في ظلّ ذلك، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها وأوكرانيا في حالة غبطة، حيث بدا لهم أن روسيا دخلت دوامة صراع داخلي. لكن ووسط حالة الترقب، خرجت الرئاسة البيلاروسية لتعلن انتهاء "عصيان" بريغوجين وقواته، بعد وساطة قادها الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، بالتوافق مع الرئيس الروسي. وأعلن المكتب الإعلامي للرئيس البيلاروسي موافقة زعيم "فاغنر" على اقتراح لوكاشينكو بشأن عدم جواز ارتكاب مذبحة دموية على أراضي روسيا، ووقف تحركات مسلحي المجموعة في البلاد، واتخاذ مزيد من الخطوات لتهدئة التوترات. وكشف المكتب أن الاتفاق يتضمن تقديم ضمانات أمنية لمقاتلي "فاغنر". وفي وقت لاحق، خرج بريغوجين بتصريح مسجل أكد فيه تراجع قواته بعدما كانت على بعد 200 كيلومتر من موسكو، وعودتها إلى معسكراتها، موضحاً أن القرار اتخذ حقناً للدماء. من جهته، كشف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أبرز نقاط الاتفاق، وهي إسقاط التهم الجنائية ضد بريغوجين ومنع محاكمته ومغادرته إلى بيلاروس، منع ملاحقة مقاتلي "فاغنر"، توقيع عقود مع وزارة الدفاع لبعض مقاتلي المجموعة ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في محاولة التمرد، وضمّهم إلى صفوف القوات المسلحة الروسية. وعلى إثر ذلك، أظهرت صور خروج بريغوجين من مقر قيادة العمليات العسكرية الجنوبية في موكب، بالتوازي مع بدء انسحاب قوات "فاغنر" من مدينة روستوف أون ودون، ومدينتي فيرونيج وليبتسك.
وفيما نجحت الوساطة البيلاروسية في تجنيب روسيا صراعاً دموياً، بقيت أسئلة كثيرة من دون أجوبة، بداية من مصير وزير الدفاع الروسي، ورئيس هيئة الأركان، اللذين غابا عن المشهد كلياً يومي الجمعة والسبت، وشكلت الإطاحة بهما أهم ما دفع بريغوجين إلى تمرده. وفيما أكد الكرملين أن التغييرات في الموظفين في وزارة الدفاع لم تناقَش خلال المفاوضات، أعلن بيسكوف أنه ليس على علم بأيّ تغييرات في موقف بوتين من شويغو، في معرض رده على سؤال عما إذا كان بوتين لا يزال يثق بوزير الدفاع. كذلك بقي السؤال حول وضع بريغوجين المستقبلي، وارتباطه بقوات "فاغنر" ودوره العسكري، معلَّقاً، وخصوصاً أن للمجموعة دوراً بارزاً في أكثر من ساحة تهمّ روسيا، من الحرب في أوكرانيا إلى أدوارها المتعددة في أفريقيا.
علامات استفهام عديدة ستظلّ مطروحة، وخصوصاً أن صورة روسيا على المستوى العالمي قد تأثّرت نتيجة قبول موسكو التفاوض مع رجل "مافيوي"
وبالعودة إلى أحداث السبت، فإن العامل الأهم، الذي منع نشوب صراع أهلي، وفق المراقبين الروس، كان موقف المجتمع الروسي، وممثلي المناطق الروسية، وكبار السياسيين، والزعماء الدينيين، والشخصيات العامة، ومقاتلي الخطوط الأمامية، الذين دانوا جميعاً "مغامرة" بريغوجين، فيما أظهر الموقف الشعبي إدانة واضحة للتمرد العسكري، والتفافاً حول الرئيس. وبحسب المراقبين الروس، فإن بريغوجين لم يخسر بالوسائل العسكرية، بل بالوسائل السياسية والدعائية، إذ لم يظهر المجتمع الروسي أيّ تأييد فعلي لتحركاته، وهو ما أجبره على التخلّي عن مغامرته، ووقف التمرد، والموافقة على اتفاق ودّي. وفيما يؤكد الخبراء أن الرئيس الروسي نجح في تجنيب البلاد صراعاً دموياً، وأن البلاد استطاعت التغلب على أزمة سياسية واجتماعية، وأن النظام نجح في إثبات استقراره، مع تأكيده استمرار العملية العسكرية في أوكرانيا حتى تحقيق أهدافها، فإن علامات استفهام عديدة ستظلّ مطروحة، وخصوصاً أن صورة روسيا على المستوى العالمي قد تأثرت نتيجة قبول موسكو التفاوض مع رجل "مافيوي" من مثل بريغوجين، بالإضافة إلى أسئلة تحتاج إلى أجوبة سريعة حول ما إذا كان النظام الروسي لا يزال على متانته، أو أن الرئيس الروسي هو الضمانة الوحيدة القادرة على منع الصراع بين أجنحته.