من بين أبرز العناوين التي تسبق الانتخابات التركية المرتقبة، السياسة الخارجية لكلا المرشَّحين المحتمل فوز أحدهما، وتفضيلات الفاعلين الدوليين والإقليميين، والتي وإن بدت - في مجملها - واضحة، إلّا أنه لا يزال يكتنفها الكثير من الغموض. وباستثناء الولايات المتحدة التي أعلن رئيسها، جو بايدن، منذ وقت بعيد، نيّته السعي لإطاحة إردوغان في الانتخابات المقبلة، لا يزال الأوروبيون متذبذبين حيال دعْم مرشّح المعارضة، كمال كيليتشدار أوغلو، خشية إقدامه على تنفيذ وعده بإعادة اللاجئين، الذين سيجدون طريقاً يعبرون فيه إلى أوروبا. أمّا روسيا ومعها إيران، فتضغطان، من جهتهما، لبقاء الوضع على ما هو عليه، على اعتبار أن استمرار إردوغان في السلطة، يخدم مصالحهما في مواجهة القوى الغربية
في الظاهر، يبدو موقف الدول الخارجية من الانتخابات الرئاسية التركية، واضحاً، غير أن عوامل عدّة تضفي غموضاً على الصورة، بما يجعل من الصعب التنبّؤ بتفضيلات هذه القوى: الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان، أو مرشّح المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو. وما بات شائعاً - ومعروفاً - أن كلّاً من روسيا وإيران وقطر تفضّل التجديد لإردوغان، فيما تريد الولايات المتحدة وأوروبا فوز كيليتشدار أوغلو، وتأخذ سوريا، من جهتها، موقف «الحياد»، إذ تتطلّع إلى مَن يحقّق مصالحها. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أعلن، قبل أيام، أن الجيش التركي لن ينسحب من سوريا قبل إنهاء وجود «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، وأنه لا قدرة لدى الدولة السورية على بسْط سيطرتها على المناطق الشمالية. أمّا دول الخليج ومصر، فلا تزال «بين بين»، على رغم تفضيلها رحيل إردوغان.
على الجهة الروسية، يجعل تشابك المصالح بين البلدَين موسكو تتطلّع وتعمل على إنجاح إردوغان بكل ما أوتيت من إمكانات. وفي هذا الإطار تحديداً، فَسّر معظم المحلّلين الأتراك زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لتركيا، أخيراً، فيما جاء تدشين المفاعل النووي في أق قويو قرب مرسين، والذي أنشأته روسيا، قبل قليل من موعد الانتخابات. ومثل هذا الدعم، هو الذي يفسّر أيضاً الضغط الروسي (والإيراني) الكبير من أجل عقْد لقاء على مستوى وزراء خارجية روسيا وإيران وسوريا وتركيا، في مطلع أيار المقبل، قبل أيام من انتخابات الرئاسة، وذلك في ظلّ استبعاد انعقاد قمّة على مستوى الرئيسَين التركي، والسوري بشار الأسد.
وهنا، يمكن سؤال ما إذا كان مرشّح المعارضة، كيليتشدار أوغلو، غربيّاً و«أطلسيّاً» إلى الحدّ الذي يجعل روسيا - ومعها إيران - تعملان من أجل فوز إردوغان؟ وهل هذا الأخير هو الرجل المفضّل لدى موسكو وطهران، على رغم أن تركيا - في عهده - لا تزال عضواً في حلف «الناتو»، وهي وافقت على تزويد أوكرانيا بالسلاح، وعلى توسيع «الأطلسي» في لحظة روسية شديدة الحساسيّة، فضلاً عن أنها تحتّل أجزاء من سوريا ترفض الانسحاب منها حتى الآن، كما تضغط على إيران في القوقاز عبر حليفتها آذربيجان، التي تتّهمها طهران بتحويل أراضيها إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية.
الانطباع السائد في تركيا هو أن الولايات المتحدة لن تساعد إردوغان في انتخابات الرئاسة


الانطباع السائد في تركيا هو أن الولايات المتحدة لن تساعد إردوغان في انتخابات الرئاسة. وهذا صحيح، إذ إن العلاقات بين الرئيسَين التركي والأميركي في أسوأ أحوالها، وخصوصاً أن الرّجلَين لم يجتمعا (إلّا على هامش مؤتمرات دولية أو أطلسية)، في ما يمثّل سابقة في العلاقات بين البلدَين. حتى إن جو بايدن توعّد إردوغان، قبل أربع سنوات، بإسقاطه في الانتخابات الرئاسية. ومردّ الخلاف الأساسي بين البلدَين، الاستياء التركي من دعم واشنطن للقوات الكردية في سوريا، واستياء الولايات المتحدة من العلاقات الوثيقة التي تجمع تركيا بروسيا. ويحاول إردوغان، من جهته، أن يؤكد هذا الانطباع، بهدف شدّ العصب الديني والقومي في الداخل التركي، وهو أسلوب لا يزال يتّبعه عشيّة كل انتخابات، منذ عام 2011. وبحسب ما قال، في حوار تلفزيوني: «يشاع أن الغرب ضدّ إردوغان. لكن الأمّة ستفسد هذه اللعبة، وسيكون 14 أيار محطّة فاصلة وستوجِّه تركيا بهذه الانتخابات رسالة إلى الغرب». ودأبت الحملة الانتخابية لإردوغان على العزف على وتر «دعم» كيليتشدار أوغلو لـ«الإرهاب الكردي» و«إرهاب» جماعة فتح الله غولين، نتيجة تأييد «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الضمني، لمرشّح المعارضة. وفي هذا المجال، يشكّك برهان الدين دوران - المقرّب من إردوغان -، في صحيفة «صباح»، بالسياسة الخارجية للمعارضة. ويرى أنّ «على كيليتشدار أوغلو أن يوضح ما إذا كان تحسين علاقات تركيا مع الأطلسي والاتحاد الأوروبي سيعني تراجعها عن ضرب التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، أو لا». من جهته، يعقد الكاتب مراد يتكين مقارنة بين إردوغان وكيليتشدار أوغلو، إذ يلفت إلى أن هذا الأخير يؤكد ضرورة تصحيح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي و«الناتو» على «قاعدة أكبر من المساواة»، فيما لا يوفّر إردوغان فرصة إلّا يهاجم فيها الولايات المتحدة والأوروبيين، على أساس أنه صوت «العالم المظلوم». ويقول يتكين: «كيليتشدار أوغلو يريد الاتفاق مع الحكومة السورية وإعادة اللاجئين إلى سوريا. أمّا إردوغان فيريد إبقاءهم والتوجّه إلى أوروبا لطلب المزيد من المال. وكيليتشدار أوغلو يريد تحييد البنك المركزي عن تأثيرات السياسة، ويريد قضاءً مستقلاً، بما يتيح جذْب الاستثمارات الخارجية من أميركا وأوروبا في مناخ آمن وموثوق. وهو ما لا يفعله إردوغان. وكيليتشدار أوغلو يَعِدُ بحرّية كاملة للصحافة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، مثل صلاح الدين ديميرطاش، وعثمان كافالا، وتعزيز الحرّيات، وهذا يجعله أقرب إلى الاتحاد الأوروبي». لكن مع كل ذلك، يضيف يتكين أن موقف أوروبا ستحدّده السياسات الداخلية في دولها. إذا فاز كيليتشدار أوغلو، فسيكون على الاتحاد الأوروبي مواجهة تحدّيات كامنة. ولو أراد إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كما يقول، سيجد هؤلاء طرقاً عديدة للهروب إلى أوروبا، وهو ما تخشاه العواصم الأوروبية، فيما هي راضية على طريقة تعامل إردوغان مع هذا الملفّ. كذلك لا يريد المتعصّبون واليمينيون والعنصريون في أوروبا، والتي يريدونها فقط نادياً مسيحيّاً، أن يواجهوا، مع كيليتشدار أوغلو، تركيا معاصرة تتطلّع إلى الاتحاد الأوروبي. وحتى سياسيّو التكتّل يريدون أن ينتصر إردوغان، لكي يجدوا في تركيا دائماً «الطرح الآخر» الذي يستغلّونه في معاركهم الانتخابية. لهذه الأسباب، قد تحبّذ أوروبا فوز إردوغان في الانتخابات.
ويكتب جعفر طار، في «يني أوزغور بوليتيكا» الكردية المؤيدة لـ«حزب العمّال الكردستاني»، أنه «إذا كان لإردوغان أن يرحل، فلن يكون ذلك بفضل الولايات المتحدة الأميركية، بل بفعل جهود القوى الديموقراطية، وخاصة الأكراد». أمّا عن التطوّرات في الشرق الأوسط والمصالحات التي تجرى عشية الانتخابات الرئاسية، يقول عمر أونهون، آخر سفير تركي في دمشق، إن «عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية تعني أن تركيا ستكون أمام سوريا أكثر قوّة. وستكون تركيا في وضْع معاكس لِمَا كانت عليه بين عامَي 2013 و2020 عندما كانت في معسكر الإسلام السياسي. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية، كانت تركيا تتقدَّم خطوات في المصالحات مع الإمارات والسعودية ومصر وأيضاً مع إسرائيل. ولا يمكن الاكتفاء بشرح أسباب التقلّبات في السياسة الخارجية التركية. لكن في حال إعادة انتخاب إردوغان، يمكننا أن نتوقّع استمرار سياسة الشعبوية والانتهازية والواقعية التي تحتاج إلى موارد جديّة للاقتصاد. وفي حال فوز كمال كيليتشدار أوغلو، ليس واضحاً ما الذي ستكون عليه السياسات الخارجية. لكنه سينطلق بالتأكيد من الإرث الذي سيتركه له إردوغان». ويضيف أونهون: «نفهم من كيليتشدار أوغلو أنه سيكون إلى جانب فلسطين والقضيّة الفلسطينية باعتبارها قضيّة حقّ. وسيعمل على تأسيس منظمة السلم والتعاون في الشرق الأوسط. وسيمدّ يده إلى الأسد، ويعمل على حلّ كل القضايا وإعادة اللاجئين... لا يمكن التفكير بحكومة تركية لا تدعم الشعب الفلسطيني، لكن نوعية الدعم تتطلّب الموازنة مع نوعية العلاقة التي تقيمها تركيا مع إسرائيل. أمّا تأسيس منبر للتعاون في الشرق الأوسط، فهو رؤية جيّدة، لكن ليس على أساس ناتو شرق أوسطي، بل على أساس تعزيز الحوار وجذور الثقة بين الدول». وعن العلاقات مع سوريا، يرى السفير السابق أن «إقامة علاقات مع دمشق مسألة سليمة، مع الأخذ في الاعتبار العوامل الآتية: أن المعارضة لن تتبخّر ولن تختفي؛ أن الأسد لن يعود إلى طريق الهداية ويصبح شخصاً جيّداً؛ وأن حلّ المشكلات، بما في ذلك عودة اللاجئين، يكمن في مصدر هذه المشكلات، أي في سوريا».
ومن أجل إنهاء الأزمة السورية «بشكل بنّاء»، يرى أونهون أنه «يجب أن تكون معسكرات المعارضة قادرة على الالتقاء على أرضية مشتركة ولو في الحدّ الأدنى. وفي حال عدم التوصّل إلى حلّ سياسي في هذا الإطار، فإن سوريا ستستمرّ في أن تكون مصدراً لعدم الاستقرار لمحيطها، وفي رأسه تركيا». وينهي أونهون مقالته بالقول إنه «في ظلّ المرحلة الجديدة في الشرق الأوسط، على تركيا، ومن دون التدخّل في الخلافات البينية العربية والنزاعات هناك، أن توجِد قاعدة تعاون قائمة على المنافع المتبادلة، وأن تستفيد من طاقاتها على صعيد التجارة والاستثمار والسياحة».