تحوّل «الإشكال الرياضي» الذي شهدته الرياض، مساء الجمعة الماضي، إلى قضيّة «شعور وطني» تركي جامع. وكاد - لولا موقف الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لاحقاً – يضرب العلاقات التركية - السعودية، وهي التي لم تتجاوز قطوع جمال الخاشقجي إلّا بعد جهود هائلة من الطرفَين.
وفي تفاصيل الواقعة، فإنه عند الساعة الثامنة من مساء الجمعة، وبينما كان الجميع ينتظر نزول بطل الدوري التركي «غلطه سراي»، وحامل الكأس «فنرباهتشه»، إلى «ستاد الأول» في الرياض للعب مباراة السوبر بينهما، ألغيت المباراة وغادر الجمهور القليل، الذي حضر، المدرّجات.
السبب وراء عدم نزول الفريقَين إلى الملعب لم يكن له علاقة بالجوانب الرياضية، ما حوّل الشاشات التركية كلّها إلى الحديث عمّا جرى. وفيما تتعدّد الروايات، أفاد بيان «موسم الرياض» السعودي، بأن المباراة «تأجلت» بسبب «عدم الالتزام بالضوابط» من جانب الفريقَين التركيّين، فيما أصدر «اتحاد كرة القدم التركي»، ورئيسا الفريقَين التركيّين، بياناً مشتركاً، تحدثوا فيه عن تأجيل المباراة، بسبب بعض «الثغرات» و«النواقص» التي رافقت برنامج الاحتفال. ولكن خارج البيانَين المقتضبَين، كانت التفاصيل تَظهر في غير مكان، إذ يقال إن السلطات السعودية رفضت بدايةً إنشاد النشيد الوطني التركي، ورفْع الأعلام التركية، لكنها عادت ووافقت على ذلك. وتبيّن أن اتفاق «اتحاد كرة القدم التركي» مع السعودية الذي وُقّع في 20 تشرين الثاني الماضي، كان يتضمّن إنشاد النشيد الوطني التركي، على رغم أن المباراة لم تكن «وطنية»، أي خاصّة بالمنتخب التركي. غير أن فريقَي «غلطه سراي» و«فنرباهتشه» كانا يريدان النزول إلى الملعب، قبل المباراة للتحمية، وكان لاعبوهما يرتدون سترات عليها صورة «أتاتورك»، في ظلّ أجواء الاحتفال المرافقة لمئوية إعلان الجمهورية التركية. كما أن الفريقين كانا يريدان النزول إلى الملعب وهما يحملان لافتَتين: واحدة تحمل شعار أتاتورك: «سلام في الوطن سلام في العالم»، وأخرى عليها شعار آخر لأتاتورك: «هنيئاً لمن يقول أنا تركي»، فضلاً عن رفع صوره. لكن ذلك لم يرُقِ السلطاتِ السعودية التي، وفقاً لتصريحات اللاعبين، جاءت شرطتها إلى غرف ملابس اللاعبين بحثاً عن هذه اللافتات لمصادرتها، ومنع الفريقين من اصطحابها إلى الملعب.


وإذ أصرّ مسؤولو الفريقَين على برنامجهم الاحتفالي، ذلك أن المناسبة تركية وتحمل تحية لمؤسّس الجمهورية، فقد رفض الفريقان النزول ولعب المباراة. وفي هذا الجانب، كشفت صحيفة «قرار»، أول من أمس، أن مطلب الفريقَين الدخول إلى الملعب مع لافتات عليها شعارات أتاتورك كما ارتداء سترات عليها صورته، نُقل إلى «الاتحاد التركي» قبل أسابيع من المباراة، غير أن الأخير لم يتّخذ أيّ قرار بالموافقة أو الرفض.
وهنا يقال إن إردوغان من أنقرة، ورئيس اتحاد كرة القدم التركي محمد بويوك أكشي الذي كان مع الفريقين في الرياض، قد حاولا «بنعومة» إقناع الفريقين بالتجاوب مع المطلب السعودي. غير أن الفريقين أصرّا على ذلك، وكان القرار بعد ساعات من المفاوضات، بالعودة إلى الفندق ومنه مباشرة إلى الطائرة، التي وصلت عند الفجر إلى اسطنبول، وكان في استقبالها الآلاف من مناصري الفريقين، لتبدأ من هنا «حفلة الكباش السعودية ـ التركية والتركية ـ التركية».
تكاد كل وسائل الاعلام التركية ـ حتى معظم تلك المؤيدة لحزب العدالة والتنمية ـ تلقي باللوم على السعودية في ما حدث، واعتبار ذلك نموذجاً على «العداء السعودي ـ الديني لمصطفى كمال اتاتورك»، كذلك على «كراهية السعودية لكل ما هو تركي».
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بانتقادات وتعليقات، وسخرية على السعودية، أودت لاحقاً بالعديد من أصحابها ـ بناءً على توجيهات حزب العدالة والتنمية ـ إلى القضاء بتهمة التحريض على علاقات الأخوّة بين البلدين.
من جهة أخرى، ومع أن رئيس اتحاد كرة القدم التركي كان حاضراً في المباراة، فقد اتُّهم بأنه تساهل بتقبّل المطالب السعودية بمنع صور أتاتورك وشعاراته، وكانت مطالبات باستقالته بتهمة «التفريط بالحساسيات الوطنية».
وظهر لاحقا أن إردوغان ورئيس اتحاد الكرة، ومعهما أعضاء في الاتحاد، عملوا على أن تقام المباراة في السعودية تجاوباً مع رغبة الرياض في إنجاح «موسم الرياض» وتحويل المباراة إلى تقليد سنوي كما يفعل «الموسم» مع العديد من الأحداث الرياضية الجماهيرية التي «يشتريها بهدف جذب الانتباه الى السعودية». وبحسب العديد من المصادر، فإنه لم يكن أمام ناديَي «فنرباهتشه» و«غلطه سراي» إلا أن ينفّذا قرار الاتحاد التركي، الذي هدفه أساساً هو كسب بعض المال من المباراة، وخاصة أنه ساوم على المبلغ الذي يمكن تقاضيه من السعودية، وهو أربعون مليون دولار، فيما تحدثت مصادر أخرى عن 85 مليون دولار، ينال الفريقان منها مقدماً 4 ملايين دولار لكل فريق، (مليونان و400 ألف دولار للفائز ومليون و600 ألف دولار للخاسر).
صبّت الأحزاب التركية جام غضبها على إردوغان بسبب موافقته على لعب المباراة في السعودية


هذه التفاصيل، مع منع حمل صور أتاتورك وبعض شعاراته، في الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية، كانت أموراً لم يتحملها الفريقان الأشهر في تركيا. كما أنها أثارت ردود فعل غاضبة في الشارع التركي الذي يرى أن المباراة كانت يجب أن تقام على الأراضي التركية. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد اعتبرت بعض الجهات أن تأييد إردوغان إقامة المباراة في السعودية كان دعماً لجهود السعودية لتطوير كرة القدم فيها ونيل الرضى بعدما «تنازل» عن ملف الخاشقجي للرياض، مقابل حفنة من الدولارات ساهمت في تعويم الليرة التركية، وزيادة فرص نجاحه في انتخابات الرئاسة التي جرت في أيار الماضي. وكانت النتيجة «تلطيخ صورة أتاتورك والقيم الوطنية التركية بلعبة الأموال القذرة» على حدّ تعبير بيان لحزب الشعب الجمهوري.
الهجوم على إردوغان، ردّ عليه الأخير على لسان بعض المقرّبين منه، الذين اعتبروا أن المعارضة التركية تزايد وتستغل المناسبة للهجوم على إردوغان والسعودية. وذهبوا الى أبعد من ذلك بعد تسريب خبر أن إردوغان كان معارضاً لإقامة المباراة في السعودية، بحسب الصحافي، المقرّب جداً من الرئيس التركي، عبد القادر سيلفي.

«فضيحة سوبر»
موقف الناديَين التركيّين فنرباهتشه وغلطة سراي، برفض خوض المباراة بعد منع اللاعبين من حمل صور وشعارات أتاتورك كان محطّ استحسان في تركيا. واعتبرت الأحزاب التركية أن الناديَين رفضا أيّ مساومة على ارتداء قمصان تحمل صور أتاتورك وشعاراته، وقالا «إما أتاتورك وإما لا مباراة». وقال رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل إن الناديين حميا شرف تركيا. وانضم نادي بشيكتاش، وهو النادي الثالث في تركيا، إلى دعم الفريقين، داعياً أنصاره إلى النزول بالأعلام التركية لاستقبال اللاعبين في المطار. ورأى الجمهور التركي أن الناديين حميا العلمانية وأتاتورك، ووحّدا تركيا.
أما موقف إردوغان واتحاد الكرة فقد وصف من الصحافة التركية بأنه «فضيحة سوبر»، في إشارة الى أن المباراة تُعرف بـ«الكأس السوبر».
وانطلاقاً من كل ما حصل، اقترح البعض من السياسيين أن لا تقام المباراة مجدداً، وأن تُقدّم كأسان لكل فريق، أو أن تقسم الكأس إلى قسمين ويمنح قسم لكل نادٍ. وذهب البعض أبعد من ذلك، وقال إن أتاتورك كان الطرف الثالث في الحادثة، وقدّموا اقتراحاً بتقسيم الكأس إلى ثلاث قطع، واحدة لكل نادٍ، والثالثة توضع في ضريح أتاتورك في أنقرة. أما البعض الآخر، فقد اقترح تسمية الكأس من الآن فصاعداً بـ«كأس أتاتورك».
ورأت صحيفة بر كون المعارضة أن السعودية تلعب بالشعور الوطني لتركيا. ولم يكن هناك أيّ مبرر لرفض ظهور صور أتاتورك وشعاراته، وخصوصاً أن المباراة بين فريقين تركيين وتقام في الذكرى المئوية لمناسبة تركية. وانتقدت الصحيفة التهافت التركي على المال، محمّلة إردوغان واتحاد الكرة مسؤولية ما حدث. ودعت صحف أخرى الى التحقيق بملابسات الحادث، وبمن اقترح إقامة المباراة في السعودية. ويقول الكاتب مصطفى قره علي أوغلو إنه «إذا كانت ملابسات إلغاء المباراة باتت معروفة، فإن العين الآن على ما سنشهده في الأيام المقبلة».
وعكست الصحف التركية تعليقات الصحف العالمية على إلغاء المباراة، ومن ذلك ما قالته صحيفة «بيلد» الألمانية، عن أن اتحاد كرة القدم التركي «باع المباراة للسعودية والصحراء. لكن تبيّن أن القيم المعاصرة لا تنسجم مع السعوديين».
ويصف الكاتب المعروف فهمي قورو الحادثة بأنها «غريبة»، متسائلاً عن ذلك العبقري الذي أشار بلعب المباراة في الرياض. وقال إن المسؤولين السعوديين بمن فيهم الملك يرفضون زيارة ضريح أتاتورك، ومع ذلك أوصى الأتراك بلعب المباراة في السعودية. وقال إنه إذا كان السبب هو أن تكون المباراة عامل دعم للعلاقات السياسية بين البلدين، فقد انتهى الأمر إلى عكس ذلك ونشأت مشكلة بينهما. ورأت صحيفة «غازيتيه دوار» أن السبب الأساسيّ للمشكلة هو «تصادم القيم».
لم تنته ذيول الحادثة، ومع أن الرئيس التركي لن يسمح بتحويلها إلى مبرّر لتوجيه ضربة لجهود التطبيع بين البلدين. غير أن إشكال الرياض لا يمكن لإردوغان «لفلفته» بسهولة، على الرغم من عدائه هو أيضاً لأتاتورك.