عندما «سجدت» كرة القدم تحت أقدام دييغو آرماندو مارادونا (30 تشرين الأول/ أكتوبر 1960 ــ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، لم يأخذه الغرور. لم يسكر بهذا المجد. ظلّ وفيّاً إلى حياته الأولى، إلى رفاق الأزقة الفقيرة ومن يشبههم في كل العالم، مؤمناً بضرورة إيصال أصواتهم لكي يرى الجميع الحقيقة... وهكذا كان.في ذكرى ميلاده، نستعيد ذلك الفتى الذهبي، المشاغب والمناضل، الشقي الذي هشّم الكبرياء الإنكليزي عام 1986، محققاً إنجازات رياضيّة عدة في حياته، ومع ذلك، تبقى العلامة الفارقة هي شارة النصر التي رفعها في ميادين أميركا اللاتينية وفلسطين وكل العالم. رحل دييغو قبل ثلاثة أعوام، لكن نضاله سيبقى مخلّداً. كان الجميع يرى الحرية في عيني مارادونا. لا حاجة لتمثال. فتى مشاغب شقَّ طريقه من «الفافيلا» في بوينس آيرس نحو العالمية، حاصداً أضواء قاربت الشمس نفسها. داعب الكرة لكي يقتلع البؤس من وجوه أهله. أراد شراء سقف لا يصدأ، وبدلاً من ذلك، زيّن وجهه الأيقوني جدران المنازل الأرجنتينية كافة.
صحيح أنّ كل الطرق تؤدي إلى روما، لكن بالنسبة إلى مارادونا، كانت نابولي الفقيرة نقطة الانطلاق، أصبح هناك بطلاً رغم أنوف أهل الشمال مدّعي التفوّق، زيّنت صوره أحياء الطبقة العاملة في المدينة الجنوبية، حارب وحده أغنياء الشمال بكرة قدم وقميص موحّل. سمّيت المقاهي والكنائس باسمه، حتى المقابر التي سكنها عام 2020. كان حدثاً في جنوب إيطاليا، رسولاً للسعادة، مراهقاً سدّ بيسراه الهوّة الطبقية مع شمال البلاد.
عبقريته داخل الرقعة الخضراء ترافقت مع نضالٍ بطولي خارجها، ناصرَ فلسطين في حربي 2012 و2014، واصفاً ما تفعله إسرائيل بـ«الأمر المخزي». حيّا قطاع غزة والضفة الغربية أثناء رفعه علامة النصر عام 2011 أمام جمهور نادي «الوصل» الإماراتي في إحدى المباريات، وأكد مناصرته للقضية مجدداً في كأس العالم في روسيا عام 2018، عندما التقى الوفد الفلسطيني في موسكو قائلاً: «قلبي فلسطيني».
كان رمزاً عالمياً لنُصرة الحق. رأى في فلسطين ما رآه في جزر الفوكلاند التي اغتصبها الإنكليز: أرض مسلوبة تُوجب البارود لاستردادها، ولكن بدلاً من أن يُطلق النار بيده، ادّعى أن يد الله امتدت لتثأر للأرجنتين أمام الإنكليز في كأس العالم 1986. كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن مارادونا في العام نفسه: «لن يجدوا دماً في عروقه، بل وقود الصواريخ».
تميّز دييغو بكونه أمل المهمشين وعدواً للرأسمالية المتوحشة، لا يتردد في إظهار توجهاته اليسارية. كان ثائراً، يفعل ما يريد، بالطريقة التي يريدها. وشَمَ وجه زعيم الثوار الأرجنتيني تشي غيفارا على ذراعه، وحصّن قدمه السحرية بوشمٍ آخر لأحد رموز الحرية في العالم، الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو. كان دييغو صديقاً للرفيق فيديل، وفي بعض الأحيان، كان رصاصة في بندقيته. ناصر الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز أيضاً، وعادى أميركا طوال حياته. رفضه للظلم جعله أيضاً على خلاف دائم مع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، تحديداً في عهد الرئيس الأسبق جوزيف بلاتر.


عاش مارادونا حياته ابناً للشعب، ومات كذلك. رافق ماضيه البائس ظلاله في الملاعب وخارجها. لم تغيره الملايين. ستبقى الشوارع تذكر مهارته المجنونة، ستبقى الشمس تستذكر شعره المجعد، سيبقى العالم يحيي نضالاته... هو زارع الفرح، ولذلك كتب له محمود درويش هذه الأبيات بعد مونديال 1986 الأسطوري في المكسيك:
«ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟
مع من سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟
وإلى من نأنس ونتحمّس بعدما أدمنّاه شهراً تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟
ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود؟
وأجّج فينا عطش الحاجة إلى: بطل... بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه وعلى أملنا فيه من الانكسار؟».