كانت كرة القدم منذ نشأتها رياضة الطبقة العاملة. مارسها للمرة الأولى عمال ريفيّون في القرى ثم عمال المدن الصناعية، إلى أن استولى عليها حيتان المال والأعمال. هكذا، أخذت «اللعبة» تفقد رونقها لتصبح تدريجياً عرضاً يمارس في ملاعب أشبه بمولات تجارية ضخمة... أصبحت كرة القدم بمثابة شركة يديرها رجال أعمال يملكون تريليونات الدولارات، يتسابقون على تحويلها من لعبة يمارسها الشباب للمتعة، إلى صناعة تغذّي رؤوس أموالهم بأشكال مختلفة. أحدث فصول تسليع الكرة جاء عبر معركة الـ«Super League» بقيادة أباطرة الأوليغارشية في العالم، ضمن مؤشر جديد يؤكد على صعوبة أن تبقى اللعبة رياضةً شعبية مرة أخرى.
وفي هذا الإطار بات واضحاً أنه من الصعب أن تخضع الأندية لملكيةٍ عامة يُصدِر الشعب فيها القرار. من الصعب أيضاً أن تَروي مباراة كرة القدم شغف الجمهور بالدرجة الأولى، ورفاهيته ثانياً وثالثاً. المال هو الهدف المبطّن وراء «القطاع» الكروي بالنسبة إلى العديد من الدول، لكن ما بات قاعدة بالنسبة إلى الجميع اليوم، رفضته ألمانيا، تحت شعار أن «المستحيل ليس ألمانياً».
تبيح القوانين امتلاك المستثمرين الأجانب لأندية كرة القدم المحلية في غالبية الدّول، كصورة تجسيدية للعولمة، وهي تصب في مصلحة دوران عجلة الاقتصاد، على أن يستفيد من الأمر رجال الأعمال فقط. وبسبب ذلك رفض القيّمون على الدوري الألماني لكرة القدم أن يسيروا على خطى باقي الدوريات الأوروبية، وتمسّكوا بأفكار دوريهم للحؤول دون حصول انعكاسات سلبية لهذه الإجراءات على الكرة المحلية. من هنا، ظهر قانون عام 1998 عُرف باسم «50 + 1»، وهو يهدف إلى تحسين الهيكلة الإدارية للأندية الألمانية مع وضع «عوائق» قانونية تحول دون «الجشع» الاستثماري للممولين المحتملين.
قانون «50 + 1»، يعني أن المساهمين الألمان في النادي يحصلون على 51% من الأصوات، مقابل عدم السماح لأي مستثمر أجنبي أو محلي أن يمتلك منفرداً أكثر من 49% من الأسهم، وبالتالي يبقى القرار النهائي بيد غالبية المستثمرين، والذين غالباً يكونون من جمهور هذا الفريق.
يقف قانون « 50+ 1» رادعاً بين ثقافة التشجيع من جهة، وبين تحويل الأندية إلى مصدر للكسب من جهةٍ أخرى. فبنظر الاتحاد الألماني، سيصبح النادي مركزاً للربح الهائل على حساب كونه مركز رفاهية إذا ما دخل الملّاك الأجانب، وستقع المشكلة الكبرى في حال تحوّل المشجع إلى عميل يُنظَر إليه كمدخول مالي للملاك لا أكثر. لذلك، يجابه القانون الألماني أي محاولة لتدمير ثقافة الكرة الألمانية، حيث ينظر المشجعون إلى أنديتهم كأصول مجتمعية غير قابلة للتغيير.
هكذا، تم بناء هيكلية كروية تدمج بين الاستثمار الخارجي المعقول مع إبقاء الأعضاء ــ المشجعين ــ في قلب كرة القدم، وظهرت الانعكاسات الإيجابية للقانون على الجماهير من خلال انخفاض أسعار التذاكر مقارنةً بالدوريات الأخرى ما منح الكرة الألمانية أعلى متوسّط حضور في كرة القدم العالمية، كما جعل الأندية تسيطر على الديون والأجور.
ترفض الجماهير الألمانية أي محاولة لتغيير ثقافة كرة القدم في بلادهم


صعوبات حاضرة
بالنسبة إلى الاستثناءات فهي موجودة، على أن تصب في خدمة المصلحة العامة. تفعّل الاستثناءات في حالة تقديم أفراد أو شركات دعماً لأحد الأندية بمبالغ مالية كبيرة لمدة 20 عاماً على الأقل، كما هو الحال في نادي فولفسبورغ المدعوم من شركة فولز فاغن المصنعة للسيارات، وباير ليفركوزن المدعوم من شركة باير للصناعات الكيماوية وهوفنهايم المدعوم من ملياردير برامج «Dietmar Hopp».
هذه الأندية مكروهة في الوسط الألماني، بحيث تطلق غالبية الجماهير المنافسة هتافات وشعارات مضادة ضد ملّاك فولفسبورغ، باير ليفركوزن وهوفنهايم عند مواجهتهم. ورغم مناصرة أغلب الجهات الألمانية للقانون، يظهر عدد من المعترضين في أوساط البوندسليغا. في عام 2009، سعى رئيس شركة هانوفر «رانفر كيند» إلى تعديل قانون «50 + 1»، لكن الأغلبية الساحقة من الأندية صوتت ضد هذا الاقتراح. رغبة تعديل رئيس هانوفر وغيره من بعض فرق أسفل الترتيب، ينبع من الشعور بأنه هناك حاجة إلى التغيير من أجل الحفاظ على القدرة التنافسية، في ظلّ قيام الملّاك الأجانب بضخ المليارات في البطولات الأخرى، إضافةً للهوّة الكبيرة بين فرق المقدمة الألمانية التي تحصّل عائدات إضافية من المشاركة في مسابقات أوروبا، والفرق المستثناة من «50 + 1»، مقارنةً بالفرق الأخرى.
الصرخة الصغيرة حينها، تلتها واحدة أكبر مع تفشي فيروس كورونا، حيث أظهرت الأرقام بأن الأندية الألمانية المدعومة من مستثمرين أجانب تأثرت أقل من غيرها نظراً إلى عدم انحصار الموارد المالية داخل البلاد، ورغم ذلك، أصر القيّمون على الاستمرار بالقانون، خشيةً من آثار تجربة إنكلترا بعد أن أزالت الحواجز تجاه الملّاك الأجانب في الدوري الإنكليزي، وما تبعه من تضخّم الأجور وأسعار الصفقات. وتمسّك الألمان بالقانون أكثر بعد أن لجأت أندية في إيطاليا وإسبانيا ـ بينها إنتر ميلانو وبرشلونة ـ إلى الاستدانة أو بيع الأصول للهروب من الإفلاس، وهذه قرارات اتخذها ملاك جدد يسيطرون على مجالس الإدارات، حيث لا رأي لجمهور النادي، وبالتالي باتت هذه الأندية مرهونة ومهددة كل يوم بالإفلاس والضياع.
من الممكن أن يلجأ الاتحاد الألماني إلى تعديل القانون مستقبلاً بهدف إيجاد مستثمرين أجانب يمتلكون نظرة استراتيجية تضمن استقرار الأندية على المدى البعيد، خاصةً تلك التي لا تلقى أسهمها الـ49 رواجاً وإقبالاً من قبل المستثمرين، شرط ألا يكون ذلك على حساب الإخلال بثقافة وتقاليد الكرة الألمانية.
في الخلاصة، قد لا يكون الدوري الألماني أفضل دوري كرة قدم في العالم، إلا أنه الأفضل بالنسبة إلى الجماهير والأكثر أماناً من الناحية المالية. هو نموذج يجب على الأندية في جميع أنحاء العالم أن تسعى إلى تقليده إذا ما أرادت الحفاظ على شعبية اللعبة، عبر استبدال رأس المال الخاص والرياضة الهادفة إلى الربح برياضة «حقيقية» يديرها الناس، من أجل الناس.