تقترح هذه المساهمة فحص أسلوب ميشيل فوكو في التفكير في مُشكلِ الاستعمار والعلاقات التي يديمها هذا الأخير مع الجغرافيا السياسية [الجيوبوليتيك]. بداهةً، لا تظهر هذه الإشكالية بين الموضوعات المركزية للإنتاج النظري الفوكوي، وليس كذلك بين الأسئلة التي اهتمّ بها في مؤلفاته الأكثر قراءة. مع ذلك، فإنّ الإصدار الأخير للمقرّرات التي قدّمها المفكّر الفرنسيّ في الكوليج دو فرانس كشف لنا عن فوكو «مجهول».يعتمد مفهوم فوكو للسلطة التمييزَ بين ثلاثة مستويات من العمومية. المستوى الأوّل، الفيزياء الصغرى أو الميكروفيزياء، حيث تعمل التقنيات الانضباطية بالإضافة إلى «تقنيات الذات» التي تميل إلى إنتاج ذاتية مستقلة. سيكون هذا هو مستوى السياسة الجسدية corpo-politique. يمكننا بعد ذلك أن نميّز المستوى الثاني، الميزوفيزياء mésophysique، حيث توجد آليات الأمن الداخلي وهي شرط لإمكان حوكمة الدولة الحديثة والسيطرة التي تمارسها على السكّان. سيكون هذا هو مستوى السياسة الحيوية. وأخيراً، يظهر المستوى الثالث، وهو الماكروفيزياء، حيث تعمل آليات الأمن فوق الدولتية بهدف تعزيز «المنافسة الحرة» للاستيلاء على الموارد الطبيعية والبشرية على كوكب الأرض. سيكون هذا هو مستوى الجغرافيا السياسية.

حتى عام 1975، كان فوكو قد طوّر تحليلاً متأثّراً بفكر نيتشه، وفيه نظر إلى السلطة بوصفها، في المقام الأوّل، لعبة قوى. وكان غرض أعمالٍ مثل «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ»، و«المراقبة والعقاب»، و«إرادة المعرفة» تحديد الاشتغال الصراعي للسلطة، وتقنياتها، واستراتيجياتها الجزيئية، والتحالفات التي تقيمها مع العلوم الإنسانية. بالنسبة إليه، يتعلّق الأمر بإنتاج نسابةٍ، أو جينيولوجيا، للخطاب الذي ظهر في أوروبا والذي يصوّر المجتمع مسرحاً للصدام بين شعبين لا يمكن التوفيق بينهما في حالة حربٍ دائمة.
وفي مجرى هذا العمل النسّابيّ، تظهر أمام فوكو ضرورة التفكير في ظاهرة الاستعمار الأوروبيّ. يرى فوكو أنّ العنصرية ستتطور، قبل كلّ شيء، مع الاستعمار، أي مع الإبادة الجماعية الاستعمارية. فعندما يكون من الضروري للمستعمِر قتل الناس والسكان، وتدمير الحضارات، فهو لا يقضي على الخصم السياسي فحسب، بل يعمل للقضاء على العرق المعارض لعرقه، فهذا الأخير خطر بيولوجيّ يهدّده. العنصرية، إذاً، تتضمّن وظيفة الموت في اقتصاد السلطة الحيوية، طالما أنّ موت الآخرين هو تعزيزٌ بيولوجيّ لذاتنا بوصفنا أعضاء في عرقٍ أو مجموعةٍ سكّانية.
في عام 1977، بينما كان يطوّر مقرّرَه الدراسيّ «الأمن، والإقليم، والسكان»، أدرك فوكو أن هذا التحليل لعلاقات القوّة العالمية يتطلّب التخلي نهائياً عن نموذج المحارب، لمصلحة نموذجٍ تحليليٍّ مختلفٍ سيسمح له بتدشين فكر الجغرافيا السياسية وإلقاء نظرة جديدة على مسألة الاستعمار. أمّا الفرضية المركزية لهذا التحليل الجديد، فهي أن تقنيات إدارة السلوك البشري التي ظهرت على شكل سلطة رعائيةٍ تحولت مع الحداثة إلى تقنية حكم وتنظيمٍ للسكان. ومن خلال إنشاء أنظمة الأمن الداخلي (جهاز الشرطة)، تحاول الدولة ممارسة سيطرة عقلانية على الأوبئة والمجاعات والحروب والبطالة والتضخم وجميع العناصر الأخرى التي من المحتمل أن تهدّد رفاهية السكان. ومع ذلك، يحتاج حكم السكّان أيضاً إلى نظامٍ أمنيّ خارجي (الجهاز الديبلوماسي العسكري) بهدف تعزيز قوّة كل دولة، مع تقليل احتمالية الحرب.
هنا يقطع فوكو مع نموذج المحارب الذي نجده في «يجب الدفاع عن المجتمع» وفيه تُعرَّف السياسة الحيوية بوصفها حرباً مستمرة بوسائل أخرى، ليحلّ محلّه نموذج «توازن القوى» على المستوى الجيوسياسي. ولكن، كان علينا أن ننتظر المقرّر الدراسيّ «السياسة الحيوية» (1978-1979) لنرى فوكو يحاول، من دون جدوى، تحرير نفسه من هذه الرؤية الأوروبية المتمركزة عبر التفكير في النظام المشترك بين الدول بوصفه نظاماً عالمياً حقيقياً. الهدف من هذا المقرّر كان دراسة ظهور الاقتصاد السياسي كتقنيةٍ للحكم، وفيه يشرع فوكو في تحليل ولادة الليبرالية في نهاية القرن الثامن عشر ليس كأيديولوجيا سياسية ولكن كممارسة للتحكّم بالسكان. تشير أطروحته إلى أن هذه العقلانية الحكومية الجديدة تصطدم بالأنظمة الأمنية، الخارجية والداخلية، التي أنشأتها «مصلحة الدولة» raison d'etat. يسعى هذا الفن الجديد للحكم إلى استبدال التنظيم بالسيطرة، وصار من المناسب الآن تنظيم الحرية بدلاً من تقييدها، بل إنتاج الحرية بوضع تدابير أمنية تعمل بطريقة مختلفة تماماً عن تلك التي وضعتها مصلحة الدولة.
في هذه المرحلة من النقاش، يتأمّل فوكو، خلال درس 24 كانون الثاني 1979، عولمة السوق، حيث لم يعد تجهيز الأمن الخارجي يعمل عن طريق المعاهدات الديبلوماسية، ولكن عبر المنافسة الحرّة بين الدول. كان لا بد لتحرير التجارة على المستوى العالمي أن يسمح بإثراء دولة واحدة بما يعود بالنفع على جميع البلدان الأخرى.
هو إذاً شكل من الإثراء الجماعي بتوسّل المنافسة الحرّة، وهو بالتحديد نوعٌ جديد من «العقلانية الكوكبية»، وهذه ستكون المصفوفة التحليلية التي سيتجسّد فيها التفكير الفوكوي في الاستعمار. لم يعد هذا الأخير يقتصر على الهيمنة الإقليمية التي تمارسها أوروبا على مستعمراتها، بل يشمل أيضاً هيمنة السوق على حرية التبادل الاقتصادي على المستوى العالمي. وبالتالي فإنّ تقنيات الحكم الليبرالية والليبرالية الجديدة سوف تساهم في نزع أقلمة déterritorialisation الاستعمار. منذ نهاية القرن الثامن عشر، أصبح الاستعمار تدريجياً جزءاً من «حساب عالمي» جديد، بحيث لم يعد ما يهم هو احتلال الأراضي والتقسيم العرقيّ للعمل، بل تنظيم الحريات الفردية بغض النظر عن الانتماءات العرقية واللغوية والجغرافية. إنّ كوننة universalisation عقلانية السوق، وامتدادها إلى جميع مجالات الحياة، في كل مكان في جميع أنحاء العالم، تصبح الضرورة الحكومية الجديدة التي ستُدمَج فيها فكرة الاستعمار من الآن فصاعداً.
أصفُ هذا التحليل للسلطة وعلاقات القوّة بأنّه تحليل تجاوريّ hétérarchique، على عكس النظريات الهرمية التي كانت تُفكّر تقليدياً في مسألة الاستعمار، وأزعم أن تحليل السلطة التجاوريّ، إذا فُهم بهذه الطريقة، يثبت أنه ذو فائدة كبيرة في إعادة النظر في بعض المسلمات النظرية لتحليل النظام العالمي والتي يتبيّن أنها تنطوي على إشكاليات كثيرة.
لذلك، تفترض تحليلات فوكو أنّ السلطة تعمل في سلسلة، كما توجد سلاسل مختلفة من السلطة، بعضها يعمل على المستوى الكتلويّ [المولي molaire] والبعض الآخر يعمل على المستوى الجزيئي، من دون أن يكون من الممكن التفكير في أحدهما بالاستقلال عن الآخر. إنّ التمفصلات بين شبكات السلطة المختلفة ليست ضرورية، ولكنها تظل دائماً جزئية؛ ومن هنا حقيقة أنّ التحليل الفوكويّ يرتقي من مستويات أقل تعقيداً إلى مستويات أكثر تعقيداً. وهذا ما يقودنا إلى التأكيد على ارتكازه على فهم تجاوريّ للسلطة يختلف كثيراً عن تحليلٍ ماركسيّ سائد للنظام العالمي يرتكز على المفهوم الهرمي للسلطة.
ترى النظرية التجاوريّة للسلطة، مثل تلك التي طوّرها فوكو، أنّ الحياة الاجتماعية هي مجموعة من الارتصافات agencements أو التجهيزات dispositif التي تعمل وفق «منطقات» [جمع منطق] متمايزة ومترابطة جزئياً فقط. وهكذا، عندما يناقش فوكو «العنصرية»، فإنّه يشرع في تحديد التقنيات المختلفة وأنظمة التلفّظ énonciation المحددة التي تنتج أنواعاً مختلفة من العنصرية. الشيء نفسه ينطبق على الاستعمار، إذ لا يوجد بأيّ حال من الأحوال منطقٌ عنصري واحد أو منطق استعماري واحد ينتشر بعد ذلك عبر جميع سلاسل السلطة. بين أنظمة السلطة المختلفة توجد انفصالات، ولاتناظرات، وعناصر غير قابلة للقياس، بحيث لا يمكننا تأكيد وجود تعيين «في المقام الأخير» تضطلع به التجهيزات الأكثر عالمية. هذه المقاربة التجاوريّة لا تسمح لنا بالتفكير في الرأسمالية بصفتها حاملاً لعقلانية واحدة، ولكنّه يقودنا إلى النظر إليها بما هي تضافر لتقنيات حكومية مختلفة.
دعونا نتذكّر مرة أخرى أنّ خطوة فوكو تكمن في النظر في الطريقة التي تعمل بها العنصرية على مستويات مختلفة وفي ظروف استراتيجية مختلفة. تختلف عنصرية البرجوازية الإنكليزية في القرن السابع عشر عن عنصرية الأرستقراطية الفرنسية في القرن الثامن عشر، وعن العنصرية المتأصلة في السياسة الحيوية للدولة التي تأسست في القرن التاسع عشر، والتي أثبتت في حد ذاتها أنها مختلفة تماماً عن العنصرية النازية لدرجة أنها تكشفت في القرن العشرين. «العنصرية»، بـ «ال التعريف»، غير موجودة، ولا المنطق «العنصري» موجود. ومن ناحية أخرى، فإنّ ما يوجد بالفعل هو تقنيات مختلفة للسلطة تظهر في ظروف تاريخية معينة والتي يمكن، في لحظة معينة، أن تصبح «متشابكة» مؤقتاً، من دون أن يعني هذا أننا نشهد «استغراق» بعضها في منطق سيطرة الأخرى. ولهذا السبب فإنّ فكرة أنّ العنصرية هي ظاهرة نشأت في القرن السادس عشر مع ظهور الاقتصاد العالمي، وهذا المنطق نفسه أعيد إنتاجه لاحقاً، وحتى يومنا هذا، في جميع أشكال العنصرية، ينبع عادةً من فهم هرمي للسلطة. على العكس من ذلك، يؤدّي المنظور التجاوريّ الفوكويّ إلى تعرّف وجود العديد من تقنيات التعنصر racialisation التي ليست كلّها قابلة للقياس. في بعض الأحيان تتشابك هذه التقنيات، وتشكّل نسجاً معقدة (خاصّةً عندما يحدث هذا التقاطع مع أنواع أخرى من العلاقات، هي نفسها معيّنة، مثل علاقات النوع والطبقة والجنسانية)، ولكن في حالاتٍ كثيرة تعمل هذه التقنيات بطريقةٍ مستقلّة.
ولنأخذ مثالاً آخر يوضح الخط الفاصل بين المقاربتين الهرمية والتجاورية، وهو مثال تاريخانية الأنظمة المختلفة. يفترض تحليل النظام العالمي أنّ أنظمة السلطة العالمية هي «بنى طويلة الأمد»، ويدافع العديد من أنصار تحليل النظام العالميّ عن الفكرة القائلة بأن التحولات الكتلوية التي تؤثّر على الهيمنة الجيوسياسية للنظام العالمي تعمل كموضع locus انتقال للنظام بأكمله.
لقد حاولت أن أقترح أنّ «النظام العالمي الحديث/ الاستعماري» لا ينبغي أن يُنظر إليه هرمياً، ولا كشبكة من الهرميات، بل بالأحرى كنظامٍ تجاوريّ. وهذا يعني، من ناحية، أن استعمارية السلطة ليست واحدةً بل متعددة، وأنه لا يمكن اختزالها إلى العلاقة الكتلوية molaire بين رأس المال والعمل. وهذا يعني من ناحية أخرى أنّ مسألة «إنهاء الاستعمار» لم تعد قادرة على ترجيح التفكير الماكروبنيويّ، كما لو أنّ إنهاء الاستعمار في مجالات أخرى من الحياة الاجتماعية يعتمد على هذا المستوى الماكروبنيوي. إنّ هذا من شأنه أن يتجاهل حقيقة أن المنطق المتحرّر من الاستعمار يعمل على مستويات متعددة والتي، في كثير من الحالات، تتمفصل على نحوٍ ترسّبي [متبقٍّ résiduel] مع الاقتصاد العالمي. وبالمقابل، وعلى نحوٍ أوثق بكثير، تتمفصل مع السلاسل الميكروفيزيائية التي تؤثّر في الأجساد والمشاعر والرغبات. وهذا لا يعني أنّ هذه السياقات المحلية محمية من أيّ اتصال مع الأنظمة العالمية، ولكن على هذا المستوى بالتحديد يمكننا ملاحظة «اللاتحديد الترسّبي indétermination résiduelle» لهذه الأخيرة. فإذا كان من المؤكد وجود عناصر من الأنظمة المحلية وشبه العالمية ترتبط بزمنية الأنظمة العالمية، لكن، يبقى بعضها في حالة خارجية نسبية بإزاء النظام العالمي، ومن ثمّ، تعمل وفق زمنية مختلفة. وهذا يعني أيضاً أنه على المستويات المحلية يوجد تباينٌ زمني، أي وضعية تتميز بتعايش تجارب زمنية مختلفة، إذ لا توجد أولوية مطلقة لزمنيةٍ عالمية وشمولية واحدة على الزمنيات المحلية «الصغرى».