مقتل الفتى الجزائري الأصل نائل، بنيران الشرطة الفرنسية في نانتير، أعاد دفعة واحدة تظهير كلّ تاريخ فرنسا الدموي وحاضرها العنصري، في عالم صارت قيم الغرب تعاني فيه أزمة كبرى، ناجمة عن انتقال جزء من القوة إلى الشرق، الذي تعِد قواه الصاعدة بسلوك مختلف عن السلوك الاستفزازي والفوقي الذي تنتهجه الدول الغربية ضدّ العالم الآخر، ما يكرّس واقع فقدان الغرب الكثير من نقاط تفوّقه على القوى العالمية المنافسة له. حتى السمعة التي تمكّن الغرب من ترسيخها عبر عشرات أو حتى مئات السنين وجعلته وجهة للطامحين إلى حياة أفضل في كلّ أنحاء العالم، يخسرها حالياً بسبب تراجع الحريات الفردية والعامة، وتقلّص فجوة الثروة مع العالم الآخر، والمنافسة الصناعية التي تأتي من دول كالصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها. أضف إلى ذلك، تراجع الأيديولوجيات في الدول المنافسة للغرب، والتي ثبت أنه لا يمكن تفصيل حياة المجتمعات على أساسها، وبالتالي انطلاق القوة الكامنة لدى تلك الدول، بكلّ طاقتها للمنافسة.العالم اليوم يخوض حروبه الكبرى على مسارَين، أحدهما اقتصادي والثاني أخلاقي، فيما ثمّة كلّ يوم شواهد على الأزمة التي تعانيها القيم الغربية. والدين هو فقط أحد مظاهر التمييز ضدّ المسلمين وغيرهم في الغرب، لكنه ليس كلّ شيء. فالذين يتظاهرون في فرنسا اليوم، ليسوا متديّنين، وإنما مهاجرون يعيشون على هامش الحياة. ففي فرنسا بالذات، توجد كتلة بشرية ضخمة منعدمة أمامها الفرص، وتعاني من التفرقة العنصرية يومياً، في نظرات الفرنسيين، وفي المضايقات التي تتعرّض لها وتنطلق من ادّعاء أن المهاجرين يستفيدون من تقديمات «سخية» توفّرها لهم الدولة المضيفة، وأنهم يعيشون «عالة» على دافع الضرائب الفرنسي، وينتهكون القوانين، وحتى يوسّخون الشوارع. والصعود الكبير لليمين بقيادة مارين لوبن التي نافست إيمانويل ماكرون على الرئاسة في الدورة الأخيرة، وقبلها والدها جان ماري لوبن، سببه الكره المحتقن لهؤلاء. لكن هؤلاء المهاجرين لم يأتوا إلى فرنسا لأنهم فضّلوها على بلدانهم، بل لأنها عندما كانت تستعمر تلك البلدان في أفريقيا وآسيا، نهبت خيراتهم، ولم تترك لهم شيئاً، علماً أن بعضهم من أحفاد الجزائريين الذين تعاونوا مع فرنسا واضطرّوا إلى الخروج معها عند انتهاء الاحتلال. وهذه تختلف عن هجرة الرجال أو النساء الباحثين عن فرص لتحسين مداخيلهم، ومن ثمّ العودة بها إلى أوطانهم، كما يحصل مع العمال أو رجال الأعمال الذين يذهبون إلى دول الخليج حالياً، أو الذين كانوا يركبون السفن نحو القارة الأميركية قبل قرن أو أكثر.
لن تحلّ المشكلة إلا بتقبّل الفرنسيين حقيقة أن مجتمعهم متعدّد الثقافات


بالنتيجة، فرنسا تتحمّل المسؤولية الأولى عن دفع الجزائريين إلى الهجرة إليها. ولن تحلّ المشكلة إلا بقبول الفرنسيين تحمّل تلك المسؤولية، وفتح الفرص أمامهم على مصراعيها والقبول بهم كما هم، أي تقبّل حقيقة أن المجتمع الفرنسي متعدّد الثقافات، وإنهاء طغيان الأغلبية على الأقليات. على رغم كلّ ذلك، لا تزال دول الغرب هي الوجهة المفضّلة للمهاجرين. ولكن مع تزايد التضييق في وجههم، وفرض شروط أصعب لقبولهم، لم تعُد هي الحلم. صحيح أن الدول المنافسة للغرب لم تتحوّل إلى وجهات بديلة للهجرة، لكن انتقال جزء كبير من الثروة والقوة إلى تلك الدول، يوفّر فرصاً للباحثين عن حياة أفضل، ويضيّق الهامش أمام الغرب في ممارسة هوايته المفضّلة في نهب ثروات الدول الأخرى، ومن ثمّ فتح كوّة أمام المهاجرين لدواع إنسانية مزعومة، وإنما في الواقع لسدّ الحاجة إلى العمالة الهامشية التي يوفّرها هؤلاء. وفي الأساس، لولا النهب لما كانت الهجرة.
على الطرف الآخر من أوروبا، في استوكهولم، أثار إحراق المصحف غضباً عارماً في العالمين العربي والإسلامي. المشكلة هنا ليست قضية حرّيات كما يدّعي النظام الغربي. فالحرّيات لا يمكن أن تتجزأ أو تكون مسموحة لفئات وممنوعة على فئات أخرى. ومن يُرِد ممارسة حرّية مماثلة، إنما في اتجاه مختلف، يُواجَه بتهم العنصرية أو معاداة السامية. وليست المشكلة في رفض الإسلام من قبل أفراد في هذه الدولة الغربية أو تلك. المشكلة تكمن في أن الممارسة بذاتها يُقصد بها الاستفزاز. وذلك يساهم في تأجيج صراع الأديان، وبالتالي يوفّر أساساً «أخلاقياً» للعداء الغربي تجاه هذه الفئة من البشر تحت عنوان الدفاع عن القيم، ويبرّر استمرار السعي للهيمنة. ولذا، يصبح إحراق المصحف أو نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة، فعلاً سياسياً يرعاه النظام الغربي.
والكراهية الغربية للعرب والمسلمين ولأديان وثقافات أخرى، مثل السكان الأصليين، ليست حديثة التاريخ، لكنها تزايدت في العقود الأخيرة بسبب محاولات التفلّت من الهيمنة، ما أدخل القيم الغربية في تناقض مع نفسها، أو بالأصح مع ما تدّعيه. وثمّة مثال ساطع على النفاق في هذا السياق، هو ما يسمّيه الغرب «الإرهاب الإسلامي» الذي هو في الأساس اختراع غربي، ولا يزال يُستخدم حتى الآن، وإلا كيف يمكن أن يتدفّق عشرات أو مئات الآلاف من الإرهابيين المقيمين في الغرب، عبر تركيا، العضو في «حلف شمال الأطلسي»، إلى سوريا للقتال فيها، ثم يعودون إلى تلك الدول بسلام؟ هنا أيضاً، توفّر القوى الصاعدة في العالم بديلاً أكثر احتراماً لثقافات الآخرين، وقبولاً لهم كما هم، بغضّ النظر عن أن تلك القوى أيضاً تبحث عن مصالحها. فعلى رغم سعيها للتوسع اقتصادياً، تبتعد الصين، وهي تقول ذلك، عن طرح نموذج فوقي وإملائي للتعامل المتبادل مع الدول الأخرى. وهذه هي الرسالة التي وجّهها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من خلال احتضان المصحف ردّاً على إحراقه في السويد.
ما يحصل في فرنسا، وردات الفعل على ما جرى في السويد، يسلّطان الضوء على فضيحة الغرب، ويعرّضان قيمه لاختبار آخر، لن تظلّ بعده كما قبله، أقلّه في نظر المغشوشين بهذه القيم.