لماذا استهدف الاحتلال فرح عمر وربيع المعماري؟ ولماذا استهدف الاحتلال أكثر من 60 صحافياً في قطاع غزة؟ ولماذا يعتقل الاحتلال الصحافيين في الضفة الغربية أو يقتلهم؟في وقت سابق كان هذا القتل أحد المحرّمات في العالم، اليوم لم يعد كذلك. فيمكن لأي سلاح أن يوجه في اتجاه الصحافيين ويقتلهم، لا يقول القتلة ذلك، بل ينفّذون القول بالفعل، يوجّهون الصاروخ من الطائرات بطيار أو من دون طيار، ويضغطون على الزر، فإذا بالصحافي يسقط شهيداً. الذي كان محرّماً اسمياً، كان يُمارس بأساليب مختلفة، خَفية ومموّهة في الغالب، ولا سيما من «الديمقراطيات» العتيدة. أما اليوم فقد أصبحت الصواريخ الموجّهة تقتل عن بعد الصحافي تلوَ الآخر في قطاع غزة وفي لبنان، وفي كل مكان تخرج فيه كلمة تشير إلى الاحتلال بأنه احتلال.
هذه الصواريخ التي تقتل الصحافيين في العدوان الحالي على فلسطين ومناطق من لبنان، يعلن فيها الاحتلال أن الصحافيين ممنوعٌ عليهم ممارسة مهنتهم في تغطية الأحداث ونقلها، ويعلن للصحافي أنه من الممكن أن يكون الضحية التالية، قبل أو بعد أن يهدّد. فممنوع عليه أن ينقل صورة القاتل إلا كما يريد القاتل، وممنوع عليه نقل الحقيقة، نقل ما يراه بأمّ العين، وهذا ينسحب فقط على الصحافيين ووسائل الإعلام التي لا تضحك على نفسها بالحياد حيال أي مسألة مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، فهي في الطرف الآخر منه مهما كانت القضية. أما وسائل الإعلام الأخرى، التي تغطي انتهاكات القتلة بتحريف أو تزوير أو تحرير تحت مسمى المهنية (كثير من القنوات العربية وغير العربية تفعلها) فهي لا تنحاز إلى طرف على الإطلاق، بل هي تشارك في القتل بالكلمة والصورة والصوت.
في منطقتنا العربية، قُتل عدد كبير من الصحافيين، بغير يد وغير سلاح، وفي هذه المنطقة لم تكن في يوم من الأيام الكلمة حرة، وفي هذه المنطقة تعيش الحرية مسجونة بلا تهوية. لكن في بعض هذه المنطقة أيضاً، الحرية السياسية الوحيدة المتاحة والمشرّعة هي حرية الهجوم والانتقاد لإسرائيل، والرد على كل من لا يعجبه هذا الهجوم من «مستغربي» المنطقة، أي من المعجبين بـ «التجربة الإسرائيلية». هذه الحرية المشرّعة في بلادنا، مسموحة لأنها معيار الحق والباطل، فالبعض صادق مع فلسطين قلباً وقالباً، وبعض آخر يتوكّأ على فلسطين... وإننا جميعاً كأحرار ومقموعين، نعرف من هي إسرائيل، ونعرف جيداً شكلها ومضمونها. ومن نحن؟ نحن أبناء المناطق المحتلة في فلسطين والبلدان العربية المحتلة، والمخيمات، والثورة الفلسطينية، وحصار بيروت، والانتفاضتين، ومخيم جنين وباقي المخيمات المدمّرة والتي على قيد التدمير... نحن أحفاد أوائل المهجرين من أرضهم، نحن أبناء الجنوب، نحن جميعاً الذين نعرف من هي إسرائيل، نحن أبناء التحرير... نحن من فلسطين. هذه الحرية الوحيدة المسموحة لنا في منطقتنا، هي الحرية التي ندفع ثمنها في مواجهة أخرى، تكون مع الاحتلال ليس في الحروب فقط، بل في كل كلمة ولقطة وحتى "بوست" أو "تويته". وهذه الحرية المرتبطة بفلسطين هي التي ستجلب لنا حرياتنا المسجونة بلا تهوية في منطقتنا.
الزملاء الذين استشهدوا في الجنوب اللبناني خلال هذا العدوان، ينتمون إلى فلسطين التي ليس الانتماء إليها كباقي البلاد، يرتبط ببطاقة ممغنطة صادرة عن الدوائر الرسمية. فلسطين هي الهوية التي لا تحتاج إلى أوراق تثبت الانتساب إلى المكان، ففلسطين هي الرحابة التي تحتاج إلى شرط واحد لدخولها، ارتكاب الخطيئة بالانتماء إلى الحق والحقيقة، وإنكار من يدّعونها، والوقوف طرفاً في مواجهتهم ومواجهة داعميهم. وفلسطين هي المكانة التي ترفع وتُعلّي. من يفعل ذلك يعلن نفسه إنساناً منذ البداية، ويعلن أنه قد يسيقظ يوماً من نومه ليجد نفسه شهيداً، وقد يكون اسماً علّقت صورته الجهات على الجدران ملصق شهيد.
هؤلاء الشهداء أبناء المهنة الجليلة، الموثّقة للحدث، والحافظة للتاريخ، أبناء شرعيون لشهداء قبلهم، كغسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان وناجي العلي وماجد أبو شرار وشيرين أبو عاقلة وغيرهم. هؤلاء جميعاً لا يتوقفون عن القيام بفعلهم العظيم، فهم في الميدان مع زملاء يحملون الكاميرا والمايك والورقة والقلم، يدفعون بأرواح زملائهم نحو الحقيقة، الحقيقة التي سطّرها أكثر من 60 صحافياً استشهدوا في قطاع غزة ولبنان، وسطّرتها معلوماتهم التي نتناقلها ونكتب عنها تعليقاً وتقريراً وتحليلاً.
يستشهدون فداءً للأرض، لكنهم يستشهدون فداء للحقيقة التي حين قرروا أن يكونوا صحافيين، قرروا الانتساب إليها، كرمى للإنسان الذي في داخلهم، كرمى للإنسان الذي يظلمه العالم وتنتصر له إرادة الحياة.