«الرأسمالية تقطر من جميع مسامّها، من رأسها إلى أخمص قدمَيها، دماءً وقذارة»[كارل ماركس]

في داخل حدود مراكز الهيمنة الغربية وفي خارجها، ما زالت «سياسة الإماتة» - أو «نيكروبوليتيكس»، وهو مفهوم ابتكره المفكر الكاميروني أخيل مبامبي، وعنوان كتابه المهم - تحصد الضحايا بين الملوّنين. صدم المشاهدون عبر العالم عندما رأوا بالمباشر عملية قتل الشابة الحامل الأفريقية - الأميركية تاكيا يونغ، البالغة من العمر 21 عاماً، من قبل الشرطة الأميركية، لرفضها الامتثال لأمر النزول من سيارتها. جريمة مماثلة وقعت في فرنسا قبل شهرين، عندما أردت شرطة الجمهورية العتيدة الشاب نائل مرزوق، 17 عاماً، وهو فرنسي من أصول جزائرية، لرفضه الامتثال لأوامرها بالترجّل من سيارته. اللافت أن مثل هذه الجرائم بات يقع في وضح النهار، وأمام الكاميرات في أغلب الأحيان، كما حصل في حالة خنق المواطن الأفريقي - الأميركي جورج فلويد، وأن مرتكبيها يجدون من ينبري للدفاع عنهم ويبرّر أفعالهم، ليس بين قطعان العنصريين البدائيين في أوساط الرأي العام الغربي فقط، بل كذلك في داخل المؤسسات الأمنية والسياسية للديموقراطيات الليبرالية.
استشراء العنف المؤسسي ضد الملوّنين في قلب «الحديقة الغربيّة» هو في الواقع أحد أعراض انفلات العرقية البيضاء من عقالها بفعل الانحسار المستمر والمتزايد لهيمنتها على صعيد عالمي نتيجة للتحولات الكبرى في موازين القوى الإجمالية لغير مصلحتها، بينها وبين القوى غير الغربيّة الصاعدة. «سياسة الإماتة»، أي شن الحروب لغزو واحتلال أنحاء المعمورة غير الغربيّة خلال القرون الخمسة الماضية، للسطو على ثروات شعوبها والتحكّم بمصائرها، وإبادتها كلياً أو جزئياً، واستعبادها و/أو استغلالها، كانت بين أهم مرتكزات السيطرة الغربية الشاملة.
لا يمكن فهم نشأة وتطور الحداثة الرأسمالية ونظمها السياسية انطلاقاً من مفهوم «البيوبوليتيكس» وحده، «السياسة الحيوية» وفقاً للترجمة العربية، أي سعي النظم السياسية الحديثة للتحكّم بمختلف مناحي حياة السكّان الخاضعين لسلطتها داخل حدود بلدانها الأصليّة، الذي صاغه المفكّر ميشيل فوكو في إحدى مراحل عمله البحثي، لأنه يغلب المنظور الداخلي ويتعامى عن مركزية دور ما تلازم مع هذه النشأة والتطور من اجتياح غربي لبقية العالم، ومفاعيل ذلك على طبيعة هذه الحداثة ووجهتها. وقد أقرّ فوكو بنفسه بهذا الأمر، في سلسلة المحاضرات التي ألقاها في «كوليج دو فرانس» في 1978، كما يشير مقال سانتياغو كاسترو غوميز المترجم في هذا الملف. وقد أتاحت «الظاهرة الاستعمارية»، كتجربة تاريخية مديدة، تطويراً وتحديثاً هائلاً لتقنيات السيطرة والتحكّم بالسكّان، وبعضها أُعيد تصديره نحو بلدان المراكز الإمبريالية، لأن المستعمرات وشعوبها كانوا حقلاً لاختراع مثل هذه التقنيات واختبارها.
لم تخطئ حنا أرندت ولا إيمي سيزير عندما اعتبرا أن هذه «التجربة التاريخية»، بأبعادها المرتبطة بالهندسة الاجتماعية وتقنيات التحكّم والإبادة، وبتلك الأيديولوجية، أي المنظور العرقي التراتبي للبشرية، كانت مصدر الإلهام الرئيسي للنازية والفاشية. صلة عضوية تجمع هذا المنظور العرقي التراتبي للبشرية، وهو المسوّغ الأيديولوجي الأوّل للاستعمار، وبين ممارسة السلطة الغربية «المتحضّرة»، أو «الديموقراطية»، أو «المستنيرة والمتسامحة»، حقها السيادي في إماتة، أو التلويح بإماتة، من يصنّفون ساعة برابرة، أو ظلاميين أو إرهابيين، وبحصارهم وتجويعهم وتدمير دولهم ومجتمعاتهم.
يشرح جوزيف مسعد بإسهاب، في مقابلته في ملف «قضايا» صلة الرحم بين العنصرية والاستعمار، وتجلّيها في فلسطين. ويتناول ماثيو ريغوست، من جهته، صيرورة عقيدة مكافحة التمرّد، وهي من أبرز أدوات سياسات السيطرة الاستعمارية، نموذجاً للحوكمة الإمبريالية العالمية. تحاول الديموقراطيات الإمبريالية إعادة تأسيس شرعيتها المهتزة داخلياً وعالمياً على قاعدة المفاضلة بينها وبين من تصنّفهم أنظمة شمولية صاعدة، ويتجرّأ بعض قادتها على حثّ بلدان الجنوب على إدانة التدخّل الروسي في أوكرانيا، باعتباره شكلاً من أشكال الاستعمار. يتناسى هؤلاء أن ذاكرة شعوب هذه البلدان طويلة الأمد، وأنها تعرف جيداً من الذي أمعن منذ 5 قرون إلى اليوم بفنون الإماتة والإبادة والتدمير والنهب، وهو بالتأكيد ليس روسيا ولا الصين.