في تقديمه لمؤلَّف إدوارد لوتواك: «الانقلاب: دليلٌ عملي»، الصادر عام 1969، طرح عالم السياسة والمؤرّخ البريطاني البارز، صمويل إدوارد فاينر، نقداً وجيزاً وهامّاً للرؤية الغربية التي سادت إبّان الحرب الباردة، وفي حقبة الستينيات على وجه الخصوص، للانقلابات، والتي جعلت الأخيرة أسيرة لتصنيفات اليمين واليسار، مستوحيةً ذلك، على ما يبدو، من الانقلابات التي شهدتها أوروبا بالفعل في النصف الأول من القرن الماضي. إلّا أن فاينر لاحظ أن عمل لوتواك تميّز بتجاوز هذه التصنيفات النمطية، بتركيزه على جماعات نخبوية محدودة تستحوذ على السلطة من يد مجموعات أخرى، آخذاً في الاعتبار أن الانقلابات لا تقع بالضرورة ضدّ نظم نيابية فقط، بل ضدّ حائزي السلطة بالعموم، سواءً كانت برلمانية أو ملَكية تقليدية أو نظام حزب واحد أو نظاماً عسكرياً. واستخلص فاينر أن طبيعة الانقلاب مناقضة تماماً لفعل الثورة؛ إذ يمثّل الأوّل «استيلاءً على السلطة من داخل النظام»، وفعلاً سياسياً محايداً، على الأقلّ حتى تكوين الحكومة الانقلابية وظهور اتجاهاتها (يسارية أم يمينية بحسب الأدبيات السائدة وقتها). كما شبّهه بتكنيك رياضة الجودو (السيطرة على الخصم من دون التسبّب بإيذائه)، الذي يعمد إليه قطاعٌ صغير من جهاز الدولة ليتولّى حكم البلاد. انطبق هذا التحليل، الفضفاض للغاية، على الحالة الأفريقية قبل عقود خلت. لكن مع التطوّرات التي تلت موجة التحوّل الديموقراطي في القارة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وفشل دولها في تحقيق استقرار سياسي وتنموي، اكتسبت الانقلابات بعداً ثورياً (سواء كان مُدّعى أم حقيقياً)، بغرض إصلاح تجربة الدولة الوطنية أو اتّباع سياسات خارجية مغايرة أو متوازنة. ومع وضع الانقلابات في أفريقيا في سياقاتها التاريخية، يتكشّف أن هذه الظاهرة لم تكن فعلاً داخلياً صرفاً، بل كانت ذات ارتباطات واضحة - لاحقاً على الأقل - بالقوى الدولية وسياساتها وخياراتها.
الانقلاب وأزمة الاندماج الوطني: الحالة النيجيرية
إلى جانب مكانة نيجيريا التقليدية، باعتبارها كبرى بلدان أفريقيا من حيث عدد السكان ومن أكثرها تأثيراً (ولا سيما في إقليم غرب أفريقيا)، ومثالاً واضحاً لتعقيد السياسة والحكم في القارة، فإنها عُدّت نموذجاً لا يُضاهى تقريباً، سواءً أفريقياً أو عالمياً، لناحية تجارب الانقلابات العسكرية. إذ شهدت نيجيريا تسعة انقلابات في أقلّ من ثلاثة عقود (1966 - 1993)، كما استمرّ استحواذ العسكريين على السلطة حتى بعد 1998 (تاريخ سقوط ما عُرِف بمجلس الحكم المؤقّت بقيادة ساني أباتشا ثم عبد السلام أبو بكر)، بما لا يستثني فترة تقلّد الرئيس السابق، محمد بخاري، رئاسة البلاد ثمانية أعوام (2015 - 2023)، مثّلت حقبة حكم «مدني» ثانية بعد انقلابه العسكري عام 1983، حين حكم البلاد لمدّة عام واحد فقط.
وفي تحليل الانقلاب الأول الذي شهدته نيجيريا عام 1966، تُلاحظ من خلال مؤلَّف ماكس سيولون حول ثقافة الانقلابات العسكرية في هذه الدولة (2009)، غلبة البعد الأيديولوجي والسياسي على ضباط الجيش النيجيري في جنوب البلاد (الذين قادوا الانقلاب المذكور)، مقارنةً بأقرانهم في شمالها، ولا سيما أن هؤلاء الضباط التحقوا بالخدمة بعد إكمال درجاتهم الجامعية الأولى، وتعرّض عدد منهم للأفكار اليسارية التي كانت تجتاح أجزاء كبيرة من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية في ذلك الوقت. وكان لعدد من قادة الانقلاب، من مثل العقيد فيكتور بانجو، القيادي في جيش بيافرا خلال الحرب الأهلية في نيجيريا التي تلت محاولة الانقلاب، صلاتٌ قوية بالمثقفين اليساريين في لاجوس وفي جامعة إيبادان (شمالي البلاد) و«التحالف التقدمي الكبير» (UPGA)، الذي يستلهم جزءاً من أفكاره حالياً، حزبُ «مؤتمر كلّ التقدميين» الحاكم في عهدَي بخاري والرئيس الحالي بولا تينوبو.
على أن تداعيات تلك المحاولة الانقلابية، التي تسبّبت بمفاقمة أزمة الاندماج الوطني المزمنة، وما رافقها من تورّط أطراف دولية، غربية عموماً وفرنسية وإسرائيلية خصوصاً، في دعم جهود قادة الانقلاب للانفصال في إقليم «بيافرا»، مقابل دعم أفريقي نسبي ومن دول اشتراكية لنظام يعقوب جوون في مواجهة المحاولة الانفصالية (1966 - 1967)، كشف عن طبيعة هامة للانقلاب كحالة أفريقية نموذجية، وهي فاعلية الدعم الخارجي، بغض النظر عن ماهيته أو مصدره، فضلاً عن هندسة بعض الانقلابات خارج القارة أو عبر «منصّات استعمارية» داخلها. كما أن الأسس الأيديولوجية للقائمين على الانقلاب تظلّ حاضرة بقوة، رغم التهميش المستمرّ، والملحوظ، لفكرة انطلاق العسكريين من توجّهات وقناعات فكرية موازية، حتى وإن كانت في أحيان أخرى مجرّد غطاء لتمرير الانقلاب «شعبياً».
شهدت القارة الأفريقية، بالتوازي مع سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، موجةَ تحوّل ديموقراطي كاسحة


الانقلابات في مواجهة «التحول الديموقراطي»
شهدت القارة الأفريقية، بالتوازي مع سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، موجةَ تحوّل ديموقراطي كاسحة انطلقت من بنين (1988-1989). إلّا أن هذه الموجة سرعان ما انحسرت بفعل عوامل عدّة على رأسها توحّش الهيمنة الغربية، والذي أفرغ التحوّلات الديموقراطية من أغلب أهدافها، وأعاد إنتاج نظم سلطوية بأدوات «ديموقراطية»، على غرار حالات كثيرة في دول غرب أفريقيا تحديداً. ومن بوابة الغرب أيضاً، عاد حديث الانقلابات في السنوات الأخيرة، في ظلّ أزمات عالمية ألقت بظلال ثقيلة على اقتصادات القارة، من قَبيل تفاقم آثار التغير المناخي، وجائحة «كوفيد - 19»، والأزمة الروسية - الأوكرانية، فضلاً عن تداعيات التنافس الدولي المتصاعد على موارد أفريقيا ومشروطياته (وتوازناته) السياسية التي قلّصت سقف تطلّعات الشعوب الأفريقية إلى التنمية والرفاه الاجتماعي. وللمفارقة، فقد شهدت دول الساحل الأفريقي التي تضربها الانقلابات منذ انقلاب غينيا كوناكري (أيلول 2021)، مروراً بتجربتَي مالي وبوركينا فاسو، وصولاً إلى الانقلاب الحالي في النيجر في تموز الفائت، تجارب «تحول ديموقراطي» (مختزلة في الإعلان عن إجراء انتخابات رئاسية نزيهة) مباشرة قبل وقوع هذه الانقلابات.
إلا أن قراءة دقيقة في دوافع الموجة الحالية وأجنداتها، تكشف مستويات جديدة من الوعي الوطني - الشعبي، قادت إلى فعل الانقلاب العسكري وليس العكس، كما جرت الأمور في العقود الماضية. وعلى سبيل المثال، فإن الانقلابات في غينيا كوناكري ومالي وبوركينا فاسو والنيجر عبّرت بشكل واضح عن سخط شعبي كبير إزاء استمرار الوجود العسكري الفرنسي - الغربي بحجّة مواجهة الإرهاب منذ أكثر من عقد كامل، وتراجع الأحوال المعيشية لسكان هذه الدول مع استنزاف موازناتها لصالح الجهود العسكرية المشتركة، وكذلك استمرار تمكين النخب الحاكمة وتحصينها من المساءلة الشعبية. كلّ ما تَقدّم، قاد إلى ترسيخ مؤسّساتي كامل للفساد ومظاهره، انكشفت بعض مؤشّراته على سبيل المثال في توجيه حكومة مالي منذ نهاية عام 2021، ومن بعدها بوركينا فاسو والنيجر، اتّهامات متكرّرة إلى فرنسا بدعم الإرهاب وعناصره، والتورّط في عمليات نهب غير شرعي للموارد بالتنسيق مع جماعات إرهابية وإجرامية. وهذا ما يضيف بعداً آخر إلى تلك الانقلابات، بوصفها حركةً في مواجهة نفوذ خارجي استغلالي واضح، وهو ما أجاد الانقلابيون تسويقه جيداً، ووجد آذاناً صاغية لدى شعوب الإقليم بالفعل. وعليه، تراجعت الفرضية القائلة إن الانقلابات استهدفت المسارات الديموقراطية المتهافتة في الدول الأفريقية، لصالح السردية المتمحورة حول وضع خطوط مواجهة أيديولوجية - تنموية واضحة، وإن ظلّت هذه الانقلابات في مراحلها الأولى، بحيث لا يمكن القطع بصدق توجهاتها واستدامتها كأداة لإصلاح مسار الدولة الوطنية، وليس إعادة ترتيب أولوياتها لصالح المؤسسة العسكرية والأمنية.

خلاصة
في تحليل مولع بالمقارنة التاريخية، رأى فاينر أن الانقلابات بشكل عام تماثل ما شهدته الإمبراطورية الرومانية في أواخر عهدها من «إفشاءٍ لسرّ الإمبراطورية»، تحدّث عنه المؤرّخ الروماني الشهير يوليوس تاكيتوس، متناولاً انتقال عملية انتقاء الإمبراطور داخل روما إلى مناطق متفرّقة خارجها، في ما يمثّل تناصّاً كاملاً مع وصول العسكريين إلى الحكم من خارج القنوات النيابية المعهودة. لكن الحالة الأفريقية تعيد المسألة برمّتها إلى سياقات بالغة الخصوصية، من حيث طبيعة تكوين النخبة العسكرية (وهي ذات تعليم وتدريب غربيَّين بالأساس)، وكون تحركاتها استجابة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية وليست دافعة إليها، على الأقلّ على مستوى التحليل الظاهري راهناً، وعجز الرؤساء السابقين لتلك الدول عن موازنة ارتباطاتهم الخارجية بتطلّعات شعوبهم على الأقلّ. وعليه، يشي الوضع الحالي بإمكانية وقوع عدد آخر من الانقلابات في القارة كحل «أخير» للأزمات المتلاحقة التي باتت تواجهها أغلب دولها، وهذا لا يعني بالضرورة نجاحاً أكيداً أو مضموناً على المدى البعيد، نظراً إلى طبيعة ديناميات الهيمنة والاستئثار بالسلطة (أو استلابها بالكامل) داخل النخب العسكرية، وطبيعة حواضنها التي لا تعبّر بالضرورة عن مشروع وطني كامل أو فكاك أصيل عن الارتباطات بالقوى الخارجية.