قدرة الإنسان على إقامة تعاون جماعيّ من أجل الوصول إلى هدف مشترك خاصّية غير موجودة لدى الحيوانات؛ تلك الأخيرة قد تُقيم فرادى أو في جماعات، لكنّها لا تتعاون لتحقيق هدف مشترك، ويبدو أنّ ما يجعلنا قادرين على ذلك - يقول الباحث في علم النفس الاجتماعيّ جوناثان هايدت في كتابه «العقل الصالح: لماذا ينقسم الناس الطيّبون بواسطة السياسة والدين» - لا يكمن في قدرتنا على تحليل فكريّ لما هو الأفضل للمجموعة، وإنّما في خَلْقِنا لأنظمةٍ تشدّد على المسؤوليّة (الثواب والعقاب ضمناً) داخل كلّ جماعة بشريّة. للتدليل على ذلك يخبرنا هايدت عن المعطيات العلميّة الموجودة حاليّاً والتي تحلّل كيفيّة تفكيرنا في المواضيع الأخلاقيّة. يبيّن فيليب تيتلوك في تجربة شهيرة أستخدمُها في تدريسي، أنّه أمام قضيّة ينبغي أن يتّخذ فيها إنسان قراراً، عادة ما يأتي القرارُ غير دقيق معتمداً على حدس ذاك الإنسان أكثر منه على وقائع، إلّا عندما يكون عليه أن يعود ليشرح قراره أمام جماعة، إذ عندها يتّخذ قراره بعد تقييم واضح للأمور مبنيّ على الوقائع التي بين يديه. ولكنْ هناك نوعان من التفكير، يقول تيتلوك، واحد تفسيريّ يستخدم فيه الفرد التفكير التحليليّ لكي يحلّل ويفسّر قراره، والآخر تأكيديّ يستخدم فيه الفرد تفكيره ليؤكّد لنفسه وللآخرين وجهة نظر وصل إليها قبل بدء التحليل، أي ليُعَقلِن وجهة النظر تلك. وجد تيتلوك أنّ الفرد لا يستخدم التفكير التفسيريّ «البارد» إلّا في ظلّ ثلاثة شروط: أن يعلم أنّه مسؤول عن قراره أمام آخرين، وألّا يعلم ما رأي هؤلاء في الموضوع (كي لا ينحاز برأيه)، وأن يعلم أنّهم يفهمون في الموضوع ومهتمّون بدقّة القرار. أمّا في كلّ الحالات الأخرى، أي تقريباً كلّ الوقت، فالواحد منّا يستخدم العقلنة لتأكيد وجهة نظر مسبقة. ولهذا يستنتج تيتلوك أنّ التفكير الواعي موجود في الإنسان من أجل إقناع الآخرين بوجهة نظر الفرد، أكثر منه من أجل التحليل واكتشاف الحقيقة؛ أي بكلمة أخرى التفكير موجود لبناء الحلفاء، لبناء مجموعة. فكّر بذلك قبل محاولاتك المقبلة القيام بنقاش سياسيّ لإقناع إنسان لا يدين بوجهة نظرك السياسيّة حول حقيقة ما حدث (عين الرمّانة 1975، اغتيال الحريري 2005، انفجار المرفأ 2020، الطيّونة 2021، الكحّالة 2023، إلخ). ألف مبروك نتيجة الحوار!
ولكن، في المجتمع الذي نعيش، هل نأبه لرأي الناس فينا، وهل تؤثّر نظرتهم على قراراتنا وتصرّفاتنا؟ شكّل الباحث في علم النفس مارك ليري، مجموعتين من الناس، الأولى مكوّنة من أفراد يقولون عن أنفسهم إنّهم متفرّدون لا يهتمّون برأي المجتمع، والثانية مكوّنة ممّن يقولون عن أنفسهم إنّهم يتأثّرون جدّاً برأي الناس فيهم. وضع ليري كلّ واحد من هؤلاء في غرفة وطلب منه أن يتكلّم عن نفسه وأبلغه أنّ هناك عدداً من الناس خارج الغرفة سيصغون إليه، ووضع أمامه عدّاداً وقال له إنّه كلّما مرّت دقيقة سيظهر أمامه رقمٌ يمثّل عدد الناس السامعين خارج الغرفة والذين يرغبون في التحدّث إليه عند الانتهاء من الحديث عن نفسه. يمكننا أن نفهم ماذا شعر الذين كانوا يتحدّثون عن أنفسهم وكانت الأرقام في العدّاد تظهر على الشكل الآتي 7، 5، 3، 2... كانت النتيجة أنّه حتّى الناس الذين أكّدوا أنّهم لا يهتمّون برأي غيرهم شعروا بضيق كبير. بالطبع، كان الأمر خدعة ولم يكن من أحد يصغي إليهم غير الباحثين. تخيّلوا الجهد الذي على الفرد أن يبذله ليبقى على قناعة غير شعبيّة في محيطه، بطولة بلا شكّ، ووحدة مؤلمة بلا شكّ. ولنا في مسار الأنبياء وبعض العلماء عبرة: أتذكّر، مثلاً، الطبيب إغناطيوس سامّلويس الذي قال بوجود البكتيريا قبل أن يتوصّل إلى صنع منظار يؤكّد ذلك، سُخِرَ منه من أطبّاء عصره، وطُرد من وظيفته، وقضى نهاية حياته في مصحّ عقليّ، مع أنّه أنقذ النساء من الالتهابات بعد الوضع، وذلك فقط لأنّه أمر الممرّضات والأطبّاء بتطهير يديهم بالصابون قبل عمليّة الولادة.
بيتر واسون، وديانا كون، ودايفيد بيركينز (وغيرهم) قاموا بأبحاث دلّت على أنّنا عادة ما نبحث عن أدلّة وتفسيرات تؤكّد وجهة نظرنا الأساس وليس لنبحث عن الحقيقة (أبحاث واسون وكون)، وأنّه يمكننا بسهولة البحث عن أدلّة لتفنيد وجهة نظر الآخر (أبحاث بيركينز). حتّى أمام مجموعة كبيرة من الأدلّة التي تبيّن حقيقة مختلفة وجهة نظرنا، يتمسّك معظمنا بأمثلة قليلة تناسب وجهة نظره ليستنتج بأنّها صحيحة. حاول أن تقنع أحداً لا يريد أن يتوقّف عن التدخين بأنّ التدخين يسبّب سرطاناً، سيقول لك إنّ جدّه دخّن حتّى اليوم الأخير من حياته ولم يُصَب بشيء، أو أن تخاطب بالعقل والحجّة لتقنع إنساناً مقتنعاً بأنّ «كوفيد» مؤامرة لضرب الإيمان والتحكّم بالشعوب بحقيقة وجود «كوفيد»، سيرسل لك فيديو لأربع شخصيّات تقول إنّ الأمر لا يعدو كونه مؤامرة وسيتجاهل رأي مئات آلاف الأطبّاء والنقابات حول العالم.
الغشّ أيضاً أمر جدّ منتشر، ولا يقتصر على أناس نادرين، النادر هو عدم الغشّ. في إحدى تجاربها، وعدت الباحثة ديانا كون المشاركين في تجربة (وهميّة) بمبلغ من المال عند الانتهاء منها، وطلبت من الشخص الذي سيعطيهم المال في نهاية التجربة أن يخطئ قصداً في أحد الأرقام ويعطيهم أكثر بكثير من المبلغ الموعود، فقط 20% صحّحوا الخطأ وأخذوا فقط المبلغ المتّفق عليه، بينما سكت 80% عن الخطأ وأخذوا كامل المبلغ. أعادت الباحثة التجربة وطلبت من الشخص الذي يدفع أن يسألهم مباشرة إن كان المبلغ صحيحاً، عندها ارتفعت نسبة الذين صحّحوا الرقم إلى 60%. الخلاصة أنّ من الصعب علينا أن نكذب مباشرة، ولكن معظمنا مستعدّ أن يغضّ الطرف عن غشّ إن كان يمكنه أن يجد لنفسه عذراً لو افتُضِحَ أمره (كان من الممكن أن يقول كلّ مشارك في التجربة الأولى «آه، لم أنتبه»). يمكننا دائماً أن نجد عذراً لأنفسنا.
أخيراً، إنّ التحليل العقليّ يميل إلى أن يعطينا الاستنتاجات التي نريدها. الباحث توم غيلوفيتش وجد أنّنا نتبنّى بسهولة منطقاً وأدلّة تعجبنا (نسأل أنفسنا «هل يمكنني تصديق ذلك؟» وعادةً الجواب نعم)، أمّا أمام منطق وأدلّة لا تعجبنا، فسرعان ما نضعها جانباً (نسأل أنفسنا «هل من الضروريّ أن أصدّق ذلك؟»، وعادة ما يكون الجواب لا غير ضروري). أبلغ الباحثان إميلي بالسيتيس وديفيد دانينغ المشاركين في إحدى تجاربهما أنّ الكومبيوتر سيعرض أرقاماً وأحرفاً على الشاشة، وأبلغا نصف المشاركين أنّهم سيشربون عصير ليمون طازجاً إن عرض الكومبيوتر رقماً، وأبلغا النصف الآخر أنّهم سيشربون عصير الليمون إن عرض الكومبيوتر حرفاً، وفي الحالة المعاكسة سيشربون عصيراً مقرفاً من الخضر. عند الاختبار عرض الكومبيوتر صورة لجزء من الثانية كان يمكن أن تُفسّر على أنّها حرف B أو رقم 13؛ معظم المشاركين قرّروا أنّهم رأوا الخيار المفيد لهم (أولئك من الفريق الأوّل قالوا إنّهم رأوا الرقم 13 وأولئك من الفريق الثاني قالوا إنّهم رأوا حرف B) ليتمتّعوا بعصير الليمون ويتجنّبوا عصير الخضر. يؤكّد جوناثان هايدت وفرة الأبحاث التي توثّق الطرق الملتوية التي يستخدمها فكرنا للوصول إلى الخلاصات والاستنتاجات التي نريدها مسبقاً؛ أمر ليس بالبسيط أنّنا في أمر مثل النظر نحن مستعدّون لأن نميل لنرى أمراً بالشكل الذي يناسبنا. تذكّر ذلك في المرّة المقبلة التي تحاول أن تحاور فيها أحداً من وجهة سياسة مختلفة عنك، حول حدث سياسي أو أمنيّ ما، لتصلا إلى حقيقة واحدة؛ أو عندما تحاول أن تقدّم الأدلّة العلميّة والتاريخيّة والثقافيّة وما شئت لتغيّر رأي شخص حول المثليّة في مجتمع شديد المحافظة أو شديد الليبراليّة. مبروك مسبقاً على النتيجة. طبعاً لا يمنع المحاولة لتغيير مقاربة الموضوع والشعور والرؤية، ولكن علينا أن نفهم أنّ الموضوع لا يتعلّق بالمنطق والأدلّة أساساً.
الموضوع يتعلّق – يقول هايدت – بأنّنا في مواضيع السياسة والدين والأخلاق نحن نميل إلى ألّا نتصرّف بحسب ما تمليه علينا أنانيّاتنا (ما مصلحتي إن انتخبت الحزب الفلاني؟) بل بحسب ما هو مقبول من جماعاتنا، نحن مجموعيّون (groupish). ولهذا السبب نرى الناس يصوّتون عكس مصالحهم، لأنّهم لا يتساءلون - إلّا بشقّ النفس - ما هي مصلحتي من انتخاب الحزب الفلانيّ، وإنّما يتصرّفون بحسب «ما مصلحتنا نحن؟»، هذه المجموعة، هذه الطائفة، هذا الحزب، حتّى ولو لم تكن «مصلحتنا» سوى تثبيت وجود (قد يكون غبيّاً ومجرماً في الواقع) مقابل وجود آخر (قد يكون أكثر غباءً في الواقع). نحن أكثر استعداداً لتصديق أيّ شيء يدعم فريقنا، وهذا ينطبق على الولايات المتّحدة كما ينطبق على لبنان، أو أيّ بلد آخر. بل دلّت أبحاث دروو ويستن على أنّ تهرّب الإنسان من مواجهة حقيقة ضدّ مجموعة بإيجاد أعذار لها، يُطلق مادة الدوبامين في الدماغ، وهي مادة تعطي لذّة وتريح الإنسان، ولهذا فالمناصرون والمحازبون سيحاولون المستحيل ليجدوا ألف طريقة ومنطق لعذر زعمائهم وحزبهم. التحزّب إدمان صعب الرجوع عنه. ألف ألف مبروك.
ما المعنى الأخير هنا؟ أوّلاً علينا التذكير بأنّ المعطيات فوق ليست حتميّة لكلّ إنسان، دائماً هناك ميل بشريّ عام ولكنّه لا يحكم تصرّف كلّ إنسان حتميّاً (مثلاً، معظمنا يغشّ ولكن ليس كلّنا؛ بعض المشاركين قالوا إنّهم لم يروا لا حرفاً ولا رقماً في التجربة فوق). ثانياً، ليس إجراء محاولة إقناع عقليّة مكلفة هي الطريق الأمثل دائماً، هناك تغييرات طفيفة في المحيط تساعدنا على أن نتخطّى الميول التي رأيناها فوق (سؤال مباشر لشخص إن كان المبلغ صحيحاً أو لا، وجود مرجع يراقب القرار، تغطية صحّية مجانيّة تعطي للإنسان قدرة على الحرّية). في موضوع القرارات، النصيحة العمليّة هنا هي الآتية: إن أرادت شركة أو منظّمة أو أيّ مجموعة أن تصل إلى أفضل قرار ممكن حول أمر ما، فعلى الفريق الذي يريد أن يتّخذ قراراً أو ينصح بقرار، أن يكون مكوّناً من أشخاص يأتون من مشارب مختلفة ولديهم وجهات نظر مختلفة، إذ إنّ ذلك يدفعهم للوصول إلى حوار نقديّ أكثر، على أن يكون النقد مسموحاً به، بل مطلوباً؛ وأن يكونوا مسؤولين أمام مجموعة أخرى مطّلعة، تنتظر منهم دقّة في التقييم. هذا لا يعني أنّ كلّ قرار سيكون صائباً، ولكن سيكون للمجموعة حظّ أوفر بالوصول إلى قرار صائب.
من وجهة نظر علوم النفس، التي حاولنا نقلها هنا، عبادةُ العقل أمرٌ يدلّنا العقل نفسه أنّه غير عقلانيّ، فقدرة الإنسان الفرد على الوصول إلى قرارات سليمة في المواضيع السياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة لا يعوّل عليها بشكل مطلق، فالأفضل من وجهة نظر عمليّة بحتة إنشاء مجموعة من وجهات نظر مختلفة، موضوعة في جوّ يسمح بالحرّية والنقاش والمخالفة، للوصول إلى قرار بالأكثريّة. لا وسيلة أفضل لدينا اليوم.
كوننا نحبّ الجماعات ونحيا فيها، لا يعني جمود الحياة الجماعيّة بالضرورة، ولا يعني أنّنا عبيد للجماعات. فعبر التاريخ، غيّرت الجماعات رأيها في موضوع سياسيّ أو دينيّ أو أخلاقيّ بتراكم الخبرات والآراء والأدلّة الموضوعيّة التي وفّرتها العلوم، وبتغيّر الظروف الموضوعيّة للجماعات.

* كاتب وأستاذ جامعي