لندن |
قد يظلّ الزعيم الاشتراكي، بيدرو سانشيز، رئيساً للوزراء في إسبانيا، بعد أن أسفرت الانتخابات العامّة المبكرة التي جرت الأحد الماضي، عن برلمان منقسم بين الحزبَين الأكبر في البلاد، من دون أن يمتلك أيّ منهما طريقاً واضحة لتشكيل ائتلاف حاكم يحظى بالأغلبية. لكن اليسار اعتبر النتيجة انتصاراً للديموقراطية، بعدما تسبّبت مخاوف الناخبين من وصول حزب «فوكس» اليميني المتطرّف إلى السلطة، بحرمان الكتلة اليمينية من الأغلبية.

يبدو أن مقامرة رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بالدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة، قد أسفرت عن تجديد فرصته للبقاء في الحكم، وإنْ عبر طريق معقّدة للغاية، تتطلّب حشد دعم كافٍ من مجموعات سياسية صغيرة متنافرة. وأسفرت جولة الأحد الماضي عن برلمان منقسم حقّق فيه الحزبان الرئيسان في البلاد - حزب «الشعب» (يمين الوسط) وحزب «العمال الاشتراكي» (يسار الوسط) - نتائج جيّدة، لكن من دون أن يتمكّن أحدهما من نيْل أغلبية تخوّله تشكيل حكومة. وحصل حزب «الشعب» على 136 مقعداً، مُحقّقاً تقدّماً كبيراً عن حصّته في انتخابات 2019 والتي كانت 89 مقعداً، ولكن مقاعده بقيت أقلّ ممّا يحتاجه ليتولّى تشكيل حكومةٍ منفرداً، علماً أن تشكيل حكومة أغلبية بسيطة يحتاج إلى دعم 176 نائباً من أصل 350 هم كامل عِداد البرلمان. أيضاً، لن تُمكّن الكتلة اليمينية، زعيم حزب «الشعب»، ألبيرتو فيجو، من الحُكم، بسبب الأداء المخيّب للآمال لحزب «فوكس» (أقصى اليمين)، شريكه الطبيعي في أيّ ائتلاف محتمل؛ إذ حصل هذا الأخير، الذي يرتبط عاطفياً بذكريات أيّام حكم الديكتاتور فرانكو السوداء، على 33 مقعداً فقط، مقارنةً بـ52 مقعداً كان حازها في انتخابات تشرين الثاني 2019. ومع ذلك، فإن فيجو، المفتقد إلى الكاريزما، أعلن أنه كزعيم أكبر حزب في البرلمان، سيحاول تشكيل حكومة أقلّية. على أن التقاليد السياسية في البلاد لا تفرض بالضرورة أن يتولّى رئيس الحزب الذي يحظى بأكبر عدد من الأصوات منصب رئيس الوزراء، إذ يمكن أن ينتهي المنصب عند رئيس الحزب الذي يمكنه الحصول على ثقة أكبر عدد من النواب.
على أيّ حال، سيتّجه الجميع الآن إلى راحة إجبارية إلى حين انتهاء إجازة البرلمان في 16 آب المقبل، حين تعود الهيئة التشريعية إلى الانعقاد في اليوم التالي، ويؤدّي النواب المنتخَبون اليمين الدستورية. عندئذ، ستكون المبادرة في يد ملك إسبانيا، فيليبي السادس، الذي من المفترض أن يستدعي قادة الأحزاب السياسية الممثَّلة في البرلمان إلى التشاور معه. وإذ قد يضغط فيجو في اتّجاه منحه الفرصة بوصفه زعيم الكتلة الأكبر من النواب، فإن القواعد الدستورية تفرض على الملك أن يكلّف الشخص الأوفر حظّاً في الفوز بثقة الأغلبية البرلمانية. ولذا، فقد يتجاوز الملك، فيجو، ويكلّف سانشيز الذي حصل حزبه على 122 مقعداً. لكن حتى فرص الزعيم الاشتراكي ستكون مرتبطة بحصوله على دعم كافٍ ليس من بقية الأحزاب اليسارية فقط، وإنّما كذلك من الأحزاب الإقليمية (الانفصالية) في كاتالونيا وإقليم الباسك، وهو أمر له محاذيره السياسية في مدريد. إذ إن صفقات سانشيز السابقة مع الكاتالونيين، وتحالفه مع الحزب الباسكيّ الذي خلَف الجناح السياسي لجماعة «إيتا» الثورية المتّهمة بالإرهاب، أثار غضب الناخبين الإسبان ذوي الميول اليمينية المحافظة، وكثّف من مناخ الاستقطاب السياسي في البلاد، خلال السنوات القليلة الماضية.
في حال سمع الملك من زعماء الكتل النيابية ما يشير إلى عزمهم على دعم سانشيز، فقد يسمّيه لتولّي المنصب


وفي حال سمع الملك من زعماء الكتل النيابية ما يشير إلى عزمهم على دعم سانشيز، فقد يسمّيه لتولّي المنصب. وعندها، ستكون لدى رئيس الوزراء الحالي عدّة أسابيع للتفاوض مع الكتل النيابية، سعياً لبناء أغلبيّة بسيطة تحظى بثقة البرلمان. وكان سانشيز قد وصل إلى رئاسة الحكومة في عام 2019، بعدما تمكّن من تشكيل ائتلاف يساري، وحصل عبر صفقات خدمية على تأييد أحزاب إقليميّة صغيرة. لكن إسبانيا لا تمتلك تقليداً لبناء ائتلافات وطنية عابرة للأيديولوجيات، كما في ألمانيا مثلاً، إذ إن «العمال الاشتراكي» و«الحزب الشعبي»، المهيمنان على السلطة منذ نهاية حقبة فرانكو في السبعينيات، غير مستعدَّين لفكرة تقاسم الحكم، وغالباً ما يفضّلان خوض الصراعات وتأكيد مساحات التناقض بدلاً من استكشاف مجالات التعاون الممكنة. ويسيطر الاشتراكيون المدعومون من حزب «سومار» اليساري الذي تقوده يولاندا دياز (31 مقعداً)، على ما مجموعه 153 مقعداً في البرلمان، فيما من غير المرجّح أن يحصلوا على دعم 23 نائباً آخر لضمان تسمية سانشيز رئيساً للوزراء، من المرّة الأولى التي يصوّت فيها البرلمان الجديد على مسألة التعيين، إلّا أنهم قد يحقّقون غايتهم في الجولة الثانية من التصويت، حين يصير على المرشّح لرئاسة الحكومة الجديدة أن يحصل على «نعم» أكثر من «لا».
على أن هذه الاستراتيجية عالية المخاطر؛ إذ إن أحزاباً صغيرة، مثل «حركة تيريول إكسيستي» التي كانت دعمت سانشيز لتشكيل حكومته في عام 2019، خسرت مقاعدها في البرلمان الجديد، وهو ما يحتّم على الرجل أن يعمل على استقطاب اليسار الجمهوري في كاتالونيا (حامل لواء حركة الاستقلال التي أمضى زعيمها، أوريول جونكيراس، ثلاث سنوات ونصف سنة في السجن، لدوره في محاولة الانفصال عن مدريد عام 2017)، والحزب الباسكيّ، وربّما أيضاً إقناع الحزب الذي أسّسه الرئيس الكاتالوني السابق، كارليس بوتشيمون، بعدم التصويت ضدّه. ولا يزال هذا الأخير، الذي فرّ من إسبانيا في أعقاب الاستفتاء على استقلال كاتالونيا، عام 2017، يعيش في منفى اختياري في بلجيكا. وقد رفعت محكمة عليا في الاتحاد الأوروبي أخيراً الحصانة القانونية عنه، وهو حالياً عضو في البرلمان الأوروبي، ما يمهّد الطريق أمام تسليمه إلى إسبانيا. ولا شكّ في أنه عندئذ، سيفضّل أن يكون سانشيز - الأكثر ليونة مع الطموحات الانفصالية -، لا فيجو، في السلطة. على أن المفاوضات مع الاشتراكيين ليست سهلة، كما أنها ليست مضمونة النتائج.
وهكذا، إذا طُلب من سانشيز تشكيل حكومة وفشل في الحصول على دعم 176 نائباً، فقد يضغط فيجو للسماح له بمحاولة تشكيل حكومة، فيما يُستبعد أن تتغيّر مزاجات الكتل البرلمانية بشكل كبير في الأشهر القليلة المقبلة، وهو ما يصعّب عليه جمع دعمٍ كافٍ. لذلك، فإن إسبانيا قد تكون في طريقها نحو انتخابات جديدة. وينصّ الدستور الإسباني على أن الملك ملزم بحلّ البرلمان بعد شهرين من أول تصويت فاشل لنيل الثقة. وبالنظر إلى أنه يجب إجراء انتخابات عامّة جديدة بعد 54 يوماً من حلّ البرلمان، فإن الناخبين الإسبان سيكونون على موعد مع صناديق الاقتراع مرّة أخرى في نهاية هذا العام أو، على الأرجح، في بداية عام 2024. وإلى أن يتمّ - عندها - تثبيت رئيس وزراء جديد من قِبَل البرلمان، سيبقى سانشيز رئيساً لحكومة تصريف الأعمال بسلطات محدودة، إذ لا يمكن للحكومة اعتماد قوانين جديدة إلّا في حالات استثنائيّة طارئة.
ويَنظر الاشتراكيون إلى هذه الدراما بشكل إيجابي مثير للإعجاب، إذ يعتبرون أنّهم أوقفوا على الأقلّ مسيرة صعود تيّارات اليمين في فنلندا وإيطاليا والسويد وجميع أنحاء أوروبا. وقال سانشيز لأنصاره المبتهجين بنتيجة انتخابات الأحد: «لقد فزنا بأصوات أكثر ومقاعد وحصة أكبر من الأصوات ممّا فعلنا قبل أربع سنوات»، مؤكداً أن «الكتلة الرجعية، التي أرادت إلغاء كامل الإنجازات التي حقّقناها على مدى السنوات الأربع الماضية، قد فشلت». وكان حزب «الشعب» اليميني قد أَلحق هزيمةً ثقيلة بالاشتراكيين خلال الانتخابات المحليّة والإقليمية في شهر أيار الماضي، إلى الحدّ الذي دفع سانشيز إلى المقامرة بالدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة.