طهران | تحوّلت الحرب الروسية - الأوكرانية، منذ اليوم الأول لاندلاعها، إلى أحد أبرز الموضوعات التي تحظى باهتمام الأوساط السياسية والإعلامية في إيران. فبالنسبة إلى طهران التي تخوض صراعاً طويلاً مع الغرب حول قضايا مختلفة، من بينها برنامجاها النووي والصاروخي وذلك الخاص بالمُسيّرات فضلاً عن سياساتها الإقليمية، تكتسي المواجهة بين موسكو والعواصم الغربية ومآلاتها، أهميّة خاصّة. وفي هذا السياق، فإن استخدام روسيا للمُسيّرات التي اشترتها من إيران، أَقحم الأخيرة بشكل أو بآخر في هذه المواجهة. كما أن العقوبات الغربية المفروضة على كلٍّ من طهران وموسكو، جعلتهما يعيشان وضعاً مشتركاً، وهو ما أسهم في ارتفاع حجم التبادل الاقتصادي والأمني بينهما، علماً أن الحرب الأوكرانية شكّلت بذاتها سبباً في فشل المحادثات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني. لكن الخبراء والمحلّلين السياسيين في إيران، لا يَنظرون بعين واحدة إلى مستقبل تلك الحرب؛ فبعضهم يتحدّث عن تحقيق روسيا أهدافها وإخفاق الغرب في عزْلها، فيما يذهب آخرون إلى الحديث عن حربٍ استنزافية أثّرت سلباً على الموقع السياسي والاقتصادي والعسكري لموسكو. بيدَ أن ثمّة في المقابل إجماعاً على أن النظام الدولي سيكون مختلفاً تماماً بعد الحرب الأوكرانية، عمَّا كان عليه قَبْلها، وأن تغييرات هائلة قد طالت السِمات الأمنية والسياسية والاقتصادية لهذا النظام.
تحقُّق الأهداف الاستراتيجية الروسية
يرى أبو الفضل بازركان، الباحث في شؤون الأمن الدولي والأستاذ الزائر في «مركز الدراسات الأميركية» في طهران، أن روسيا حقَّقت هدفَيها الاستراتيجيَّين: أي ضمّ الأجزاء الشرقية من أوكرانيا إلى أراضيها، والحيلولة دون انضمام كييف إلى حلف «الناتو». وعن السيناريوات المحتمَلة لمستقبل هذه الحرب، يقول بازركان، في حديث إلى «الأخبار»، إن «السيناريو الأول، يتمثّل في تقدُّم روسيا واستيلائها على المزيد من الأراضي الأوكرانية، وإرغامها الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ والثاني، تمكُّن أوكرانيا المدعومة من الناتو، من دحر القوات الروسية وإجبار موسكو على المجيء إلى طاولة المفاوضات؛ والسيناريوان الآخران يتمثّلان في استيلاء روسيا على كلّ أوكرانيا، أو طرْد روسيا من أوكرانيا بالكامل». على أن الاحتمال الأكثر رجحاناً، وفق الباحث، هو الأول، وذلك بالاستناد إلى معطيات عدّة من بينها مثلاً ما يقوله أستاذ العلوم السياسية الأميركي، جون مرشايمر، من أن نحو 40% من الأراضي الأوكرانية سيتمّ تقسيمها. ويرى بازركان أن محاولات الولايات المتحدة توحيد العالم ضدّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، «باءت بالفشل، وهو ما يدلّ عليه حفظ وتطوير العديد من قوى المنطقة، علاقاتها مع روسيا»، معتبراً أن التغييرات التي طرأت على التكتّلات والاصطفافات، جنباً إلى جنب تراجع الاعتماد على واشنطن، والتحوّل إلى التبادل بالعملات المحلّية بدلاً من الدولار، وتغيير مسارات توفير الطاقة والترانزيت، وإقدام الدول على زيادة موازناتها العسكرية، كلّها تعكس التداعيات العامّة للحرب الأوكرانية على العلاقات الدولية.

حرب استنزاف
في المقابل، يعتقد رئيس «معهد طهران للدراسات الدولية» والمختصّ في الشأن الأوروبي، عابد أكبري، أن أكثر السيناريوات رجحاناً في المستقبل، هو استمرار «حرب الاستنزاف»، موضحاً، في حديث إلى «الأخبار»، أنه «لا توجد أيّ آفاق لبلورة ديبلوماسية ذات وقع، لوضع نهاية للحرب. لا يمكن تخيُّل نهاية لهذه الحرب، فهي استنزافية وستستمرّ. وربّما تشهد تغييرات صعوداً وهبوطاً، وتشتدّ تارةً وتتراخى تارةً أخرى، لكنها ستظلّ جرحاً غائراً ومُتقيّحاً». ويرى أكبري أن «الغرب إنّما يريد من وراء جعل الحرب استنزافية، تقويض روسيا وإضعافها»، مضيفاً أنه «على الرغم من أن أوكرانيا هي الخاسر الأكبر في الحرب، غير أن روسيا تكبّدت هي الأخرى خسائر وأثماناً باهظة، وخسرت منافع كبيرة، أهمّها انكماش نفوذها في المعادلات السياسية الدولية». ووفق أكبري، «استيقظت روسيا من سباتها منذ سنوات عديدة، وأخذت تزيد من نطاق نفوذها يوماً بعد آخر. لكن التكتيك الذي اعتمده الغرب، تَمثّل في جعلها تلهث خلفه، بدلاً من خوض مواجهة مباشرة ووجهاً لوجه معه، وبالتالي إرهاقه، ما يؤدّي في النهاية إلى استنزاف قوّة روسيا ونفوذها».
بالتزامن مع انحسار المكانة الدولية لروسيا، يتّسع نطاق المناورة لدى الصين


إضعاف روسيا
في الاتجاه نفسه، يَعتبر الصحافي الإيراني، جلال خوش جهره، أن روسيا ما بعد الحرب الأوكرانية، ستكون أضعف من ذي قبل. ويقول، في حديثه إلى «الأخبار»، إنه «على الرغم من أن بوتين تصرّف بذكاء تجاه إدراك مخاطر تقدُّم الناتو على المصالح الأمنية الروسية، لكنه تصرّف بسوء تقدير في كيفيّة التعاطي مع هذا التهديد، وظنّ أن الحرب في أوكرانيا ستسير وفق ما سارت عليه الأمور أثناء تجربة ضمّ شبه جزيرة القرم في عام 2014، لكن ومع تشكّل ضربٍ من المقاومة وتأجُّج المشاعر الوطنية في أوكرانيا وباقي الدول، تكون روسيا قد انزلقت في الوحل». ومن بين تداعيات الحرب على روسيا، يعدّد خوش جهره «تزايد عدم ثقة الدول المجاورة لها بها، وتوجيه ضربات اقتصادية لها، ودخولها تحت مظلّة الصين». وإذ يرى أن «استراتيجية الغرب تتمثّل في تحويل روسيا من قوّة عظمى إلى قوّة إقليمية»، فهو يعتقد أن «الصورة التي سنرسمها عن روسيا المستقبلية ما بعد الحرب الأوكرانية، لن تكون على غرار صورة الاتحاد السوفياتي ما بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة ستالين. وفي حالة وضعت الحرب أوزارها، فإنّنا سنواجه روسيا أضعف بكثير ممّا كانت عليه في مستهلّ القرن الحادي والعشرين حتى».

النظام الدولي الجديد
أمّا الكاتب والمختصّ في القضايا الدولية، رحمان قهرمان بور، فيذهب إلى الاعتقاد بأن أيّاً من الأطراف لن يكون المنتصر النهائي، وأن إحدى نتائج هذه الحرب هي تعزيز موقع الصين. ويرى قهرمان بور، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «عدم التوازن الأوّلي في الحرب، والذي كان لمصلحة روسيا، قد تَغيّر، بحيث أن أوكرانيا، وفي ظلّ إرسال الناتو أسلحة متطوّرة إليها، اكتسبت مزيداً من القوّة في الحرب. وفي الوقت الراهن، فإن أيّاً من الطرفَين لا يمتلك تفوّقاً خاصّاً. ومن غير المرجّح تصوّر أن هذه الحرب سيكون فيها منتصر نهائي، لأن مصيرها سيتقرَّر حول طاولة المفاوضات». ويعتقد أن «المنطق الاستراتيجي يتطلّب أن تجلس روسيا في ضوء الحصول على امتيازات في ساحات القتال، إلى طاولة المحادثات على وجه السرعة، وأن تبتعد عن الحلقة المفرغة هذه. كما أن أوكرانيا حريصة على العودة إلى طاولة المحادثات، بيدَ أن الغرب، وعلى وجه التحديد أميركا وبريطانيا، لا ترغبان في الوقت الحاضر في ذلك، لأنهما في صدد تقويض روسيا واستنزافها تدريجيّاً». ويرى المحلّل السياسي الإيراني أن «نتائج الحرب الروسية - الأوكرانية على مستقبل النظام الدولي، تتمثّل في: تصدُّع الهيكلية الأمنية لأوروبا ما بعد الحرب الباردة، وتقارب روسيا والصين، وتعزيز التماسك الداخلي في الناتو جنباً إلى جنب تعزيز انسجام الأنظمة الليبرالية الديموقراطية الغنية، وتحسُّس المجتمع الدولي تجاه قضيّة تايوان، وتصاعُد أهميّة وموقع القوى الصاعدة، بما فيها الهند وجنوب أفريقيا وتركيا والصين». ويخلص إلى القول إنه «بالتزامن مع انحسار المكانة الدولية لروسيا، يتّسع نطاق المناورة لدى الصين، والمثال على ذلك ما نشهده في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج».