ما قبل السابع من تشرين الأول ليس كما بعده؛ فـ«طوفان الأقصى» أصابت العقيدة الأمنية الإسرائيلية في مقتل، ما دفع الكيان المحتل إلى الانتقال من «الاحتواء الأمني» في التعاطي مع المقاومة في كل من فلسطين ولبنان إلى «الحسم الميداني-العسكري»، تحت شعار: «حرب اللاخيار». هذا ما يعلنه الإعلام الإسرائيلي صبحَ مساءَ على مسامع جماهيره في الداخل والخارج، في مسعى منه لتفسير سلوكيات الإبادة الجماعية تجاه غزة، ولتبرير حجم خسائره البشرية والاقتصادية على طريق تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب: استرجاع الأسرى، كسر ظهر مقاومة غزة، ومن ورائها مقاومة الضفة الغربية، وخنق أصوات عرب الداخل، تغيير الواقع السياسي في القطاع ما بعد الحرب، فرض تغييرات على خريطة التموضع العسكري للمقاومة في لبنان على امتداد المناطق المحاذية لمستوطنات غلاف الجليل المحتل.
سلوكُ إبادة جماعية، دأب المستويان السياسي والأمني في تل أبيب ونخبها على ربطه بعلم النفس السلوكي ومؤسسه الأميركي جون واطسون، لتبرير أفعال الإبادة الحاصلة في غزة ربطاً بنظرية التيار السلوكي الشهيرة: لكل مثير استجابة. فالاستجابة المتوحشة هي الحرب المجنونة على غزة، والمثير هو يوم السابع من تشرين الأول الممهور ميدانياً بتوقيع حركة المقاومة الفلسطينية - «حماس».
وهنا مربط الفَرَس؛ صحيحٌ أن التيار السلوكي في علم النفس يقول «إنّ لكل مثير استجابة»، لكنه يربط تلك الاستجابة بالدافع، فيمكن للأفراد تغيير الاستجابات غير السوية أو إرساؤها من خلال الدوافع، فليس كل فقير (مثير) مشروع لصٍّ (استجابة)، فالاستجابات حول المثير نفسه تتفاوت بين البشر باختلاف دوافعهم.
انطلاقاً من هذا، وجب تفسير السلوكيات العداونية الإسرائيلية المتأصّلة من خلال ربطها بالدوافع الكامنة، كي يتسنّى فهم حقيقة الدوافع المحرّكة للاوعي المحتل، حيث عملت، ولا تزال، على ترسيخها حكوماته المتعاقبة في عملية صناعة اللاوعي العنصري المتفوّق، بداية منذ عام النكبة بهدف استجلاب اليهود من أربع رياح الأرض إلى «أرض الميعاد»، وصولاً إلى ضمان استمرار تجمعات المستوطنين على أرض محتلة وسط بيئة عربية معادية.
في عملية التشريح العلمي للدافع، جرت الاستعانة بعالم النفس الجماهيري غوستاف لوبون، وعالم النفس إبراهام ماسلو، اللذين صاغا نسقاً مترابطاً فسّرا من خلاله طبيعة الدوافع أو الحاجات التي تحرّك السلوك الإنساني وتشكّله. وبشرح مبسّط لخلاصة نظريات العالمين نخرج بنتيجة مفادها: أن على صاحب مهنة التأثير على الجماهير أن يصنع دوافعهم عبر امتهانه الربط بين حاجات الأفراد (مادية، معنوية) والهوية الاجتماعية (أرض: الميعاد، لغة: عبرية، معتقد: يهودي)، وهو ما مارسه بالفعل حكّام الكيان ونخبه على الإسرائيليين والشعوب العربية منذ عام 1948، حيث عملوا على تضخيم ذوات يهود إسرائيل إلى حدود قصوى، بحيث أمسى المستوطنون العنصريون يرون أنفسهم في مصافي البشر، وينظرون إلى العرب، على اختلاف أجناسهم وأوطانهم وطوائفهم، كدوابّ وحيوانات. وهذا عين ما وصف به لاحقاً وزير حرب العدو يوآف غالانت أهل غزة في حرب الإبادة المتواصلة على القطاع المحاصر، حين قالوا عنهم في أكثر من إطلالة إعلامية إنهم «حيوانات على شكل بشر».
إذاً، في معركة «طوفان الأقصى» فازت «حماس» بفعل الميدان في تهميش نرجسية التفوق الأمني والعسكري والمعنوي والتكنولوجي والاقتصادي والعلمي عند الإسرائيليين، كما فعلت قبلها مقاومة حزب الله حين حطّمت مصطلح «الجيش الذي لا يُقهر»، وهذا من شأنه أن يبعثر مفاتيح شيفرة الجماهير التي تباهى العدو بامتلاكها لسنين طويلة خلت في معركة السيطرة على اللاوعي الجمعي الإسرائيلي والعربي في آن، فكيف لـ«الحيوانات أن تتفوّق على البشر»؟ إشكاليةٌ جعلت فرضيات الإجابة عنها تعصف بالجسد الشعبي والعسكري والسياسي الإسرائيلي من رأسه إلى أخمص قدميه، حيث تزايدت داخلياً النقاشات حول قرب بداية نهاية الكيان، وعن حلم دنا وقت الاستيقاظ منه، فعندما تسقط عقيدة التأثير تسقط معها دولٌ وكياناتٌ ومنظمات.
هذا هو حجم الخطر المحدق بإسرائيل، لهذا صار مفهوماً الإجماعُ الداخليُّ على الحرب، فالسلوك الاستجابي العداوني هنا يحرّكه الدافع، الدافع لتدمير وإبادة شعوب ومقاومات فلسطينية ولبنانية ويمنية وعراقية وسورية، نجحت في تنفيس النرجسية الإسرائيلية المنتفخة، وتظهير حقيقة ذوات مستوطنيها المضطربة، فهذه حرب اللاخيار: إمّا نصرٌ كبيرٌ يُرمّم بقايا نرجسية مصطنعة، أو تدقّ ساعة زوال الكيان.

* أكاديمي