريفي» تمثّلت في الأساس في الحواضن الحضرية سواء طلاب المدارس والجامعات أو النقابات، وهو ما فرغ جهود الأخير من قدرة كبيرة على التأثير وإحداث التغيير المنشود.
بشكل عام، اتّسقت سردية سكينر، التي توفرت على عدة ملاحظات دقيقة في ذلك الوقت المبكر من تقييم مرحلة سانكارا ولا يتسع المقام هنا لبسطها، مع مجمل التصورات الغربية وروافدها في أفريقيا تجاه تجربة الأخير وحصرها بين كونها رؤية خيالية على غير أسس واقعية، أو أنها جاءت في سياق تاريخي غير ملائم تماماً، أو بطرح تقليدي لفكرة الحكم العسكري والاستبدادي ذي الصبغة «الماركسية».

بوركينا فاسو بعد سانكارا: تمدّد حقول الدم
اتهم بيان الحكومة الذي بثّته الإذاعة البوركينية عقب اغتيال سانكارا المغدور بأنه كان يهدّد بوقوع البلاد في حمام دم، ووصفه بـ«خائن الثورة»، و«الغامض المستبد»، وذكر «خيانته لأهداف الثورة الديموقراطية والشعبية النبيلة» و«شخصنة السلطة»، رغم ما ورد عن رفضه فكرة دمج جميع التيارات والهيئات السياسية والنقابية (التي سبق أن اتهم عدداً منها مطلع عام 1987 بأنها صنيعة قوى رجعية محلية وخارجية) في حزب سياسي واحد خلال «الاجتماع الأخير» مع رفيقيه في الثورة (كومباوري ولينجاني) في 8 تشرين الثاني، أي قبل اغتياله بأسبوع واحد فقط.
ورغم مساعي الرئيس الأسبق كومباوري تأكيد اتهاماته لسانكارا (في سياق تسويغ مسألة اغتياله بخيانة مشهودة) فإنّ تجربة كومباوري نفسها، من جماعة الموسي الإثنية، وهو معروف بأصوله العاجية، وتقبّل القوى الغربية كافة طريقة وصوله إلى حكم البلاد ودعمه طوال نحو ثلاثة عقود استهلّها بتبني سياسات تحرير اقتصادي ثم إعدامه رفيقيه (1989) زونغو ولينجاني عقب اتهامهما بالتآمر ضده، وما وردت من تقارير عن دعمه لعدد من الصراعات الأهلية في أفريقيا (سيراليون وليبيريا وأنغولا) لصالح قوى غربية، ثم تمكّنه لاحقاً، رغم الاتهامات «المؤكدة» التي طاولته، من رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية، يؤشر كل ذلك إلى دور كومباوري في تغيير مسار الثورة البوركينية لصالحه والاستئثار بالسلطة بدعم غربي كبير (فيما يبدو على أنه مكافأة لدوره منذ الاجتماع الأخير مع سانكارا في 8 تشرين الأول 1987) كرّس وضع البلاد في العقود الأخيرة (حتى عزله في عام 2014 والاضطرابات التي تلته) كواحدة من أفقر دول العالم بامتياز. وهو سيناريو يطل برأسه حيثما وقع انقلاب ما في أفريقيا، ربما لسبب رئيس هو انفصال النخبة العسكرية القائدة للانقلاب - في أي تجربة أفريقية ولا سيما في الدول الصغيرة التي تملك جيوشاً صغيرة وحديثة العهد - عن رؤية مجمل التطلعات الشعبية من زوايا خارج الرؤية العسكرية وأولوياتها وغلبة أفكار قصور «الرؤية الشعبية» مقارنةً برؤية هذه «النخبة» ومشروعاتها الوطنية.

هوامش:
(1) Eizenga, Daniel, Military Coups in Burkina Faso (in: Kieh, George Klay and Kalu, Kelechi Amihe, editors, Democratization and Military Coups in Africa: Post-1990 Political Conflicts), Lexington Books, Lanham, 2021, pp. 52-3.
(2) حمدي عبد الرحمن: جيفارا الأفريقي: دراسة في الفكر السياسي لتوماس سانكارا، مركز البحوث العربية والأفريقية، القاهرة، 2015.
(3) Welz, Martin, Africa Since Decolonization: the history and Politics of a Diverse Continent, Cambridge University Press, Cambridge, 2021, pp. 203-5.
(4) Skinner, Elliot P. Sankara and the Burkinabe Revolution: Charisma and Power, Local and External Dimensions, The Journal of Modern African Studies, Sep., 1988, Vol. 26, No. 3 (Sep., 1988).