كلتا الأزمتين الفلسطينية والسورية، استعصتا وتحوّلتا إلى قضيتين كبيرتين بأبعاد متعددة: داخلية وإقليمية ودولية. كل الدول، شرقاً وغرباً، تواطأت مع الاغتصاب الصهيوني في فلسطين وشرَّعت ذلك في قرار تقسيم سمح بقيام دولة يهودية صهيونية، ومنع قيام دولة عربية فلسطينية وذلك منذ 75 عاماً. بدورها، تحوّلت الأزمة السورية إلى أزمة دولية بسبب الحجم الهائل للتدخل الأميركي والغربي والعربي فيها، الذي رتّب ونظّم عملية استقدام مقاتلين من عشرات الدول والجنسيات، وكان ولا يزال حاضراً بقوة، لمنع التوصل إلى حل بشأنها.
الفريق نفسه لا يرفع شعارات مماثلة، الآن، ضد النازحين السوريين، ولا يحمل السلاح لهذا الغرض
في الأزمتين الفلسطينية والسورية، ظلت واشنطن هي الحاضر الأكبر على امتداد عقود (شأنها في معظم، إذا لم يكن كل، أزمات العالم). وقد وجَّهت وجنّدت حلفاءها وأتباعها في خدمة أهدافها وسياساتها. هذا ينطبق، بالتأكيد، على دور ومواقف جماعاتها في لبنان. لكن ههنا تبرز تباينات تبدو كبيرة. لقد ناصبت القوى الحليفة للغرب وواشنطن الفلسطيني اللاجئ العداء الدائم. تجلّى ذلك في الحصار والتمييز والاعتقالات والمنع من النشاط السياسي والإعلامي والمهني... ثم هي لجأت إلى حمل السلاح وإشهار حرب «تحرير لبنان من الغرباء» الفلسطينيين، رغم اتفاقات أتاحت للفلسطينيين فرص العمل المحدود ضد العدو. حتى إن «الجبهة اللبنانية» («الكتائب» وحلفاؤها باستثناء «حزب الكتلة الوطنية» الإدّوي) آنذاك، أحبطت محاولة ضبط أو تنظيم السلاح الفلسطيني التي قادها، ممثل القوى الوطنية في السلطة وخارجها، الشهيد الوطني الكبير كمال جنبلاط. فكانت الحرب الأهلية التي أشعلها حزب الكتائب وحلفاؤه تحت عنوان تحرير لبنان من «الاحتلال الفلسطيني». وهي حرب استمرت خمسة عشر عاماً، وتخلّلها غزو واحتلال إسرائيلي للبنان وتنصيب قائد ميليشيا «الكتائب» و«القوات» رئيساً للجمهورية!
الفريق نفسه لا يرفع شعارات مماثلة، الآن، ضد النازحين السوريين، ولا يحمل السلاح لهذا الغرض، أو يسعى من أجل ذلك. ما يعلنه، أخيراً، خلاف ذلك (وخصوصاً بعد بيان البرلمان الأوروبي)، إنما يحصل لرفع العتب. فهو، فعلياً، يتواطأ مع خطة واشنطن لإبقاء النازحين السوريين في لبنان: من أجل الضغط على السلطات السورية، من جهة، ولاستخدام هؤلاء في لبنان وقوداً لفوضى يجري التخطيط لها كمرحلة أمنية جديدة، من قبل واشنطن وتابعيها، عسى أن يؤدي ذلك إلى إلإجهاز على المقاومة التي فشلت الوسائل السابقة (العسكرية عام 2006 والسياسية والاقتصادية والانهيار و... في الإجهاز عليها، الذي هو هدف إسرائيلي، بالدرجة الأولى).
«القوات» و«الكتائب» وتابعوهما تخلّوا، إذاً، عن العنف (وهو ليس مطلوباً بالتأكيد)، ضد «غرباء» هذه المرحلة، لأن النزوح السوري يحظى برعاية دولية وغربية وأميركية بهدف استخدامه ضد السلطة السورية وحلفائها، من جهة، ولأهداف قذرة وفتنوية في الداخل اللبناني، من جهة ثانية. «سياديّو» اليوم، هم أنفسهم «سياديّو» الأمس. أهدافهم هي نفسها. حلفاؤهم وأسيادهم هم أنفسهم. وهم يمضون في ارتباطاتهم وسياساتهم، حتى لو كان الثمن المجازفة باستقرار المنطقة الذي هو أساس الاستقرار في لبنان، وأساس الحفاظ على وحدته وسيادته وفرص نهوضه، فضلاً عن وجوده أساساً!
لكنهم، رغم ذلك، يتسلّحون! فهم يهربون، وقد كشف خداعهم، وفي نطاق الخطة الأميركية نفسها، نحو مواجهة «احتلال» آخر بـ«أداة لبنانية» كما يزعمون. فهنا، مثلاً، يعلن قائد «القوات اللبنانية» تصميمه على مواجهة «فريق الممانعة الإجرامي» كما سمّاه في خطابه الأخير (3 أيلول). ولقد أتى هذا التصعيد السياسي في امتداد تصعيد أمني متواصل: من «الطيونة» إلى «الكحّالة»، إلى «عين إبل»... ما يمكن إدراجه في نطاق «المرحلة الأمنية» المشار إليها آنفاً، من الخطة الأميركية في لبنان، خدمة لمخططات واشنطن في المنطقة، و خدمةً للعدو الصهيوني بالدرجة الأولى، وعلى حساب لبنان وشعبه، في كل الأحوال!
* كاتب وسياسي لبناني