على امتداد تاريخ فلسطيني متواصل لأكثر من قرن، مُثقل بالتضحيات والمعاناة والكفاح، ثمة محطات انعطافية مهمة. واحدة منها ما حصل صباح 7 أكتوبر الحالي في قطاع غزة. بين تلك المحطات ما كان ذا طابع هجومي (نسبياً) كتأسيس حركة «فتح» أوّل عام 1965، التي تبنّت الكفاح المسلح أداة لتعبئة الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده ودوره في النضال لاسترداد وطنه السليب. منها ما كان طابعه دفاعياً كانتفاضة الحجارة (8 كانون الأول عام 1987) التي حفَّزتها، بشكل رئيسي، النتائج الخطيرة لقمّة عمّان قبل شهر (8 ت2). تلك القمة جنحت نحو تطبيع واستعادة العلاقات مع النظام المصري الساداتي الذي أقدم على توقيع معاهدة سلام استسلامي مع إسرائيل، خرج بموجبها من «الصف العربي» فأُخرج من جامعة الدول العربية.محطة غزة الحالية ذات طابع مزدوج، هجومي عبر استهداف مواقع المحتلين، العسكرية والأمنية والمستوطنات في امتداد «غلاف غزة». شكَّل ذلك ذروة في استئناف تنظيم التصدي الهجومي للعدو، والذي برز فيه، قبل أشهر، دور مجموعات شبابية، ودور حركة «الجهاد الإسلامي»، في بعض مخيمات الضفة الغربية ومواقع أُخرى: عبر الكمائن، والمجابهات المباشرة، وإطلاق النار على حواجز العدو... أمّا الطابع الدفاعي، لـ«طوفان الأقصى»، فيتمثّل في محاولة وقف المسار التصفوي للقضية الفلسطينية، الذي يشكل التطبيع إحدى حلقاته الأساسية. آخر وأخطر تلك الحلقات ما أعلنه الأمير محمد بن سلمان، حاكم السعودية الفعلي، من أن قطار التطبيع السعودي مع العدو قطع مسافات مهمة، ويمضي قدماً. مسحت السعودية التي كانت تشجع تطبيع حلفائها مع العدو، وتربط تطبيعها هي نفسها معه بتطبيق مقررات قمّة بيروت لعام 2002 (وأهمها إنشاء «دولة فلسطينية» على حدود 1967)، مسحت مواقفها السابقة. اكتفى وليّ العهد، في مقابلته الشهيرة مع محطة «فوكس نيوز» الأميركية (21 أيلول الماضي)، بإعلان السعي إلى «تحسين حياة الفلسطينيين»! في السياق، باشرت المملكة، بعد فتح الأجواء أمام الطيران الإسرائيلي، باستقبال بعثات ومسؤولي دولة العدو، من دون أن يُكلّف مسؤولوها أنفسهم عناء التوضيح أو التبرير، وذلك انصياعاً للإملاءات والضغوط الأميركية التي تولّت، في كل الظروف والتحولات، تغذية وحماية السياسات الإسرائيلية العدوانية والتوسعية والاغتصابية، وهو ما يتكرّر حالياً في الهجوم البربري على غزة بمشاركة أميركية كاملة.
إذاً، ليس صدفةً، كما تدلّ كل المؤشرات أن عملية «طوفان الأقصى» (رغم المدة الطويلة التي تطلّبها إعدادُها على النحو المحكم والفعّال الذي ميّز تنفيذها)، قد حصلت، بعد أيام قليلة، من إعلان السعودية وصول علاقاتها مع العدو إلى مرحلة متقدمة! إنه، مرةً جديدة، استشعار الخطر من قِبل الشعب الفلسطيني، والذي جرى التعبير عنه بواسطة «حماس» على النحو الذي رمى إلى قلب الطاولة على المتطرفين الصهاينة، والمطبِّعين من الأنظمة العربية التي تدور في الفلك الأميركي، ولغرض إعادة الأمور إلى مبتدئها الأول.
لا شكّ أنه سيكون لـ«طوفان الأقصى» نتائج كبيرة، مهما كانت المحصلات المباشرة التي سيفضي إليها الصراع الضاري الراهن


كان ثمة دائماً صراع، خفيّ أحياناً، وظاهر غالباً، ما بين اتجاهين: الأول الذي يقوده الصهاينة وحماتهم وفي مقدمتهم واشنطن، من أجل تصفية القضية الفلسطينية بكل الوسائل بما فيها الأكثر إجراماً ووحشية ودموية. بلغت الذروة مع مجيء حكومة المتطرفين في إسرائيل برئاسة نتنياهو. هذه الحكومة ذهبت بعيداً في الاستفزاز والانتهاكات والاعتداءات، بما في ذلك على المقدسات من دون أن تُواجَه سوى ببعض العتب الناعم من قِبل من يصنّفون أنفسهم «خدم الحرمين» ورعاة المقدسات، أو من قبل المتاجرين بحقوق الإنسان وحريته وسيادة البلدان وحقوق شعوبها. والطرفان المذكوران يمكن إيجادهما دائماً وأبداً، في المعسكر الغربي والدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. كل ذلك جرى ويجري بالتزامن مع الإمعان في تفكيك البلدان العربية وتفتيتها وإغراق المزيد منها في أزمات وحروب وانقسامات لا تنتهي... أما قطار التطبيع فلم يستثنِ حتى تلك الدول المنهكة بالانقسامات والأزمات على غرار السودان وليبيا. وأخيراً السعودية التي تقع فيها قِبلة المسلمين الأولى وأبرز مقدساتهم. كان الاتجاه السائد يشق طريقه بقوة، ويعزِّز نجاحاته بمزيد من الضغوط، واستعصاء الأزمات، والعقوبات، والحصار والإغراءات والتهديدات وكل ما يقع في نطاق «الحروب الناعمة» بكل أدواتها الدعائية والإعلامية والتحريضية والإغراقية والإغرائية، يدخل في هذا السياق، أيضاً، وسم كل مقاومة للعدوانية الأميركية – الصهيونية بالإرهاب! لقد اقترن زرع دولة الاغتصاب الصهيوني ودورها العدواني والتوسعي، بمشروع الهيمنة الغربية عموماً (والأميركية خصوصاً)، على المنطقة. المشروع الصهيوني هو جزء من المشروع الاستعماري الغربي وأداة له في الوقت نفسه. ولذلك حظي هذا المشروع بدعم لا مثيل له ولا حدود. وهو ما نشهد نموذجاً عنه الآن في الحرب على غزة التي تحوّلت إلى حرب صهيونية أطلسية بكل ما في الكلمة من معنى.
في الطرف الثاني، كان يقف، وبشكل متواصل، رغم الأخطاء والمراوحة والتعثُّر أحياناً، فريق يسعى إلى مقاومة خطط الفريق الأول وسياساته وإجراءاته. وهو فريق فلسطيني وعربي وإقليمي ودولي إلى حد متزايد... ولقد أمكن في هذا السياق النجاح في منع سقوط سوريا في يد المحور الأميركي – الإسرائيلي... وتمّ، إلى حدٍّ كبير، استنزاف وإضعاف محاولة السعودية لبسط سيطرتها الكاملة على اليمن. كذلك أمكن إقامة توازن إيجابي في العراق، رغم السلبيات الكبيرة التي يولّدها نظام التحاصص الطائفي – المذهبي – العرقي... كذلك تمَّ إفشال محاولة خنق المقاومة في لبنان من خلال تحميلها مسؤولية الأزمة والانهيار، ومنعها، بالتالي، من الاستمرار في التصدي للعدو، ولدوره العدواني التوسعي في لبنان والمنطقة. وقد كان للعلاقات السياسية مع روسيا والصين دور مهم في دعم مسار التصدي للمخططات الأميركية والصهيونية. وهي علاقات ينبغي تطويرها لتتخذ طابعاً استراتيجياً في كل الحقول السياسية والاقتصادية والتنموية، على غرار ما أُقرّ، خصوصاً، في الزيارة الأخيرة للرئيس السوري للعاصمة الصينية.
لا شكّ أنه سيكون لـ«طوفان الأقصى» نتائج كبيرة، مهما كانت المحصلات المباشرة التي سيفضي إليها الصراع الضاري الراهن. لقد سقطت هيبة العدو وحماته ممّن تتجه إليهم، معاً، أصابع الاتهام بالتقصير والإهمال العسكري والمخابراتي (فضلاً عن المسؤولية المباشرة عن استمرار مأساة الشعب الفلسطيني). إن مساراً جديداً قد شقّ طريقه بقوة لمصلحة تطوير النضال لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، ولإضعاف الهيمنة الأميركية على المنطقة ولإطلاق مسيرة تحررية تنموية حقيقية جدية وجذرية وشاملة، تكون في القلب منها قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه. أمّا شرط كل ذلك، فهو المباشرة في بدء مراجعة جدية، واسعة وصادقة، للتخلص من السلبيات والثغرات والأخطاء والأوهام والفئويات.

* كاتب وسياسي لبناني