ارتبط مسار تركيا الحديثة بتاريخ المؤسّسة العسكرية فيها؛ فالجيش، بقيادة مصطفى كمال، هو الذي حرَّر البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، وهو حرس العلمانية التي اعتمدها «الكماليون». وعُرفت تركيا كذلك، بأنها بلد الانقلابات ومحاولات الانقلاب العسكرية (1960، 1971، 1980، و1997)، وآخرها في عام 2016. وإذا كان من بلد اشتُهر بـ«دولته العميقة»، وعصبها المؤسّسة العسكرية، فهو تركيا. غير أن الأمور اختلفت مع وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في عام 2002، حيث كان همّه الأكبر كيفيّة التخلّص من تحكّم العسكر بالحياة السياسية، حتى إذا كُسرت شوكة هذه المؤسّسة، أمكن له المضيّ في مشروع تديين الدولة وضرب العلمانية في دارها. وبالفعل، تمكّن الحزب من السير بمخطّطاته قُدُماً، عندما أكسبته مشاريعه الإصلاحية في سنوات حُكمه الأولى، ثقة الاتحاد الأوروبي، الذي مضى في منْحه غطاءً سياسيّاً لضرب نفوذ المؤسّسة العسكرية في الدستور والقوانين، عبر استفتاء الثاني عشر من أيلول من عام 2010، والذي يُعدّ محطّة مفصليّة في ترجيح كفّة السلطة المدنية - السياسية، على حساب الشوكة العسكرية. وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في الـخامس عشر من تموز من عام 2016، أَطلق «العدالة والتنمية» أوسع حملة تطهير طاولت المؤسّسة العسكرية، كان من سماتها إلغاء المدارس الحربية المتفرّقة، وإنشاء «جامعة الدفاع الوطني» لتخريج الضباط برقابة كاملة من السلطة السياسية. كما شكّل تعديل القوانين، المدخل الواسع لتقليص صلاحيات رئيس الأركان (الموقع العسكري الأعلى في البلاد) وإخضاعه، هو وسائر القادة العسكريين، لسلطة وزارة الدفاع التي يعيَّن وزيرها من قِبَل رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان. ومنذ ذلك الحين، وتحديداً في عام 2018، لم يَعُد يُسمع باسم رئيس الأركان، بل بات اسم وزير الدفاع هو الشائع. ويتهكّم الكاتب مراد يتكين على ذلك بالقول إن أحداً في تركيا لا يعرف اسم رئيس الأركان، في حين كان هو إمّا صانع الحكومات أو رئيساً للبلاد مع كلّ انقلاب يحصل.
يحاول إردوغان التوفيق بين قوله إن الجيش التركي هو «جيش الرسول»، وبين إبعاد الأخير عن تأثير الجماعات الإسلامية


وفي الأسبوع المنصرم (الخميس 3 آب)، انعقد مجلس الشورى العسكري الأعلى كعادته، في مطلع آب من كلّ عام (ينعقد مرّتَين في العام لكن جلسات آب هي الأهمّ)، وتقرَّر في الاجتماع الذي يضمّ معظم الوزراء والقادة العسكريين، تعيين رئيس جديد للأركان، هو الجنرال متين غوراق، بدلاً من رئيس الأركان السابق، ياشار غولر، الذي عُيِّن وزيراً للدفاع. وأثار هذا التعيين جملة ملاحظات، يمكن تلخيصها في الآتي:
1- في العادة، كان قائد الجيش البرّي هو الموقع الأهمّ بعد رئيس الأركان، ولطالما عُيّن شاغله في هذا المنصب الأخير. لكن قائد الجيش البري، الجنرال موسى آيسيفير، بلغ سنّ التقاعد، فيما أحيل قائد القوات الجوية، آتيللا غولان، على التقاعد. لذا، كان لا بدّ من تعيين قائد الجيش الثاني، متين غوراق، رئيساً جديداً للأركان. وبعد تعيين غولر وزيراً للدفاع في 3 حزيران، وتقاعد آيسيفير، كان يُفترض أن يتمّ تعيين غوراق بدلاً من الأخير، ولو بالوكالة كما جرت العادة، لكن قراراً من إردوغان قضى باعتبار غوراق مناسباً ليكون رئيساً للأركان، متجاوزاً بذلك مراحل التدرّج للوصول إلى المنصب المذكور.
2- يعكس تعيين غوراق رئيساً للأركان رغبة إردوغان في التعاون مع شخصية عسكرية محترفة، ولها خبرة في ميادين القتال، وبعيدة عن التطلّعات السياسية، وهو ما أخذه الرئيس في الحسبان لدى تعيين قيادات قوى الأمن الداخلي.
3- تمّ تعيين الرئيس الثاني للأركان، سلجوق بيرقدار أوغلو، قائداً للقوات البرية، في مؤشّر قوي إلى أنه سيكون رئيساً مقبلاً للأركان، فيما عُيّن الجنرال ضيا جميل قاضي أوغلو، قائداً للقوات الجوية. واستمرّ الأميرال إرجومند طاتلي أوغلو، في منصبه قائداً للقوات البحرية. ووفق الخبير العسكري والاستراتيجي، جوشكون باشبوغ، فإن الثلاثة من ذوي الخبرة الميدانية الكبيرة، ولا سيما قاضي أوغلو الذي له تجربة مميّزة في العمليات في سوريا.
4- يحاول إردوغان التوفيق بين قوله إن الجيش التركي هو «جيش الرسول»، وبين إبعاد الأخير عن تأثير الجماعات الإسلامية؛ وهنا، يقفز إلى الذهن فوراً أن حركة التعيينات تتحكّم فيها الرغبة في ألّا تكون هناك جماعات تحت تأثير جماعة فتح الله غولين، المتّهم بتدبير انقلاب 2016.
5- ترى صحيفة «جمهورييات» أن التعيينات الجديدة تضرب تقاليد قديمة في الجيش التركي، بتجاوزها تدرّج رئيس الأركان، لتقفز بغوراق مباشرة إلى رئاستها. كذلك، لم يَعُد إلزاميّاً أن يبقى قادة القوات المسلّحة في مواقعهم لسنتَين، بل أصبح ممكناً البقاء لثلاث سنوات أو سنة واحدة وانتظار رتبة جديدة من دون وظيفة عملية. كذلك، تمّ إتباع جميع القادة، بمن فيهم رئيس الأركان، لوزارة الدفاع.
6- للمرّة الأولى، يتمّ ترفيع امرأة إلى رتبة أميرال في القوات البحرية، وهي غوكتشين فرات التي كانت تحمل رتبة عقيد.
7- سيرتفع، بسبب التعيينات، عدد الجنرالات والأميرالات في القوات المسلّحة، من 266 إلى 286 شخصاً، اعتباراً من الأول من أيلول المقبل، فيما تعمل الحكومة على ملء الفجوات الكبيرة في الجيش، والتي سبّبها اعتقال عشرات الضباط المتّهمين بالانتماء لجماعة فتح الله غولين.

من هو متين غوراق؟
وُلد رئيس الأركان الجديد، متين غوراق، في عام 1960، ويَعرف اللغتَين العربية والإنكليزية. تخرّج من مدرسة القوات الجوية كما من مدرسة المدفعية والصواريخ، وكان من بين الذين اعتقلهم انقلابيّو 2016، لكن سرعان ما تم تحريره في اليوم التالي. كان غوراق أحد رئيسَي اللجنة العسكرية المشتركة بين تركيا وآذربيجان، وقائداً للعمليات العسكرية التركية في ليبيا، وقائداً للمنطقة الحدودية مع سوريا والعراق وإيران. وفي عام 2020، عُيّن قائداً للجيش الثاني، ومركزه ملاطية؛ وبهذه الصفة، قاد، بالتنسيق مع الاستخبارات التركية، العمليات العسكرية التركية ضدّ «حزب العمال الكردستاني» في سوريا والعراق، وشارك، وفق بعض المصادر، في حرب قره باغ بين آذربيجان وأرمينيا. وتنقل مصادر أخرى أن غوراق «قليل الكلام» ومتفرّغ لعمله الميداني. ووصفت صحيفة «حرييات» القادة الجدد بأنهم «قادة العام المئة» من الجمهورية. وكما تقضي التقاليد، فقد زار أعضاء الشورى العسكرية، قبل انعقاد اجتماعهم، ضريح أتاتورك، رفقة إردوغان الذي أمل في أن يصبح الجيش التركي بالتعيينات الجديدة التي ستصدر، أكثر قوّة.