لا تزال تداعيات قيام سلوان موميكا بحرق نسخة من القرآن في استوكهولم تتوالى، وآخر فصولها إعلان الحكومة السويدية، الجمعة، دراستها تعديل قانون النظام العام بما يسمح للشرطة برفض منح تصريح بارتكاب أفعال من مثل حرق المصحف، إذا كان فيها تهديدٌ للأمن القومي. كما كانت السويد أعلنت، قبل ذلك بيوم، رفع حالة التأهّب إلى ثاني أعلى مستوى، كاشفةً أنها أحبطت هجمات على خلفية حوادث تدنيس القرآن التي وقعت على أراضيها. وفي خضمّ هذا كلّه، وثّق مقطع فيديو، جرى تداوله أمس، لحظة قيام ملاكم يرتدي قفازات بتوجيه لكمات إلى وجه موميكا، بينما الأخير يحاول تفادي الضربات وهو في حالة ذعر، وفق ما أظهره المقطع المصوَّر في ضاحية سودرتاليا جنوب العاصمة السويدية. في ما يلي، إضاءة على حياة موميكا، ومحاولة لاستكشاف خلفية الفعل الذي قام به، مثيراً من خلاله غضب ملايين المسلمين في العالم
قد يكون فعلاً لا يفضي إلى تشخيص صحيح، أن نذهب نحو تغليب السيرة الذاتية للأشخاص على المكنونات المجتمعية التي رمت بأحمالها عليهم وفي محيطهم، في فهم سلوك هؤلاء الذين يعنينا منهم هنا مَن يتركون بصمة أو يَخرجون إلى السطوح المجتمعية مخلّفين عليها ندبات في شتّى الاتجاهات. إذ لطالما كان من المتّفق عليه أن السلوك الفردي يأتي نتاجاً لمعادلة ذات حدَّين: أوّلهما، خصوصية الشخصية والتي تعود إلى عوامل عدّة شديدة التعقيد؛ وثانيهما، ما تقذف به المحيطات القريبة والبعيدة والأبعد على الأولى. وبذا، يصبح الحكم على الشخص/ الظاهرة رهين نظرة شمولية تربط في ما بين الحدَّين بطريقة متوازنة، أو هي تجهد للحظ خيوط التشبيك القائمة بينهما، ثمّ كيف تواترت تلك الحالة لترمي بمنتوجات القيعان إلى الشواطئ.
تكاد سنيّ عمر سلوان موميكا الـ37 تكون كلّها إشكالية؛ فالرجل المولود في قضاء الحمدانية في محافظة نينوى قذفت به الأقدار في لجّ مضطرب ما انفكّت أمواجه تتلاطم منذ أن أبصر النور. قبيل ولادته بستّ سنوات، كانت بلاده تخوض «قادسيتها» مع الجارة إيران. وعندما أضحى في عمر السنين الخمس، كانت تلك البلاد قد قرّرت أن تصبح الكويت «ولايتها التاسعة عشرة». وعند تفتّح الوعي في عمر السابعة عشرة، كانت كلّ «الأوهام النهضوية» قد سقطت دفعة واحدة عندما راحت قنوات التلفزة تبثّ مباشرة مشهد دبابة أميركية وهي تشدّ بتمثال صدام حسين القائم وسط ساحة الفردوس في بغداد لتسقطه أرضاً. كان ذلك كلّه ذا حمولات ثقيلة الوطأة على تركيبة شديدة الحساسية ببعديها الفردي والجمعي. شكّلت بلاد الرافدين، جنباً إلى جنب بلاد الشام ووادي النيل، «مفرخة» للحضارات منذ القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وصولاً إلى القرن السابع الميلادي الذي استطاع فيه العرب، عبر «مفرخة» الإسلام، أن يصبحوا مركزاً لقطبية عالمية لم يلبثوا أن أضاعوها سريعاً. وفي قراءة التجربة، يمكن القول، بل والجزم أيضاً، بأن الدور الإيجابي لـ«المفرخة» كثيراً ما كان يَظهر عندما تتناغم المشاريع والأفكار مع التكوين الحضاري الرامي إلى وضعها في قوالب نهضوية، الأمر الذي كان يتمظهر، في حال نجاح التناغم، في صورة عصف حضاري لا يلبث أن يقذف بمنتوجاته ليلعب دور المصدّر الأول لفنون الزراعة والريّ جنباً إلى جنب الموسيقى والعلوم. في المقابل، كانت «المفرخة» تقذف، في حالات عدم التناغم التي تستولد بالضرورة «أجنّة» تعاني خللاً في «شيفرتها الوراثية»، بمنتوجات هي أشبه بـ«مسوخ حضارية» لا تلبث أن تَظهر مفاعيلها كندبات على سطوح النسيجين المجتمعي والثقافي لشعوب المنطقة.
تقول السيرة الذاتية للرجل إنه ذهب، في ما بعد اجتياح «داعش» لمسقط رأسه (نينوى) في تموز 2014، نحو مدّ جسوره في اتّجاه فصيل مسلّح مسيحي اسمه «بابليون»، أسّسه وتزعّمه ريان الكلداني، ثمّ ما لبث أن انشقّ عنه ليؤسّس «كتائب روح الله عيسى بن مريم». كان ذلك تعبيراً عن نزعة عسكرية بدت طاغية في أعماقه، لكنها في الآن ذاته لم تخفِ نزوعاً خجولاً نحو السياسة، الصفة التي تشير عادة إلى شخصية تختزن قسطاً من المرونة، تعبيراً عن امتلاكها ميزة محاكمة الوقائع. ظهر هذا بوضوح عندما قام موميكا بتأسيس حزب «الاتحاد السرياني» الذي مكث فيه ما بين عامَي 2014 و2018. وعندما عمّت تظاهرات الاحتجاج أرض العراق عام 2019، كان من المشاركين فيها، في مؤشّر إلى تنامي النزوع الخجول آنف الذكر، ليقرّر بعدها الهجرة إلى السويد التي وجد في ملاعبها حيّزاً لم يره في ملاعب البلاد. لكن ثمّة خللاً بدا واضحاً لديه في رسم خطّه البياني، الذي استند إلى تواتر لا يعرف سوى الصعود، ليكشف عن ذات ترى في التصعيد ملاذاً نفسياً وحيداً، هو، فقط، القادر على إرضاء مكنوناتها الدفينة التي تختزن إرثاً حضارياً لا يزال يشكّل مشروعية وازنة لقيام مشاريع نهوض في ما لو توافرت شروط «التفريخ» الذاتية والموضوعية على حدّ سواء.
غالباً ما يكون التطرف، عند الأحزاب والتيارات والأفراد، تعبيراً عن اختلال ثلاثية «الماضي، الحاضر، والمستقبل»


سيشهد يوم 28 حزيران المنصرم محطّة فارقة في حياة الرجل، عندما سيظهر في شريط مصوَّر وهو يدوس نسخة من المصحف، قبل أن يدسّ فيه قطعة من لحم الخنزير ثمّ يقوم بحرق بضع صفحات منه أمام المسجد الأكبر لمدينة استوكهولم، في اليوم الأول من عيد الأضحى. وبعدها بأيام، سيعود موميكا إلى تكرار فعلته في مشهد بدا معه وكأن الرجل قرّر أن يعلن قطيعته مع الإرث والتراث، اللذين يشكّل الإسلام فيهما المخزون الأهمّ لشعوب منطقته بنسختَيها المحمدية والمسيحية. ولوهلة، بدا أن حالة «الاحتياج» قد تكون الدافع الأهمّ وراء ذلك السلوك، بمعنى أن سلوان كان يبحث من وراء هذا الأخير عن تصحيح وضع إقامته المؤقّتة التي شارفت على الانتهاء، الأمر الذي دفعه إلى تقديم «عربون وداد» لحزبه، «ديمقراطيو السويد»، الذي انتمى إليه بعد عام من إقامته في السويد، والذي لا تخفي أدبيّاته العداوة تجاه المهاجرين. لكن التبرير هنا يبدو ساذجاً إذا ما اقتصر على السياقات السابقة؛ فإذا ما أصبح حرق المصحف «عرفاً» يخوّل الأفراد تمديد إقامتهم في «الجنان» الغربية، فذاك، من دون شكّ، سيشير إلى عطب في «الجنان» هو أكبر، بما لا يقاس، من نظيره عند مَن يقدّمون أوراق اعتمادهم لدخولها أو تمديد إقامتهم فيها.
لم يكن موميكا سبّاقاً في فعلته على أرض السويد؛ فقد سبقه إليها ثلاثة آخرون، لكن «الفعلة» معه بدت مختلفة جذرياً، قياساً إلى كون القائم بها قادماً من الشرق الملتهب الذي لم يكن ينقصه المزيد، لكي تكتمل الصورة التي ترسمها أحداثه وتفاعلاته ككتلة حضارية اختلّ فيها ترتيب أرقام الشيفرة، حتى بات لزاماً على الفعل أن يتمظهر بكلّ هذه المظاهر. وبذا، يلحق موميكا بركب «مدرسة ابن لادن»، التي وإنْ اختلفت مناهجها، إلّا أن كليهما تعبير عن كلّ هذا الخذلان والتردّد والانكسار الذي تعيشه شعوب الشرق، والتي باتت حمولاتها، المطبِقة عليها، أكبر ممّا تحتمله ذات جمعية ما انفكّت تبدي تململها تجاه كلّ تلك الحمولات المعيقة لمخزون النهوض الحضاري الذي تكتنزه على شريط الـ«DNA» الخاص بها.
غالباً ما يكون التطرف، عند الأحزاب والتيارات والأفراد، تعبيراً عن اختلال ثلاثية «الماضي، الحاضر، والمستقبل»، والتي تقي، في حال توازن مكوّناتها، من الوصول إلى التطرف الذي تختلف درجاته تبعاً لدرجة الاختلال. وفي هذه الحالة، تَبرز، هنا وهناك، «حاضنات» تصبح مسؤولة عن إنتاج أفراد وتيارات قادرة على أن تسوس مجتمعاتها حبواً نحو مطارح النهوض، إذا ما توافرت لها شروطها الذاتية والموضوعية على حدّ سواء. السؤال الآن: من يوقف «الحاضنات» المعاكسة، التي أنتجت أمثال أسامة بن لادن وأبي بكر البغدادي وصولاً إلى سلوان موميكا، عبر تهيئة مناخات تقود إلى إعادة ضبط شروط الإنتاج، لكي لا تولّد مسوخاً تدفع بكلّ هذا الشرق إلى الانهيار؟