لا تشكّل زيارة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى قبرص التركية أيّ استثناء. فبموجب التقاليد المعمول بها، تكون الزيارة الأولى لأيّ رئيس تركي جديد، إلى القسم الشمالي التركي من الجزيرة المقسّمة، والذي أَعلن، منذ الـ15 من تشرين الثاني 1983، استقلاله الكامل تحت اسم «جمهورية شمال قبرص التركية». والجزيرة القبرصية التي أجّرتها الدولة العثمانية لبريطانيا العظمى عام 1878، ومن ثمّ تخلّت عنها بالكامل لمصلحة الأخيرة في «معاهدة لوزان» عام 1923، تحوّلت إلى إحدى بؤر التوتّر المفتوحة في شرق المتوسط منذ الاتفاق على انسحاب بريطانيا منها، ومنْح الاستقلال لطائفتَيها اليونانية والتركية تحت اسم جمهورية قبرص عام 1960، ومن ثمّ إقامة نظام تشاركيّ بين الطائفتَين بضمانة كلٍّ من بريطانيا وتركيا واليونان. لكن الأحداث التي شهدتها قبرص لاحقاً، والانقلاب على الرئيس مكاريوس، ودعوة قائد الانقلاب نيكوس سامسون إلى ضمّ قبرص إلى اليونان، دفع الجيش التركي إلى غزو شمال الجزيرة تطبيقاً لاتفاق الاستقلال، الذي يمنح كلّاً من الدول الثلاث الضامنة حقّ التدخُّل لمنع أيّ تغيير في الوضع القائم، وبالتالي حماية القبارصة الأتراك من الصَهر الهيليني. ومنذ ذلك الوقت، تعيش قبرص في ظلّ انقسام كامل، ولكن مع اعتراف العالم كلّه والأمم المتحدة بالقسم الجنوبي ممثِّلاً لكلّ الجزيرة، وعدم اعتراف سوى تركيا بالقسم الشمالي منها.يمثّل عدم تغيير الوضع في قبرص مسألة حيوية واستراتيجية بالنسبة إلى تركيا، خصوصاً وأن الجزيرة لا تبعد سوى 80 كيلومتراً عن السواحل التركية الجنوبية. وقد وصفها مصطفى كمال، ذات مرّة، بأنها «حدقة عيون الأناضول». وتنبع أهميّتها أيضاً من خشية أنقرة من تحويل شرق المتوسط إلى بحيرة يونانية، وخصوصاً في ظلّ الاكتشافات الجديدة في مجال الطاقة، والتي تعطي تركيا مبرّراً للتدخُّل في المنطقة دفاعاً عن حقوق الشطر الشمالي من الجزيرة. لهذا، أراد إردوغان تظهير أهميّة قبرص من خلال اصطحابه في الزيارة، التي جرت أول من أمس، وفداً عالي المستوى ضمّ كلّ أركان الدولة التركية من وزراء الخارجية والدفاع والطاقة والمواصلات، ورئيس الاستخبارات، ورئيس هيئة الصناعات العسكرية، ورئيس دائرة التواصل في رئاسة الجمهورية. وفي قبرص التركية، التقى إردوغان نظيره، أرسين تتار، الذي انتُخب رئيساً عام 2020، بدعم من الرئيس التركي نفسه، في مواجهة الرئيس السابق مصطفى آقنجي الذي كان يدعو إلى استقلالية أكبر عن النفوذ التركي. لكن تتار لم يرَ مستقبل بلاده خارج الرابطة الوثيقة مع تركيا التي وصفها بـ«وطننا الأمّ»، معتبراً قبرص جزءاً من «الوطن الأزرق» (شرق المتوسط التركي)، الذي يضمّ قبرص وتركيا وسائر الجزر التابعة لها في شرق المتوسط وبحر إيجه. ومن هناك، جدّد إردوغان ثوابت تركيا، وهي أن القبارصة الأتراك لم يكونوا يوماً أقلية، قائلاً إن «تركيا قدّمت أقصى التسهيلات لإعادة توحيد قبرص على أسس متساوية، لكن 50 عاماً من هذه الجهود ذهبت هباءً. ولا يمكن أن نعيش 50 عاماً أخرى تذهب مثلها». ولذلك، شدّد - وهنا بيت القصيد -، في رسالته الأساسية إلى أوروبا والغرب، على أن «أيّ عودة إلى المفاوضات تمرّ أوّلاً من خلال الاعتراف بقبرص التركية دولة مستقلّة». وعلى الرغم من كلّ المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة، لم يتمّ الوصول إلى حلّ لمشكلة الجزيرة التي تفاقمت أزمتها مع قبول الاتحاد الأوروبي ضَمّ الشطر الجنوبي كممثّل لكلّ الجزيرة، إلى عضويته في عام 2004.
لا ينفكّ باشينيان يطلق مواقف إيجابية تعكس رغبةً في الوصول إلى حلّ للمشكلة بين أذربيجان وأرمينيا


ومن قبرص، انتقل إردوغان، مساء الإثنين، في رحلة غير مباشرة إلى باكو، لتكون الزيارة الثانية له خارج تركيا إلى أذربيجان، حيث اجتمع إلى الرئيس إلهام علييف، مشدّداً على «الأخوّة بين الشعبَين». واللافت أن المرشّح الرئاسي السابق، سنان أوغان، انضمّ إلى الوفد التركي في باكو، ليكون أحد أفراده، علماً أن أوغان، الذي تربطه علاقات وثيقة بالقيادة الأذربيجانية والمجتمع الأكاديمي في هذا البلد، أعلن، خلافاً لما كان متوقّعاً، بعد نهاية الدورة الأولى في 14 أيار الماضي، تأييده لإردوغان في الدورة الثانية التي جرت في 28 أيار الماضي. ومع أن الزيارة تندرج في إطار بروتوكول ما بعد الانتخابات الرئاسية، فلا شكّ في أن محاولة المصالحة بين باكو ويريفان احتلّت حيّزاً رئيساً من المحادثات. وكان بدا لافتاً حضور رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، حضر حفل تنصيب إردوغان رئيساً للجمهورية التركية، في الثالث من الجاري، علماً أن مشاركته واجهت انتقادات من المعارضة الأرمينية التي وَصفت جلوسه في الصف الثاني خلف إلهام علييف، بأنه «أمر غير مقبول»، ليردّ وزير الخارجية الأرميني، آرارات ميرزويان، بالقول إن البروتوكول أوجب ذلك، بحيث يجلس رؤساء الحكومات في الصفّ الثاني.
ولا ينفكّ باشينيان يطلق مواقف إيجابية تعكس رغبةً في الوصول إلى حلّ للمشكلة بين أذربيجان وأرمينيا، وعلى رأسها قضيّة ناغورنو قره باغ التي يرفض الأذربيجانيون منحها أيّ خصوصية تجعل منها غير خاضعة لسيادة بلادهم. ووفق المعلومات، أبدى باشينيان استعداده للاعتراف بسيادة باكو الكاملة على قره باغ، والبدء بتنفيذ اتفاقية السلام التي تلت حرب الـ44 يوماً بين البلدَين في خريف عام 2020، ومن ذلك فتح ممرّ دائم بين أرمينيا وقره باغ، وممرّ آخر بين نخجوان وأذربيجان عبر أراضي هذه الأخيرة. لكن الوساطات الروسية والغربية لم تسفر عن أيّ حلول حتى الآن، بل إن الوضع تفاقم مع إغلاق أذربيجان ممرّ لاتشين، ومنعها التنقّل الكامل بين أرمينيا وناغورنو قره باغ، اعتباراً من الخريف الماضي. وعلى رغم ما تَقدّم، أبدى وزير الخارجية الأرميني «تساهلاً» كبيراً بالقول إن المباحثات ستتواصل بين يريفان وباكو وبينها وبين أنقرة، وستتمّ من دون شروط مسبقة، فيما الاعتراف بالإبادة الأرمينية لن يكون جزءاً من النقاشات. ولا تزال المفاوضات بين البلدَين تراوح مكانها، وتشهد تجاذباً بين موسكو والعواصم الغربية بخصوص الطرف الذي سيرعى الحلّ، فيما عُقد آخر اجتماع في كيشنيف، عاصمة مولودوفا، في الأول من حزيران الجاري، وضمّ كلّاً من علييف وباشينيان إلى المستشار الألماني أولاف شولتز، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس المفوضية الأوروبية شارل ميشيل، الذي اعتبر أن «الاجتماع هو تحضير جيّد لآخر سيعقد في بروكسل في 21 تموز المقبل».