المفارقة في حالة الكويت هي أنّه، من جهة «المؤهلات» التاريخية والاستعدادات الطبيعية، فإنّ هذه الدولة، هي وليس دبي، من كان مرشّحاً في الخليج للقيام بدور القطب التجاري والمالي - الـentrepot - على طريقة سنغافورة أو هونغ كونغ. يشرح لك المؤرّخون أن موقع الكويت كان دوماً، ومهما عدت في التاريخ، بالغ الأهمية واستراتيجياً للغاية. وحتى بالمعنى التجاري، ففي الكويت تتقاطع الطرق الآتية من نجد والعراق والداخل العربي والخليج والمحيط الهندي في آن. إضافة الى ذلك، دخلت الكويت القرن العشرين وفيها تراثٌ حضريّ وعائلات تجارية وجاليات من المحيط قد تمرّست في أنشطةٍ وأعمالٍ عابرةٍ للحدود. في وسعنا هنا بسهولة أن نلعب «تجربة ذهنية» نتخيّل فيها تاريخاً موازياً يقرّر فيه الكويتيون - في الستينيات مثلاً - أن «يتخصّصوا» في هذا الدّور الخدمي: يدفعون بأولادهم الى اختصاصاتٍ مثل الهندسة البحرية والإدارة والتمويل، شركاتهم تنتشر في الإقليم ومعها شبكة مرافئ ولوجستيات، الخ. في هذا الواقع البديل، كانت ربّما ستروج عن «الكويتي» الصورة النمطية للتاجر الحذق حلو اللسان الذي يجب، كاللبناني، أن تأخذ حذرك منه على الدوام.الكويت، بالطبع، سلكت طريقاً مختلفاً بالكامل، حتّى أصبحت هي المثال المحلّي لـ»الدولة الريعية» ومشاكلها: عددٌ صغيرٌ من السكان، ثروة نفطية كبيرة، شبكة هائلة للتوزيع والدعم الاجتماعي، ونظام سياسي تمثيلي يحصّن هذه المكتسبات (من هو النائب الذي سيطالب بتخفيض رواتب ناخبيه؟). في الثمانينيات، أطلق أكاديمي فرنسي على الكويت لقب «الدولة الريعية الكاملة»، حين فاق دخلها من الاستثمارات الخارجية، أي من فوائض النفط، دخلها من تصدير النفط الخام في إحدى السنوات - الرّيع من الرّيع. من هنا أيضاً يشير البعض في الخليج، حين يروّج لإصلاحات أو خطّةٍ جديدة أو تقشّف في بلده، الى الكويت كمثالٍ عن «الانفلات الريعي» الذي يجدر تجنّبه. ولكنّ جزءاً مما نحاول قوله في هذه السلسلة هو أنّ هذه الحال ليست نتاج خياراتٍ «خاطئة» في الماضي، ذهبت يميناً هنا بدلاً من أن تأخذ اليسار. ولا هي عوارض لـ»مرض هولندي»، أو أنّ الرّيع في ذاته يولّد الكسل والخمول. والذنب بالطبع لا يقع على «فائضٍ من الديموقراطية». في الحقيقة، فإنّ السيناريو الذي رسمناه أعلاه عن الكويت - سنغافورة كان يمكنه - نظرياً، ربّما - أن يتحقّق لو ظلّت الكويت كما كانت عليه في القرن التاسع عشر: مدينة - إمارة تحاول موازنة دورها بين جيرانها والقوى الدوليّة، ولا يمكنهاها أن تعيش وتكتفي من غير التبادل مع الخارج، وهي بالتالي تحتاج إلى أن يحتاج إليها محيطها، وإلى أن تستخدم كلّ ما لديها من موارد وعلاقاتٍ ومزايا، وأن تكون لها علاقة مع الصحراء وعلاقة مع البحر. ولكن هذا الاحتمال يصبح شبه مستحيلٍ حين تندمج في السوق الدولية كمصدّرٍ كبيرٍ للنفط الخام، فيتغيّر كامل بنية علاقاتك وإنتاجك وحوافزك، وتصبح أدوات «العالم القديم» (القوافل وسفن التجارة وصيد اللؤلؤ) تراثاً وفولكلوراً قد انقطع.
ولكنّ قبل هذا كلّه، لديّ اهتمامٌ خاصّ بالكويت، بمعنى أنّه لو كان عليّ أن أقضي زمناً في بلدٍ خليجيّ لاخترت الكويت على الأرجح. وهذا، بالمناسبة، لا علاقة له بالمدائحيات السائدة في الخطاب الإعلامي العربي عن «كويت الثقافة» و»المجتمع الحيّ» وما شابه ذلك. أريدكم أن تلاحظوا هنا عادةً سيّئة عند العرب حين يودّون التزلّف للخليجيّين. هم كثيراً ما يستخدمون هذه الصفات والألقاب التي تُربط باسم البلد (على طريقة «لبنان الأخضر»). وهذه قد تبدو من الخارج وللوهلة الأولى أنّها مديح ولكنّك، إن دقّقت بها، تكتشف أنها تنقلب الى عكسها. ما معنى أن تقول، مثلاً، «عمان الأصالة والعراقة»؟ ما تقصده هنا فعلياً هو «لستم بلداً خنفشارياً مختلقاً كبقية البلدان من حولكم»؛ وما معنى كليشيه على طريقة «إمارات الخير»؟ ترجمة: «لم نجد شيئاً جيّداً نقوله عنكم، ولكن لديكم مال». والحالة ذاتها تنطبق على أولئك الذين يصدمهم أن يكون في بلدٍ خليجي ثقافة ونوادٍ وصحافة ورواية وشعر ومجالس سياسة. ما هذا الإعجاز؟ كأنك في مدينة صغيرة؛ ونحن هنا لا نتعامل بالتعميمات والصور النمطية (إلا مع اللبنانيين، وهذا حقّي).

ثمار الرخاء
ما يهمّني حقّاً في هذا البلد الخليجي هو أنهم قد شرحوا لي أن الكويت هي «عاصمة الأكل في العالم» (لدينا صديقٌ سعودي كان يقود سيارته لسبع ساعات، يقطع الحدود، حتى يأكل سمكاً في الكويت ثم يرجع). وهذا ليس موضوعاً منفصلاً عن الدولة الريعية: على ما يبدو، فإنّ الكويت كانت من أوائل المجتمعات الخليجية التي عرفت رخاء منتشراً، وفي سياقٍ مدينيّ منفتح، فأصبح البلد الصغير - بتعبير أحد الأصدقاء - يتخصّص في تصدير «أسلوب الحياة» والعادات الجديدة والصيحات الشبابية الى الدول المجاورة. بالتوازي، أصبح قطاع المطاعم في الكويت مزدحماً وتنافسياً الى درجة أنه يصعب أن يقوم مطعمٌ ويستمرّ من دون أن يكون عالي المستوى في الجودة والخدمة والأسعار. والميزة الإضافية هنا تتعلّق بطبيعة البلد وتعدّد جالياته والخيارات فيه: لبناني، هندي، إيراني، عراقي، دولي، الخ، وكلّها متقنة تنافس الأصل (كنت أتابع في الماضي على يوتيوب برنامجاً لمقدّمة كويتية ماهرة ترتحل بين مطاعم البلد ومحالّه، وهو قد أكّد لي هذه الانطباعات). هذه حالة معروفة تاريخياً: المطبخ يحبّ الرّيع. الكثير من الأطباق الشهيرة في فلسطين اليوم هي نتاج مرحلة ازدهارٍ عرفها الساحل وجبل نابلس خلال القرن التاسع عشر، خرجت منه طبقة بورجوازية معتبرة تفنّنت في إتقان الطعام وابتداع أصنافٍ جديدة منه. «المطبخ اللبناني» ما هو إلا اختراعٌ حديث كان تلبية لحاجة سياحيّة وطفرة اقتصاديّة. والطبقات العليا في إقليمنا في القرون الماضية، سواء كانت في الموصل أو القاهرة أو طرابلس، كانت تشترك في مطبخٍ «عثماني» متشابه في ما بينها - وأصدقائي يعرفون أنهم لو وجدوني قد فسدت يوماً وانتقلت للعيش في الخليج، فسيكون للهامور والروبيان عندهم دورٌ أساسيّ في ذلك (على الهامش مجدّداً: هناك شيءٌ يجب أن يقال عن اللبناني الذي تجده مهووساً بأسماك بحره الفقير ويصرّ على أنّه الأرفع في العالم: هل أنت حقّاً جرّبت الماهي - ماهي والسلمون الإيسلندي والزبيدي الخليجي، ثمّ قرّرت أن دودة البحر اللبنانية هي أفضلهم طرّا؟)
في وقتٍ كانت فيه دولٌ خليجيّة أخرى لا ترتاح لأيّ صنفٍ من الكتابة والسياسة وما حولها، أصبحت الكويت، بمؤسساتها الثقافية وإعلامها وجوّها ورخائها، مكاناً «مناسباً» لفئة المثقفين لفترةٍ امتدّت حتى أواخر الثمانينيات


الأمر ذاته انسحب، لفترة طويلة، على الثقافة حتّى أصبحت الكويت مقصداً أثيراً للمثقفين والإعلاميين والنخب الفكرية والسياسية في المشرق ومصر. في وقتٍ كانت فيه دولٌ خليجيّة أخرى لا ترتاح لأيّ صنفٍ من الكتابة والسياسة وما حولها، أصبحت الكويت - بمؤسساتها الثقافية وإعلامها وجوّها ورخائها - مكاناً «مناسباً» للغاية لهذه الفئات لفترةٍ امتدّت حتى أواخر الثمانينيات. فوق ذلك، هي لم تكن تفرض عليك قيوداً إيديولوجية صارمة، أو تطلب تجنيدك سياسياً في خدمة الأمير حتى تعمل في البلد. أنت مع تحرير فلسطين؟ اكتب وطالب ونحن معك؛ تريد مهاجمة الإمبريالية والاستغلال؟ لدينا صحيفة مخصصة لذلك؛ تبغي الوحدة العربية؟ نحن مثلك تماماً. وقد أصبح للكويت، في مرحلةٍ ما، عن حقّ مكانةٌ مهمّة في الإنتاج الثقافي العربي: بعض أفضل المجلات الفكرية والترجمات والمنشورات البحثية تخرج من الكويت، وأكثرها مدعومٌ من الدولة ويباع بأسعارٍ زهيدة للقرّاء العرب. حتى في مجال الإنتاج التلفزيوني وكتب ومجلّات الأطفال (هل من لا يزال يذكر «العربي الصغير» في بداياتها، ومستوى الإنتاج والمواضيع والرسومات فيها؟). يصعب أن تجد مثقفاً عربياً من السبعينيات والثمانينيات، أو كاتب أو إعلامي أو رسّام، لم يعمل في الكويت أو يكتب في صحافتها أو ينشر في مؤسساتها. ناجي العلي قضى سنوات هناك، وحتّى شخصية مثل الروائي السوري هاني الراهب، الذي لا تتوقعه في مثل ذاك المكان، قد جرّب «دورةً» في الكويت في التعليم الجامعي (وكان حظّه - بالطبع - أن يترافق وصوله تقريباً مع الغزو وحرب الخليج، ثمّ طرده بعد ذلك بتهمة إفساد أفكار الناشئة أو شيء من هذا القبيل). وقد استفاد جيلٌ كامل من المثقفين في لبنان وفلسطين وغيرها من هذه العلاقة العروبيّة المثمرة حتى حصل ما حصل وكرهونا جميعاً بعد فعلة صدّام.

الأجيال المقبلة
ما المشكلة، إذاً، مع هذه الدولة الريعية «الجميلة»؟ في أيّ بلدٍ يعتمد على تصدير المواد الأوّليّة هناك عاملان جوهريّان في تقرير بنية الدولة وتوزّع الريع ومستوى حياة المواطنين: حجم الثروة الطبيعية نسبةً الى عدد السكان، وقيمة المواد الأولية في السوق الدولية. يقول المفكر الماركسي وعالم الاجتماع الروسي بوريس كاغارليتسكي إنّ الفارق الفعلي بين روسيا في التسعينيات وروسيا اليوم هو ليس في أنّ بوتين قد اعتمد نمطاً اقتصادياً يختلف عن ذاك أيّام يلتسين، بل هو أساساً في أنّ أسعار النفط ارتفعت بشكلٍ كبيرٍ في عهده، ما أتاح توسيع الخدمات ورفع الرواتب وتحسين حياة الناس عبر التوزيع، ولكن دور روسيا في السوق العالمية لم يتغيّر. بالمعنى نفسه، الفارق بين روسيا والسعودية والكويت هو أساساً فارقٌ في حصّة المواطن من الثروة الطبيعيّة. وفي دولٍ مثل الكويت والسعودية، فإنّ العاملين يلعبان ضدّهما على المدى البعيد: عدد السكّان يزداد بسرعةٍ وليس ثابتاً، وأسعار النفط في المستقبل ليست مضمونة مع انتشار سياساتٍ تعادي الكربون وتستبدله حول العالم. بتعابير أخرى، عليك أن تتحضّر على الدّوام لأيّامٍ أقلّ رخاءً في المستقبل.

منذ بضع سنوات، حين انخفضت أسعار النفط نسبيّاً، سجّلت الموازنة الكويتية عجزاً يفوق الـ 44 مليار دولار، ويتوقع أن يكون العجز هذه السنة بحدود العشرين ملياراً. هذا في بلدٍ فيه أقلّ من مليون ونصف مليون مواطن


سنعطي مثالاً بسيطاً: منذ بضع سنوات، حين انخفضت أسعار النفط نسبيّاً، سجّلت الموازنة الكويتية عجزاً يفوق الـ 44 مليار دولار (هذه السنة والسنة القادمة، يتوقّع عجزٌ بحوالي العشرين ملياراً). هذا في بلدٍ فيه أقلّ من مليون ونصف مليون مواطن. مجدّداً، نحن لا نقول إن الموازنة العامة تفوق الأربعين مليار دولار، نحن نقول إنّ هذا كان العجز فحسب، في سنةٍ واحدة. أنا حقّاً أريد أن أعرف: ما الذي تفعلونه هناك بالضبط؟ هل لديكم مشكلة قمار؟ بطبيعة الحال، نحن هنا لا نعرض إلا أرقاماً عامّةً علنيّة، قد لا تعني الكثير في ذاتها؛ ولا نعرف شيئاً مهمّاً عن الدورة الفعلية لرأس المال في الكويت، ومن يملك ماذا، وما هي التسويات التي تدير مختلف القطاعات، وهي أوّل ما تحتاج إليه لكي تقارب الاقتصاد السياسي الحقيقي لبلدٍ ما. ولكنّ أرقام الموازنة، التي تبدو هائلة للوهلة الأولى، قابلة على الأقلّ للتفسير من خلال تفاصيلها وبنودها. أكثر الموازنة يذهب رواتب ودعماً ومنحاً: كهرباء، تعليم، صحّة، سكن، الخ. بل إنّ من اللافت قلّة الإنفاق الاستثماري مقارنةً بالإنفاق الاجتماعي الضخم في الموازنة. هذا، بالمناسبة، له تفسيرٌ معروف تطرّقنا إليه: حين تكون مصدّراً للمواد الأوليّة وليس لديك قطاع إنتاجي كبير يحتاج الى استثمارٍ دائم وأبحاثٍ وتكنولوجيا مكلفة، لا يعود لديك مجالٌ كبير للاستثمار في الداخل (بعد أن تدفع الرواتب وتصلح الطرقات، علامَ ستنفق ما تبقى من عائدات النفط؟ ليس أمامك سوى وضعها في الخارج).
الشكل الأهمّ لتوزيع عائدات النفط، بالطبع، هو غالباً عبر التوظيف الحكومي. يصعب أن تصدّق أن بلداً بحجم الكويت، مثلاً، يحتاج الى قرابة نصف مليون موظّف لإدارة شؤونه. ولكنّ مربط الفرس هو في أنّ ثلث المواطنين تقريباً (رجالاً ونساءً وأطفالاً) هم موظفون حكوميّون، وبمتوسّط رواتب مرتفع للغاية - أعتقد أنه يقارب الخمسين ألف دولار سنوياً (سوف يدهشك عدد معلّمي التربية البدنية والتربية الدينية في هذا البلد الصغير). والموظّفون لديهم، إضافة الى الراتب، أشكالٌ من البدلات والإعانات والعلاوات أنت لم تسمع بها في حياتك ولن تصدّق أنها موجودة. من هنا، قد تخدعك أرقام الميزانية حين تنظر إليها من بعيد. إن قرأت حجم الإنفاق على الجامعة الوطنية، مثلاً، تقول: لا بد أنها «هارفارد» أو «يال»، إن رأيت أرقام الدفاع والداخلية تقول هذه اسبرطة، وهكذا. ولكنّك سرعان ما تكتشف أنّ هناك أكثر من مئة ألف وافدٍ أجنبي يعملون أيضاً في الإدارة العامّة، الى جانب كلّ المواطنين الذين وظّفتهم الدولة، (بتعابير أخرى، هنا نجد المعنى الحقيقي للدولة الريعية: لا تكتفي بأن تعطيك وظيفة، وراتباً عالياً، بل هي أيضاً تجلب أجنبياً لكي يقوم بعملك).
الفكرة اليوم ليست أن نطرح حلّاً، بل أن نوطّئ لبعض ما سنفصّله في الأيّام القادمة. نحن نستخدم تعبير «المرض الهولندي» باستسهالٍ في بلادنا، وهو تعبيرٌ ولد ليوصّف تأثير الريع على تنافسية اقتصادٍ حديثٍ منتج، كهولندا في الستينيات، ونحن في مكانٍ مختلفٍ تماماً. المشكلة لا تقتصر على المقارنة التي يعقدها البعض بين عائدات شركة أرامكو السعودية (أي كامل مبيعات النفط) وكيف أنها لا تفوق عائدات شركات كبيرة مفردة في الغرب، مثل آبل أو أمازون. المشكلة هي أن عائدات هذه الشركات تصنع ملايين الوظائف، واستثمارات هائلة، وملكية فكرية خلفها عقود من الأبحاث وتضمن دخلاً وقيمةً لعقودٍ قادمة. فلا يجوز أن تقارنه بتحويلاتٍ مالية تصلك من السوق الدولية مقابل تصدير البترول. والأمر نفسه ينطبق على الصناديق السيادية التي تراكم في الخارج، والبعض يفاخر بحجمها وأرصدتها. في الحقيقة، إنّ امتلاك أصولٍ أجنبية - خارج حاجتك لتغطية الاستيراد - ليس في المبدأ أمراً حسناً أو محموداً. أنت هنا تأخذ مردود عملٍ قام به شعبك، أو ثروة باعها وتخلّى عنها، وتقوم بإخراجها من البلد وإعارتها للغير بدلاً من استثمارها أو استهلاكها. الاقتصاد الكلّي لا يمكن مقاربته على طريقة مالية الأفراد، حيث تعتبر أنك تضمن مستقبل أولادك والأجيال القادمة عبر أن تترك لهم حساباً في المصرف.

خاتمة
يكتب الكثير من الكويتيين هذه الأيام بنفَسٍ تشاؤمي حول المستقبل واستمرارية النمط القائم، وهو ما ألمسه أيضاً من معارفي الكويتيين. وهناك اليوم قيادة «تنفيذية» جديدة في البلد، يبدو أنها تستوحي الحلول من الكتاب النيوليبرالي (والمشكلة هي، طبعاً، في مكانٍ آخر تماماً). سنوضح أكثر في المستقبل، ولكنني، كلما حضر موضوع الدولة الريعية ومستقبلها، أتذكّر أستاذاً من زمنٍ مضى. كان عندنا في جامعة جورجتاون أكاديمي من أصلٍ تركي، هو من تلامذة إيمانويل وولرستين ومدرسة النظام - العالم وكان، بحسب من درس معه، يطبّق أفكاره ونظرياته في حياته ومساره المهني. على سبيل المثال، كان يقول لطلابه ما معناه: افهموا سياقكم، أنتم تعيشون في لحظة الذروة لعصر الهيمنة الأميركية (نتحدّث عن عام 2002)، وأنتم في قلب عاصمة هذه الإمبراطورية، ويتمّ تحضيركم لكي تصبحوا نخبتها. بمعنى آخر، سوف تحصلون جميعاً على حياةٍ جيّدة ومترفة. في الوقت نفسه، كان يضيف، ليس من مكانٍ لهذه الإمبراطورية الأميركية بعدما تسلّقت القمّة إلّا الانحدار. هو قد يكون بطيئاً وقد يكون سريعاً، لكنّه سيكون لأسبابٍ بنيوية لا يمتلك أيٌّ منكم القدرة على عكسها أو تغييرها. لهذا السّبب، استمتعوا بالإرث الذي تركه لكم أجدادكم ولا تنهمّوا كثيراً بالمستقبل، ولا داعي لأن تعملوا عشر ساعاتٍ في اليوم وتستشرسوا وتفنوا حياتكم في محاولة تغيير ما سيأتي، فهذا لن يصنع فارقاً. استرخِ قليلاً واترك التعامل مع المستقبل لمن سيأتي في المستقبل، ففي نهاية الأمر، لا يوجد ضحايا هنا.