لا شكّ في أن الهجوم «الإردوغاني» على «معاهدة لوزان»، لم يكن يهدف فقط إلى تبرير الغزوات التركية في سوريا والعراق وليبيا والقوقاز وغيرها، بل كان جزءاً من تصفية الحساب مع تركيا «الأتاتوركية» والعلمانية. وهكذا، عمل حزب الرئيس، «العدالة والتنمية»، على استهداف كلّ الرموز العلمانية، وكلّ ما يذكّر بالحقبة التأسيسيّة لتركيا الحديثة، وفي مقدّمها شخص مصطفى كمال نفسه، و«معاهدة لوزان»، وذلك في سياق الحملة الممنهجة لتعزيز النزعة الدينية، وتقليص النزعة العلمانية، في الدولة والمجتمع. وعلى رغم كلّ الانتقادات التي يوجّهها الإسلاميون لـ«لوزان»، فإن أحداً في تركيا - من علمانيين وإسلاميين - لا يجرؤ على الخروج من تحت عباءة المعاهدة التي حفظت ما تبقّى من كيان تركي وريث للسلطنة البائدة، بعدما كان على شفير الزوال من الوجود، باستثناء بقعة صغيرة في وسط الأناضول؛ بل يكاد المسّ بمضمون المعاهدة يلامس مرتبة «الخيانة»، نظراً إلى ما حقّقته من مكاسب للأتراك، مقارنةً بما كان يُحاك لهم من جانب خصومهم وأعدائهم.ولعلّ واحداً من أكثر الأسئلة التي طُرحت، هو ما إذا كان العمل بـ«معاهدة لوزان» ينتهي بعد مرور مئة عام على توقيعها. والإجابة، أن لا نصّ في المعاهدات القانونية والتاريخية يَعتبر عمر أيّ معاهدة مئة سنة، بل إن ذلك يتحدّد في متون الاتفاقات نفسها، حيث يمكن أن تكون مدّة الاتفاق 10 سنوات أو 50 سنة، وهكذا... أو أن يكون عمره 20 سنة مثلاً، ويجري تمديده تلقائيّاً في حال عدم اعتراض أحد الأطراف قبل نهاية المدّة بشهرين، أو بسنة، على سبيل المثال. أمّا بالنسبة إلى «معاهدة لوزان»، فعلى الرغم من كلّ الشائعات و«الخرافات»، وعلى الرغم من كلّ البحث في أرشيف المعاهدة وغيرها من وثائق «عصبة الأمم» في جنيف، فلم يَثبت إلى الآن وجود مواد أو ملاحق سرّية أو علنية تحدِّد مدّتها بمئة سنة، ما يعني تالياً أنها معاهدة دائمة ومفتوحة، وليس هناك ما يشير إلى أيّ نص يقول بتعديلها أو بإلغائها. وفي هذا الإطار، يقول المؤرّخ الأبرز حالياً، إيلبير أورطايلي، إن الحديث عن مدّة مئة سنة للمعاهدة هو «مجرّد سفسطة»، تحوّلت إلى «سذاجة»، لأن مثل هذه المعاهدات «لا مدّة محدّدة لها، وإذا انسحب طرف من الموقّعين عليها، لا تسقط المعاهدة بل تسقط عضوية الطرف المنسحب منها».
لم تسقط «لوزان» لدى أيّ طرف من أطرافها على امتداد مئة عام. لكن وصْف الرئيس التركي لها، في صيف عام 2016 وما بعده، بأنها «هزيمة»، أثار عاصفة من ردود الفعل المستنكرة. وفي هذا المجال، يعتقد المؤرّخ سنان ميدان أن «لوزان هزيمة لإنكلترا، والبلد الوحيد الذي كان يريد هذه المعاهدة هو تركيا»، مضيفاً إن «لوزان هي "طابو" (سند ملكية) الجمهورية التركية». ويرى المؤرّخ رمضان إرخان غولّي، بدوره، أن «من أهمّ خصوصيات لوزان، أنها ألغت الامتيازات الأجنبية ومنعت الأرمن من إقامة دولة لهم في شرق الأناضول»، مبيّناً أن «عصمت إينونو كان متشدّداً إزاء عدم قبول أيّ إشارة إلى وجود أقليّات (خلا الدينية) من أيّ نوع في تركيا، وبالتالي فهو حال دون تشريع الأبواب أمام التدخّلات الأجنبية بحجّة حماية الأقليات، كما كان يحصل في أواخر العهد العثماني». وبحسب الباحث يوجيل غوتشلي، فإن «موقف إينونو الرافض لدولة أرمنية كان موقف قائد عسكري أكثر منه ديبلوماسي، لأنه هدّد بالانسحاب من المؤتمر». وفي الاتّجاه نفسه، يقول المؤرّخ محمد سرهاد يلماز إن «لوزان» تُعتبر «طابو»، ولذلك تعود المحكمة الدستورية إليها من وقت إلى آخر عند اتّخاذ بعض القرارات، فيما يكتب سادات إرغين، في صحيفة «حرييات»: «(أنّنا) مدينون أشدّ ما نكون للوزان التي كانت واحدة من أقوى الضمانات لوجود الجمهورية التركية على امتداد مئة عام، وللإرادة التي أظهرها أتاتورك كما إينونو خلال المفاوضات».
ولكن الكتّاب من التيار الإسلامي لا يتّفقون مع كل مَن يرى في «لوزان»، «نصراً». إذ يقول آيدين أونال، في صحيفة «يني شفق»، إن «لوزان لم تكن نصراً، ولكنها لم تكن هزيمة، بل وصفة مرّة، لأنه كان في إمكان إينونو أن يساوم بصورة أفضل... لقد انتصرنا على اليونان وحرّرنا إزمير. كان عملاً جيّداً. لكن أضعنا وخسرنا الموصل وحلب وسالونيك وجزر إيجه». ويضيف إن نائب طرابزون، علي شكري بك، كان الوحيد الذي انتقد علناً المعاهدة، فكان نصيبه القتل، ومن ثمّ لم يَعُد يجرؤ أحد على توجيه النقد للمعاهدة التي تحوّلت إلى «وثيقة مقدّسة».
وإذا كان الإسلاميون الأتراك لا يَرون في «لوزان» نصراً، بل هزيمة، فإن الفئتَين الأكثر تضرّراً من المعاهدة، هما الأكراد والأرمن، إذ إن الأوّلين، منذ انحلال الدولة العثمانية، عملوا وتعاونوا أحياناً مع مصطفى كمال في «حرب التحرير الوطنية»، ووُعدوا بمنحهم الحكم الذاتي من قِبَل «أتاتورك»، عام 1922 (يمكن الاستفادة حول هذه النقطة وغيرها من العرض التفصيلي لها في كتاب صاحب هذه السطور «مئة عام من تاريخ تركيا الحديث 1920 - 2020: سيرة سياسية واجتماعية»، الصادر عام 2020). غير أن مصطفى كمال نكث بوعده لهم، وعمل كلّ ما في وسعه لمنع الإشارة إلى الأكراد في «معاهدة لوزان»، وهو ما حصل بالفعل، ليُفتح الباب أمام إنكار الهوية الثقافية الكردية، فكيف بوجودهم نفسه؟ وتَعتبر صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا»، المؤيّدة للأكراد والصادرة باللغة التركية، أن «معاهدة لوزان» هي «وثيقة إبادة» للأكراد الذين لا يزالون يقاومون «العنصرية القومية التركية إلى الآن». وتقول إن «ابادة الأكراد في لوزان قبل مئة عام مستمرّة إلى اليوم مع إردوغان الذي يستخدم معاهدة حلف شمال الأطلسي لمواصلة إبادة الأكراد مقابل منح السويد عضوية الحلف، كما كان الأخير قد تعاون مع تركيا في عام 1999، لخطف القائد عبد الله أوجالان وسجنه في تركيا».
أمّا الأرمن، فكانوا أيضاً من كبار الخاسرين جرّاء «معاهدة لوزان»؛ إذ أقرّت «اتفاقية سيفر» بين الدول المنتصرة والسلطان العثماني إقامة دولة أرمنية في شرق الأناضول تعادل تقريباً «أرمينيا الغربية»، لتكون تعويضاً عن الإبادة التي تعرّضوا لها عام 1915. غير أن الاتفاقات الديبلوماسية التي وقّعها مصطفى كمال مع الاتحاد السوفياتي، عام 1921، في قارص وموسكو اعترفت بمناطق سيطرة «أتاتورك»، لتأتي «معاهدة لوزان» وتكمل الاعتراف بمناطق السيطرة «الكمالية» وتتجاهل كليّاً مطالب الأرمن، ما عدا الاعتراف بهم كمكوّن مسيحي له الحقّ في هويته ومدارسه وطقوسه ولغته. وهو ما كان كافياً لمنع ظهور المسألة الأرمنية، والتي تتلخّص بثلاثة مطالب: اعتراف أنقرة بالإبادة الأرمنية عام 1915، والتعويض على الضحايا، وإعادة الأراضي التي كان يسكنها الأرمن في شرق الأناضول وهجّروا منها بعد عام 1915.
ويَبرز الباحث باسكين أوران من بين مَن تناولوا كثيراً موضوع الأقليّات في تركيا؛ إذ كتب أخيراً، في صحيفة «آغوس» الأرمنية، أن «معاهدة لوزان أعطت في المادة 39/5 منها "مَن ليست لغته التركية" حقّ المرافعة أمام المحاكم بلغته الأم، وأقرّت حقّ كل المواطنين في استخدام اللغة التي يريدونها، والحقّ في المساواة بين كلّ مَن يقيم في تركيا»، لكن «المشكلة تكمن في أن الدولة لا تطبّق، بل تمنع تطبيق هذه المواد». وحول إمكانية تعديل المعاهدة، يرى أوران أن ذلك «ضروري عبر مؤتمر دولي تشارك فيه تركيا والدول الثماني الموقّعة على المعاهدة، وهي: تركيا، اليونان، إيطاليا، اليابان، إنكلترا، فرنسا، رومانيا ويوغسلافيا».
بالنتيجة، ستبقى «لوزان» «الوثيقة المؤسِّسة للجمهورية التركية»، وسيبقى الجدل حولها قائماً إلى ما لا نهاية، وستبقى تركيا كياناً «قيد التأسيس» وحدودها «قيد الترسيم»، وهذه سُنّة كلّ الدول عبر التاريخ.