بعد إسدال الستار على دور المجموعات لكأس أمم أفريقيا، كان في الإمكان التوقّف عند أمرٍ واحد وهو قوة ما وُصف يوماً بالصغار أو تلك المنتخبات التي لم تعرف المجد على الساحة الدولية، فبقيت في ظل المنتخبات القوية التقليدية، ولعبت أحياناً دور «الكومبارس» في البطولة القارية، وغابت عنها في أحيانٍ أكثر.لكن الوضع تغيّر الآن، واستعراض المجموعات يكشف ما نقوله، إذ إنّ المجموعة الأولى شهدت تصدّر غينيا الاستوائية لها أمام نيجيريا التي دائماً ما كانت بين المنافسين الأقوياء على اللقب، وأمام ساحل العاج المضيفة، التي تلقّت هزيمةً مذلّة برباعية نظيفة أمام صاحبة الصدارة.
الأمر الصادم أكثر شهدته المجموعة الثانية بتصدّر منتخب الرأس الأخضر لها من دون هزيمة، أمام مصر العريقة وغانا الغنيّة عن التعريف التي ودّعت البطولة، تماماً كالجزائر التي تذيّلت ترتيب فرق المجموعة الرابعة تاركةً الصدارة لمفاجأة أخرى هي أنغولا التي عبرت مع بوركينا فاسو وموريتانيا.
تصدّرت غينيا الاستوائيّة مجموعتها أمام نيجيريا القويّة وساحل العاج المضيفة (أ ف ب)

التأثير الأوروربي
وفي قراءةٍ شاملة لأسباب ما حدث بتفوّق «المنتخبات الصغيرة» على تلك الكبيرة، نجد نقطة مشتركة لعبت دوراً رئيسياً في عملية تألقها، وهي أسهمت بتطوّر كل هذه المنتخبات وجعلتها قوية وقادرة على مقارعة المنافسين الكلاسيكيين على اللقب.
وتتمحور هذه النقطة في انفتاح الأوروبيين أكثر على بلدانٍ أهملها الكشافون في الماضي البعيد، فاستقطبوا منها لاعبين موهوبين إلى أنديتهم، وهؤلاء تطوّروا هناك في أوروبا، وكسبوا الخبرات اللازمة التي عادت بالفائدة على منتخباتهم، فأصبحت هذه المنتخبات تملك العناصر الضرورية التي حُرمت منها سابقاً فغاب عنها النجاح.
وإذا أخذنا غينيا الاستوائية كمثلٍ، نجد أنّ 22 لاعباً لديها ينشطون مع أندية في القارة الأوروبية، وهم باتوا يعرفون حجم التحديات التي تفرزها مباريات كتلك التي واجهوا فيها نيجيريا وساحل العاج، إذ إنهم اعتادوا على اللعب أمام خصومٍ من هذا النوع أسبوعياً في أوروبا، حيث ارتفع أيضاً مستوى انضباطهم التكتيكي وقدراتهم البدنية.
أما الرأس الأخضر، أي ذاك الأرخبيل الذي يقع في غرب أفريقيا وفي قلب المحيط الأطلسي، فهو المثال الصارخ على ما تمّ ذكره سلفاً.
بفضل الأندية الأوروبية تطوّر اللاعبون الأفارقة المنتمون إلى منتخباتٍ اعتُبرت متواضعة


تلك الجمهورية التي يصل عدد سكانها إلى 600 ألف نسمة اعتادت أن تصدّر اللاعبين إلى بلدانٍ أوروبية ليحملوا جنسيتها، وخصوصاً البرتغال التي استعمرتها سابقاً ومنحتها لغتها، حتى إنّ عدداً من اللاعبين من الرأس الأخضر دافعوا عن ألوان المنتخب البرتغالي قبل أن تتبدّل الأحوال ويصبح منتخب البلاد الأم مقبولاً عند أولئك الذين تركوا الجزيرة الصغيرة بحثاً عن فرصٍ أفضل في أوروبا.
بالفعل قوّة الرأس الأخضر اليوم هي في نجومها الناشطين في «القارة العجوز» من قبرص إلى تركيا، مروراً بالبرتغال والنمسا، ووصولاً إلى إيطاليا وفرنسا، فالتشكيلة التي أبهرت العالم تضمّ لاعباً واحداً فقط ينشط محلياً، وآخر في الإمارات، واثنان في الدوري الأميركي.
الأمر نفسه ينطبق على منتخبٍ آخر ناطقٍ بالبرتغالية، وهو أنغولا، الذي سلك لاعبوه الطريق نفسها باتجاه أوروبا عبر التاريخ، ولكن الجيل الحالي لم يغفل تمثيل بلاده الأم، فانضمّ نجومه إلى «عصابة» فريق بترو دي لواندا الذي يملك أكبر عددٍ من اللاعبين المحليّين في التشكيلة، ليقدّموا منتخباً مميّزاً، تماماً على صورة منتخب كرة السلة الذي دائماً ما كان رقماً صعباً في القارة الأفريقية وواجهة البلاد الرياضية.

يعود تألق منتخب الرأس الأخضر الى الخبرات الأوروبية المكتسبة للاعبيه (أ ف ب)

أوروبا بريئة
إذاً أوروبا التي اتُهمت دائماً بسرقة المواهب الأفريقية أُعلنت براءتُها بشكلٍ أو بآخر، فهناك في فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا وألمانيا، كانت الإغراءات كثيرة للاعبين الأفارقة من أجل الانضمام إلى المنتخبات الوطنية، وهو ما حصل. وبالفعل استفادت هذه المنتخبات من مواهب القارة السمراء لتحقّق الألقاب والإنجازات، لكن عدداً من مسؤوليها جاهروا بالبراءة في كلّ مرّةٍ اتهموا فيها بارتكاب سرقةٍ ما، معتبرين أنهم لم يجبروا يوماً أحداً على الالتحاق بهم رغماً عنهم، بل إنّ بلدانهم هي من صقلت المواهب الأفريقية واستثمرت فيها وأطلقتها إلى العالمية، ثم تركت لها حريّة الاختيار.
هذه المواهب اختارت غالباً اللعب لمنتخبٍ أوروبي لرفع قيمتها السوقية، ولم يعد بعضها إلى أصوله إلّا إذا فقد الأمل في تمثيل البلد الأوروبي الذي نشأ فيه، والمثال الأبرز على هذه المقولة هما الشقيقان إينياكي ونيكو ويليامس اللذين ولدا في إقليم الباسك في إسبانيا، ويلعبان لفريق أتلتيك بيلباو المعروف بعدم ضمّه للاعبين الأجانب. الأخ الأصغر، أي نيكو، تمكّن من شقّ طريقه إلى المنتخب الإسباني أخيراً، حيث خاض معه 11 مباراة دولية مسجّلاً هدفين، وهو لا يزال أمام مشوارٍ دولي طويل مع «لا فوريا روخا» كونه لا يزال في الـ 21 من العمر، بينما وجد الأخ الأكبر إينياكي نفسه من دون منتخبٍ قبل عامين رغم أنه مثّل إسبانيا على مستوى الفئات العمرية، فقرّر العودة إلى الجذور ليلعب مع منتخب غانا.
ببساطة كأس أمم أفريقيا الحالية تفرض معادلاتٍ جديدة، لعلّ أبرزها أنّ متعة المنافسة والمباريات القوية لم تعد محصورةً في البطولة الأوروبية القادمة إلينا في الصيف، فهناك في ساحل العاج ترك الأوروبيون الكثير من آثارهم في كل منتخبٍ فاجأ وأمتع حتى الآن.