انتهت قمّة قادة جيوش "الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إكواس) في العاصمة الغانية، أكرا، (17-18 الجاري)، إلى الإعلان عن "وضع اللمسات الأخيرة" للتدخّل العسكري الذي تمّ تحديد موعده من دون الإفصاح عنه، وتكرار دعوة المجموعة، قادة الانقلاب في النيجر، إلى الإفراج عن الرئيس المعزول، محمد بازوم، فيما أكّد الانقلابيون، في تحرّك مباغت ومضادّ، جمْعهم "أدلّة دامغة" لمحاكمة بازوم بتهم "ترقى إلى الخيانة العظمى".
تكريس الوضع القائم في النيجر: دلائل ومؤشرات
فيما رصد محلّلون صعوبات "فنية" في نشر "إكواس" قواتها داخل النيجر، وحاجة هذه القوات إلى أسابيع، وربّما أشهر، للتمكّن من بدء عمليّتها المدعومة من قوى غربية، بات واضحاً أن جهود فرنسا وعدد من دول غرب أفريقيا (ولا سيما نيجيريا وغانا) للإسراع في التدخّل العسكري في النيجر، واجهت رفضاً إقليميّاً. وفي الموازاة، تراجع الخطاب القائل بأن انقلاب النيجر جاء في سياق التنافس الأميركي - الروسي التقليدي، لمصلحة خطاب أكثر واقعية، مضمونه أن الأزمة في هذا البلد وغيره من البلدان الأكثر فقراً في القارّة، غذّت الحراك العسكري لتدارُك ما يمكن تداركه "اقتصاديّاً"، في ظلّ تجاهل دولي واضح لتلك المشكلات وحصْرها في "ملفّ مواجهة الإرهاب"، الذي استنزف بدوره موازنات تلك الدول. وكان لافتاً لانتباه المراقبين، تجدُّد حدّة الأنشطة الإرهابية في الإقليم (ولا سيما في شمال مالي)، في موازاة تراجع تهديدات التدخّل في النيجر مرحليّاً، في ما عدّه البعض دليلاً عمليّاً ودامغاً على ارتباطات فرنسا التقليدية بتلك الجماعات.
وفي خضمّ التقلّبات الديبلوماسية والأمنية الجارية في الإقليم، شكّلت خطوات قائد الانقلاب، تشياني، الأخيرة في إدارة شؤون البلاد، ومنها تعيين علي زين رئيساً للوزراء، وإفساح المجال أمام الوساطة وإطلاق مفاوضات تمهيدية مع دول جوار النيجر، إشارةً واضحة إلى استحاله عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وإلى أن "المجلس الوطني لتأمين الوطن" (المنبثق من "المجلس العسكري الانتقالي") سيضطلع بأدوار أخرى ترسّخ عمليّاً نهايةَ نظام بازوم، وتبتدئ عهداً جديداً في علاقات النيجر مع الخارج، من دون أن تكون "تصادمية" بالضرورة. وفي هذا الإطار تحديداً، أرجعت تقارير واردة (منتصف آب) عن شركات فرنسية عاملة في النيجر (وأبرزها شركة "أورانو" المملوكة للدولة - "أريفا" سابقًا) التأخّر "الراهن" في إرسال شحنات اليورانيوم عبر بنين (ومنها بحراً إلى فرنسا) إلى مجمل الأوضاع في النيجر، وليس إلى تأثّر عمليّاتها في مواقع التعدين، متوقّعةً عدم إقدام حكومة النيجر على وقف هذه الإمدادات، علماً أن فرنسا نقلت بالفعل إمدادات من اليورانيوم تكفيها حتى نهاية عام 2025. إضافة إلى ذلك، يبدو أن ثمّة مداولات (أو مفاتحات) قد جرت بين نيامي وعدد من "الدول المعنية بخطّ أنابيب الطاقة من نيجيريا إلى أوروبا عبر النيجر والجزائر - ليبيا" في شأن الخطط المستقبلية لهذا الخطّ ضمن تسويات شاملة تتضمّن "قبول سلطة الانقلاب".

الحسابات النيجيرية: من المواجهة إلى الاحتواء؟
تجنح واشنطن، ومن خلفها عواصم غربية أخرى أبرزها روما، إلى مقاربة التهدئة مع "المجلس العسكري الانتقالي" في نيامي، من أجل ضمان استمرار تعاونها الأمني في ملفّات "مكافحة الإرهاب" ومنْع الهجرة غير الشرعية وعمليات الجريمة المنظّمة، ولا سيما من النيجر عبر ليبيا إلى البحر المتوسط، وضمان موازنة علاقات نيامي الخارجية وعدم ارتمائها في "محور روسيا - الصين".
وعلى النقيض من هذا المسار، بدت الحسابات النيجيرية إزاء ما يجري في النيجر، قائمة على استغلال الجهود الإقليمية والدولية الساعية إلى مواجهة الأزمة، لتعظيم أبوجا مكاسبها، كما اتّضح منذ زيارة وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، إليها، مطلع الشهر الجاري، وإعلانه حزم مساعدات جديدة لتعزيز قدرة هذا البلد على الصمود في مواجهة تداعيات التغيّر المُناخي. كذلك، حصلت أبوجا على وعود بتلقّي قواتها تدريباً عسكرياً مستقبلاً مع بريطانيا والولايات المتحدة لتعزيز قدرات جيشها. وكانت الردود الشعبية والتعليقات السياسية النيجيرية على السياسة التي يتبعها الرئيس بولا تينوبو، في النيجر، كاشفة إلى حدّ كبير عن سخط عام إزاء ما اعتُبر "لعب أبوجا دور الذراع العسكرية لواشنطن وباريس في غرب أفريقيا".
تجنح واشنطن، ومن خلفها عواصم غربية أخرى أبرزها روما، إلى مقاربة التهدئة مع «المجلس العسكري الانتقالي» في نيامي


وعلى الرغم من إشارات تراجع التدخّل العسكري قبل اجتماع قادة جيوش "إكواس" الأخير، وإعادة إرسال أبوجا وفداً للوساطة إلى نيامي، والإشارات الإيجابية التي صرّح بها تشياني تجاه مقبولية نظامه "للوساطة النيجيرية"، فإن السلوك النيجيري يظلّ بشكل عام مرهوناً (سلباً أم إيجاباً) بالاتفاق على ضمانات لحماية المصالح النيجيرية في النيجر، وعدم تهديد ما سبق الاتفاق عليه مع الرئيس المعزول بازوم، وهو خيار يبدو ملائماً لنيامي في الفترة المقبلة.

الموقف الدولي والإقليمي: ترقب وانتظار!
كشفت تعليقات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلال محادثات هاتفية مع الرئيس المالي المؤقت، عاصمي غويتا (15 الجاري)، تركّزت حول الأزمة في النيجر وضرورة تسويتها وفق مقاربة سلمية واستبعاد خيارات التدخّل العسكري، عن اقتراب روسي أوضح من هذه الأزمة، وسط اتهامات غربية غير رسمية بتورّط موسكو في الانقلاب. وكان لافتاً عقد المحادثات الهاتفية المذكورة، بناءً على طلب مالي، في إطار تطلّع الأخيرة إلى دور روسي أكبر في إقليم الساحل لموازنة التدخّل الغربي التقليدي. كما أن تعليقات بوتين التقت على نحو كامل مع السياسة الأميركية الفعلية تجاه الأزمة، وترجيح واشنطن حلاً سلمياً للأزمة، على الرغم من المخاوف "الأوروبية"، ولا سيما الفرنسية. وعلى الرغم من مقاربة روسيا القائمة على خيار التهدئة، فإن المخاوف الأميركية تظلّ قائمة من احتمالات تدخّل الأولى في النيجر، ويبدو الترقب الأميركي من انفلات زمام إدارة الأزمة من يدها، وما سيليه من تعمّق للحضور الروسي، واضحاً في إرسالها كاثلين فيتزغيبن، سفيرة جديدة لدى النيجر، بالتزامن مع اختتام قمّة "إكواس".
وعلى الصعيد الإقليمي، بدا موقف "الاتحاد الأفريقي" من أزمة النيجر مرتبكاً؛ إذ بادر رئيس مفوضية الاتحاد، الديبلوماسي التشادي السابق موسى فقي، إلى إعلان دعم منظّمته الكامل لمبادرة "إكواس" بالتدخّل العسكري في النيجر في ضوء القلق البالغ الذي يحدوها "إزاء ظروف احتجاز رئيس دولة النيجر". لكن "مجلس السلم والأمن" التابع للاتحاد، أعلن لاحقاً تحفّظه عن أيّ عمليّة عسكرية قد تقوم بها "إكواس" "خارج مظلّة الاتحاد". على أيّ حال، جاء أداء "الاتحاد الأفريقي" مخيّباً للآمال، وكاشفاً عن عجز مؤسّساتي مزمن في ديناميات عمله، فيما تصاعدت مخاوف دولية من تأثير هذا الأداء الباهت على مناقشة بند شمول المنظّمة القارية في "مجموعة العشرين" G20 (نيودلهي 9-10 أيلول المقبل) كون الاتحاد لم يتدخّل على النحو اللائق في مجمل الأزمات السياسية الداخلية للدول الأعضاء، وكون سياساته اتّسمت بشكل عام بالانتقائية، في ما يعني أنه لن يكون في مقدور المنظّمة تمثيل أفريقيا في المحفل الدولي بالشكل المناسب أو المأمول.