ليس خفيّاً على المتابع لتطوّرات الأحداث في غزة أن الولايات المتحدة لطالما حاولت كسب الوقت لمصلحة استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع المحاصر بغية تحقيق بعض الأهداف. هذه المماطلة لم تجدِ نفعاً، والمحاولات المتكررة لعرقلة جهود وقف إطلاق النار استطاعت فقط تأخير الهدنة. القبول بالهدنة الأخيرة كان الحل الوحيد أمام الأميركيين والإسرائيليين، وخصوصاً بعد تحسّس الأميركيين خطر امتداد بقعة المعركة أكثر فأكثر، حيث يُشكّل مصطلح «عدم توسيع دائرة الصراع» هاجساً للإدارة الأميركية.لم يكتفِ الرئيس جو بايدن بالتمسك بما سمّاه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، بل تجاوز ذلك إلى الدعم العسكري والاستخباري لآلة القتل الإسرائيلية، وفي الوقت ذاته فإنّ التصريحات الأميركية التي أيّدت الهدنة لا تتعدى كونها ركوباً لموجة هذه التهدئة للحصول على بعض المكاسب، وعلى رأسها السعي لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين وخصوصاً من يحمل الجنسية الأميركية منهم.
من السّذاجة أن يقتنع المطّلع على طبيعة العلاقة الإسرائيلية - الأميركية بأن الولايات المتحدة عاجزة عن فرض وقف لإطلاق النار في غزة، أو على الأقل التوصّل إلى هدنة إنسانية أو تمديد أخرى، ولكن مصلحة «إسرائيل» هي المعيار الأول لأيّ تحرك أميركي.
إن أيّاً من تخفيض الدعم العسكري لإسرائيل أو مجرد التلميح بخفض مستوى الدفاع الأميركي عمّا يسمّى «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس» في المحافل الدولية أو استخدام أدوات ضغطٍ أخرى، ستدفَع القيادات الإسرائيلية إلى مراجعة حساباتها أو على الأقل خفض مستوى الهمجية العسكرية التي تتبعها هذه القيادات.
يبدو جليّاً أن الولايات المتحدة ليست حكَماً نزيهاً في هذه الحرب، كما يحاول الإعلام الغربي الترويج له، فالواقع يثبت عكس ذلك؛ البيت الأبيض شريك في الجرائم التي اقترفت بحق الشعب الفلسطيني، والرئيس بايدن يؤكد مراراً وتكراراً وجوب القضاء على «حماس» غير آبهٍ بما تقوم به إسرائيل من انتهاكاتٍ للقوانين الدوليّة خلال هذه العملية العسكرية الدمويّة.
إذا قمنا بمقارنة الأزمة الحالية بأزمة الاستيطان الإسرائيلي المستمر في فلسطين، فسنرى التصريحات الأميركية نفسها التي تدعو إلى إيقاف قضم الأراضي الفلسطينية ووقف الاستيطان دون نتائج على الأرض، فجريمة الاستيطان والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين لطالما كانت بمباركة أميركية تحت الطاولة. ولو كانت الإدارة الأميركية غير راضية عن هذه الجريمة لكانت قد اتخذت خطوات أقسى من مجرد الكلام، الأمر الذي يتكرر في الأزمة الحالية في غزة، فلا ضغوطَ على الصهاينة تُذكر، والأمر لم يتعدَّ إطلاق تصريحات لا تقنع حتى طفلاً غزاوياً.
لقد أعربت بكين عن «خيبة أمل عميقة» نتيجة استخدام الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن في الـ 16 من تشرين الأول/ أكتوبر لمنع تمرير مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية، وإطلاق سراح جميع الرهائن من كلا الطرفين وفتح الممرات الإنسانية، ولكن حتى مشروع القرار الإنساني هذا كان محكوماً بالفشل بسبب العرقلة الأميركية، الأمر الذي أحبط جميع المصوّتين لمصلحة القرار، وعبّرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ عن موقف الصين من هذه العرقلة خلال مؤتمر صحافي بقولها: «تشعر الصين بخيبة أمل عميقة حيال عرقلة الولايات المتحدة تبنّي مجلس الأمن مسوّدة قرار بشأن القضية الفلسطينية».
وفي الـ 18 من تشرين الأول/ أكتوبر، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) للمرة الثانية في وجه مشروع قرار بشأن هدنة إنسانية في غزة بعدما صوّتت 12 دولة لمصلحة القرار بما فيها الصين، ما يظهر اللامبالاة الأميركية تجاه المأساة الإنسانية في غزة.
وبعد عجزٍ عسكري، وضغوطٍ دولية وأخرى داخلية أكبر على الحكومة الإسرائيلية، ونتيجة فشل المماطلة الأميركية، كان القبول بالهدنة أمراً لا مفرّ منه، لكن هذا لم يمنع الأميركيين من استثمار التهدئة من خلال نشاط رئيس الاستخبارات الأميركية وليم بيرنز للحفاظ على المصالح الإسرائيلية أولاً، وسعياً لإطلاق سراح الأسرى الموجودين في قبضة المقاومة الفلسطينية ثانياً.

الموقف الصيني منذ بداية الأزمة
تحاول القيادة الصينية كبح جماح الأزمة بكل الطرق المتاحة لها، واعتقد البعض أن الموقف الصيني من الحرب الإسرائيلية على غزة سيراعي مصالح الصين في المنطقة دون اتخاذ موقف يميل إلى أحد الطرفين، لكن هذه التوقعات لم تُصِب وكشفت مأساة غزة للعرب والمسلمين العدو من الصديق، فابتعدت الصين عن سياسة الحياد ووقفت إلى جانب المعسكر الرافض للجرائم بحق الشعب الفلسطيني. الموقف بدأ من دعوة الصين لوقف الأعمال العدائية وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وصولاً إلى القمة الاستثنائية الافتراضية لقادة دول «البريكس» حول القضية والتي عُقدت يوم الثلاثاء 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث ألقى الرئيس شي جين بينغ كلمةً مهمّة وَضَع من خلالها النقاط على حروف الموقف الصيني ودعا إلى إيقاف جميع أعمال العنف ضد المدنيين بشكل دائم وتأمين ممرات آمنة دائمة لتقديم المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة.
وأكد شي أن الطريق الوحيد لكسر دائرة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يكمن في حل الدولتين، واستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة، وإقامة دولة فلسطين المستقلة. وأعلن في كلمته أن الصين تدعو إلى عقد مؤتمرٍ دولي للسلام بأقرب وقت ممكن لبناء توافق دولي للسلام والعمل نحو إيجاد حل مبكر للقضية الفلسطينية يتّسم بالشمول والعدل والاستدامة.
و بشأن الهدنة، أعربت الخارجية الصينية عن ترحيبها الشديد، وأكد المسؤولون الصينيون أن الصين ستعمل على تكثيف العمل في مجلس الأمن الدولي الذي تترأسه حالياً للتوصل إلى وقف كامل ودائم لإطلاق النار.
لم تدّخر الصين جهداً لإيجاد نواة لحلّ دائم وشامل للقضية الفلسطينية، وزاد هذا النشاط بشكل كبير بعد رد الفعل الإسرائيلي الهمجي على عملية «طوفان الأقصى» وما نجم عن العدوان الإسرائيلي من جرائم حرب بحق المدنيين الفلسطينيين.
منذ الأيام الأولى للأزمة، أصدرت الصين تصريحات واضحة وبذلت جهوداً حميدة لتعزيز الحوار والسلام، وقدّمت مساعدات إنسانية عاجلة إلى غزة، وقد تواصل وزير الخارجية الصيني وانغ يي، سواء عبر الهاتف أو عبر اللقاء الشخصي، مع كل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وأطراف أخرى فاعلة. وشدد وانغ في هذه المحادثات على أن «القضية الفلسطينية ظلّت لبّاً لقضية الشرق الأوسط، وجرحاً نازفاً لا يزال مفتوحاً في عالم اليوم. وأنّ مصدر القضية هذه يكمن في انعدام تحقيق تطلّع إقامة دولة فلسطين المستقلة لمدة طويلة، وانعدام تصحيح الظلم التاريخي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني».
أَجهضَتْ «طوفان الأقصى» حلم إسرائيل بشرق أوسط جديد. وليس سبب سقوط هذا المشروع عمليات المقاومة الفلسطينية ونتائجها فحسب، بل إن تفوّق الإسرائيليين على أنفسهم في مستوى الإجرام كشف للعرب قبل غيرهم أن العقلية الإسرائيلية لا تريد السلام ولا يليق بها السلام.
من جانب آخر، يبدو أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي أطلقته الولايات المتحدة بغلافٍ برّاق يُزَيّن مصالحها ومصالح شركائها في المنطقة، بدأ يواجه مشروعاً شرقياً صينياً مضادّاً هدفه خلق سلامٍ دائم وتنميةٍ شاملة في الشرق الأوسط ارتكازاً على مبادراتٍ صينية اقتصادية وسياسية عديدة، أهمها: مبادرة «الحزام والطريق»، مبادرة «الأمن العالمي» ومبادرة «التنمية العالمية»، هذه المبادرات التي لاقت قبولاً كبيراً لدى معظم الدول العربية، والتي تراها شعوب هذه الدول أملاً جديداً للتخلص من الاستكبار الأميركي وبصيصَ أملٍ لنهوض بلدانهم من أزماتها المُفتَعَلةِ المتلاحقة.

* صحافي متخصص بالعلاقات الصينية - العربية