صدر للباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي ألبير داغر، في الأشهر الأخيرة، خمسة كتب جديدة، عن «المركز العربي لدراسة السياسات» وعن «منتدى المعارف»، وهي: «تيارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية»، و«تجربة لبنان التنموية»، و«انهيار سعر صرف الليرة في لبنان: دور الصندوق ودور الداخل»، و«الإدارة العامة في لبنان»، و«السياسة الصناعية في لبنان».تنتمي هذه الكتب إلى مجموعة الأفكار التي تؤسس لحقبة ما-بعد النيوليبرالية. حكمت هذه الأخيرة العالم 40 عاماً، وكانت تفرض نفسها على الشعوب والبلدان، ليس برضى الناس بل غصباً عنهم. وكانت تفتعل الأزمات المالية في بلدان العالم النامي، وتدمّر إداراتها العامة وتدمّر صناعاتها. وكان الناس يتعاطون معها كأنها قدر لا فكاك منه. وقد أسهمت وحشيتها في تأليب العالم ضدها.
في ما يأتي عرض سريع حول الإصدارات الخمسة:

[1] «تيارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية»
الكتاب عرضٌ لمقاربات 3 تيارات معاصرة هي «المؤسساتية المقارنة» و«ما-بعد الكينزية» و«البنيوية الجديدة». وهي تقف على طرفي نقيض من المقاربة النيو-ليبرالية التي تقترح تنحية الدولة في مجال التنمية. وقد أوضح المؤسساتيون دور الدولة التاريخي في التنمية، من خلال السياسات التي اعتمدتها، ومن خلال البنى الإدارية التي وفرتها الدولة وجعلت منها حاجة للنمو الرأسمالي، ومن خلال «العلاقة التي نسجتها الدولة مع المجتمع»، أي مع النخب الاستثمارية، وتجسّدت بـ«تعظيم قدرة هذه الأخيرة على الاستثمار». وأوضح البنيويون أن العائق الأساس أمام التنمية هو العلاقة التي تنسجها «الدولة المسيطرة» مع «الدول والنخب المستزلَمة». وأوضح ما-بعد الكينزيون أن الاستثمار الخاص هو في الأساس غير كافٍ، وأن على الدولة أن تكون جاهزة لتبوّؤ موقع «المستثمر الأول».
وقدّم الكتاب أساساً نظرياً لسياسات تنمية عربية ينبغي أن تشكّل بديلاً عن تلك المعتمدة حالياً. واقترح أجندة جديدة على الباحثين من خلال حثهم على إعطاء الأولوية لموضوعات بعينها في دراستهم للحالة العربية، أي استبدال الموضوعات التقليدية بموضوعات جديدة يشكّل عدم دراستها مصدر الإعاقة الأهم للتنمية العربية. وهذه الموضوعات هي موضوعات الإدارة العامة و«التصنيع المتأخّر» والتعليم العالي والعلاقة مع النظام الدولي.

[2] «تجربة لبنان التنموية»
هو قراءة للتجربة اللبنانية منذ العهد العثماني حتى اليوم. وقد تناول تجربة بلدنا بوصفه جزءاً من السلطنة العثمانية التي قبِلت بأن تتحوّل خلال التاسع عشر إلى اقتصاد تابع في النظام الدولي ينتج سلعاً زراعية للأسواق الغربية. وانطلق من الإمبريالية كمفهوم لتبيان علاقة النظام الدولي ببلداننا ونخبها منذ ذلك التاريخ. وقدّم مسحاً للأدبيات حول لبنان خلال حقبة الاستقلال حتى عام 1975. وأظهر أن تجربة لبنان التنموية منذ الخمسينيات حصلت ضد الريف. أو أن الريف وأهله كانوا ضحيتها الأولى والرئيسية. وبيّن أن تجربة ما بعد 1990، استعادت تجربة مطلع الاستقلال، لجهة انحصار الاستثمار الحكومي في خدمات بعينها هي المواصلات والاتصالات والكهرباء، ولجهة إعطاء الأولوية لمصالح «أصحاب الريوع المالية» أي القطاع المصرفي. وبيّن أن تجربة ما بعد 1990 كانت أسوأ من تجربة ما قبل 1975، لأنها أضافت عنصرين، هما: تحرير التبادل التجاري مع الخارج - وكان من شأن ذلك الإجهاز على القطاع الصناعي ووضع السياسيين أيديهم على الإدارة العامة، الأمر الذي أفرغها بالكامل من مقدرتها الإدارية. وركّز على عجز ميزان المدفوعات الذي استمر طوال العقد الأخير. الأمر الذي برّر للصندوق ولوكالات التصنيف إصدار تقارير أدّت إلى هروب الودائع وانهيار المصارف وانهيار العملة.

[3] «انهيار سعر صرف الليرة في لبنان: دور الصندوق ودور الداخل»
وهو حول الأزمة المالية الراهنة، وقد قدّم قراءة للأزمة تحت ثلاثة عناوين هي: (1) دور الصندوق في افتعال انهيار سعر صرف الليرة، (2) دور الأفرقاء الداخليين في تعميق الأزمة، (3) كيفية الخروج من الأزمة.
وأظهر أن هناك خمسة أسباب أو مسوّغات تجعل الصندوق يقترح خفض سعر صرف العملة في أي بلد كان وافتعال أزمة مالية فيه. وهي كما جاءت بالترتيب في الكتاب: صدمات العرض، أي ارتفاع الأجور وكلفة الإنتاج، وضرورة أن تتحمّل المصارف مسؤولية اندلاع الأزمة الذي يحصل حين تتوقف هذه الأخيرة عن الدفع، بأن تعلن إفلاسها، ووجود ديون خارجية تجبر على استجداء قروض دولية لتسديدها، ووجود عجز مستدام في ميزان المدفوعات يبرّر لـ«وكالات التصنيف» أن تشكّك بقدرة البلدان المعنية على تسديد ديونها. وهناك التقارير التي يصدرها الصندوق وتؤدي إلى سقوط الثقة بالعملة وهروب الرساميل. وفي حالة لبنان، تكامل دور تقرير الصندوق في شباط 2018 مع تقارير «وكالات التصنيف» لعام 2019، لافتعال هروب الرساميل والتسبّب بالانهيار. وهذا الكتاب يقول صراحة إن الصندوق هو الذي افتعل الانهيار. ويقول الكتاب ذلك من خلال عرض الوقائع فقط.
وقد بيّن الكتاب أننا إزاء أزمة مصرفية ناتجة عن خروج الودائع الذي أدّى إلى تجفيف الدولار في المصارف. وتحوّلت هذه الأزمة المصرفية إلى انهيار لسعر صرف الليرة، بمجرّد أن كان الخيار إنقاذ المصارف بمنعها من الإفلاس وإصدار كمّ هائل من الليرات لتسديد الودائع لأصحابها ولكن بالليرة. وبيّن أن الهدف من إيصال سعر الصرف إلى مستوى 100 ألف ل.ل./د كان الهدف منه تذويب ديون مصرف لبنان العائدة للمصارف وتذويب الدين العام المتراكم وتذويب ديون المصارف تجاه المودعين فيها.
وقد تناولت الفصول الأخيرة من الكتاب كيفية الخروج من الانهيار. وذلك بالخروج من تعويم سعر صرف الليرة والعودة إلى تثبيت هذا السعر. والاقتراح هو أن يكون ذلك بإرساء «رقابة على القطع» تقوم على وضع أولويات للاستيراد وعدم ترك حرية الاستيراد على غاربها كما هي الآن. لكن الاقتراح الأهم، أو الشرط الرئيسي لإنجاح عملية تثبيت سعر الصرف، هو اعتماد «موازنة حكومية للاستثمار» تتيح استعادة لبنان كاقتصاد منتج قادر على التصدير.

[4] «الإدارة العامة في لبنان»
هو مجموعة نصوص تهدف إلى إثبات استحالة تحقيق تنمية فعلية من دون دور فعّال للإدارة العامة في ذلك. وهذا ما يتناقض مع ما نشهده من تدمير للإدارة العامة في لبنان على مدى الثلاثين سنة الماضية وخلال الأزمة الطاحنة الحالية.
وقد تناول موضوع الإصلاح الإداري، أولاً من خلال إلقاء الضوء على أوضاع الإدارة العامة اللبنانية، وثانياً من خلال طرح الأسس النظرية التي تعيّن كيفية إصلاح الإدارة العامة. أي إن فصوله انقسمت إلى نوعين. قدّم النوع الأول وقائع حول الإدارة العامة اللبنانية قبل 1975 وبعد 1990 وصنّفها تبعاً لفئات الإدارات العامة المتعارف عليها في الأدبيات ذات الصلة.
أما النصوص من النوع الثاني، فهي نصوص نظرية يقع في القلب منها السجال بين تيارين فكريين يقفان على طرفي نقيض لجهة دور الإدارة العامة في التنمية. الأول، هو التيار النيو-ليبرالي الذي يقول بأن لا حاجة إلى الإدارة العامة لتحقيق التنمية. وهو عمد على مدى الأربعين سنة الماضية إلى «شيطنة» الإدارة العامة.
وقد تصدى له التيار الثاني، الذي هو تيار المؤسساتية المقارنة. وتصدى لاحتكار النيو-ليبراليين الذين تمثلهم المؤسسات الدولية لمسألة إصلاح الإدارة العامة، وقدّم للمعنيين بالتنمية في البلدان النامية نظرية صلبة لمواجهة التخريب الذي تقوم به هذه المؤسسات في بلدانهم.
واستعاد الكتاب مواقف تيارات أربعة حول دور الإدارة العامة في التنمية، هي تيار النفعيين الجدد وتيار المؤسساتية المقارنة وتيار انتروبولوجيا الدولة والتيار الذي تمثله المؤسسات الدولية.
واستعرض المواصفات التي ينبغي أن تتوفر عليها الإدارة العامة، كما جاءت في أدبيات تيار المؤسساتية المقارنة، لكي تنجح في تحقيق التنمية. وهي استقلاليتها، ومقدرتها الإدارية، والعمل على أن لا يكون شكل انخراط الدولة في العلاقات الدولية هو العائق أمام التنمية والكابح لها.
وبيّن الكتاب أن الشرط الداخلي الأول لبناء إدارة عامة تحقّق التنمية هو تنسيب أفرادها بواسطة المباريات الوطنية على قاعدة الاستحقاق، أي بمعزل عن أي تدخّل للسياسيين وتثبيت العاملين فيها. وهذا ما يسمّى بـ«الإدارة الفيبرية».

[5] «السياسة الصناعية في لبنان»
هو إضاءة على أوضاع الصناعة في لبنان، لكنه على وجه الخصوص مُحاجَّة نظرية بين تيارين فكريين حول دور الدولة في الصناعة، مع الاستعانة بالوقائع المستخرجة من تجربة شرق آسيا بوصفها «تصنيعاً متأخّراً».
وقد اقترح التيار النيو-كلاسيكي، الذي عبّر عن نفسه من خلال مواقف المؤسسات الدولية، أن تعتمد البلدان النامية «مبدأ حقيقة الأسعار»، أي أن تُزيل الدولة كل أشكال الحماية والدعم الموفّرة للقطاع الصناعي لإزالة «تشوهات الأسعار». وهي التي يعتبر هذا التيار أن بقاءها يشجع إنتاج سلع غير تنافسية ويمنع الاستثمار الأجنبي المباشر من الاستثمار فيها.
ثم اقترح البنك الدولي مقاربة سمّاها «ودية تجاه قوى السوق» (market friendly) اعتُبرت معتدلة مقارنة بالأولى، ورأت أن تدخّل الدولة لمصلحة الصناعة يجب أن ينحصر بالاستثمارات الحكومية في البنى التحتية والصحة والتعليم.
وقد جاء اقتراح هاتين المقاربتين، لثني بلدان العالم الثالث عن استيحاء النموذج الآسيوي في دعم الدولة للصناعة، والذي يناقض تماماً المقاربة النيو-كلاسيكية. ولقد اعتمد هذا النموذج أشكالاً متعددة من الحماية والدعم للصناعة. وهو ما سمّته أليس أمسدن «جعل الأسعار غير حقيقية». واعتمد إجراءات تجارية وصناعية «انتقائية» لدعم الصناعة.
وقد أضاف هذا الكتاب إلى الأسس النظرية التي تؤيد تدخّل الدولة لدعم الصناعة بواسطة السياسة الصناعية، مفهوم «تأميم الاستثمار» الذي بلوره كينز وشرحه من بعده منظّرو المدرسة ما-بعد الكينزية. وهذا المفهوم يجد ترجمته في اعتماد «موازنة حكومية للاستثمار» أهم ما فيها دعم إنتاج سلع تكنولوجية برسم التصدير.

أخيراً، يعتبر المؤلّف أن هذه الكتب تقدّم «بديلاً من أجل وقف الانهيار النقدي وإصلاح الإدارة العامة واعتماد سياسة صناعية تستعيد لبنان كاقتصاد منتج وتوقف نزف أبنائه الكارثي»، آملاً أن تشجّع الأفكار المطروحة اللبنانيين «لكي يبادروا للنقاش».