تُعدّ جزيرة قبرص إحدى أكثر المناطق احتمالاً لإثارة النزاعات والحروب، منذ أن تحوّلت إلى «جمهورية» في عام 1960، في أعقاب تخلّي بريطانيا عن ملكيّتها، وإنْ أبقت على قواعد عسكرية تابعة لها في البلد المتوسطي. غير أن التنوّع الإثني والديني داخل الجمهورية، بين ثلثَين للقبارصة اليونانيين المسيحيين، وثلث للقبارصة الأتراك المسلمين، حال دون أن يحظى المجتمعان اليوناني والتركي فيها بنظام تعايش مشترك أو فدرالي، لينتهي الحال، في عام 1974، إلى تقسيم الجزيرة، وإقامة جمهورية شمال قبرص التركية في عام 1983 (لا تعترف بها سوى أنقرة)، بحكم الغزو التركي، الذي تعدّه الأمم المتحدة احتلالاً، فيما تعترف بالقسم الجنوبي اليوناني ممثِّلاً وحيداً للشعب القبرصي.وتعود القضيّة القبرصية إلى الواجهة مجدّداً، مع اندلاع أحداث مثيرة للانتباه، أواخر الأسبوع الماضي، في المنطقة العازلة بين شطرَي الجزيرة، خلفيّتها استكمال الجانب القبرصي التركي شقّ طريق من قرية يغيتلر في اتّجاه قرية بيله (يعيش فيها القبارصة اليونانيون والأتراك جنباً إلى جنب) الواقعة ضمن «الخطّ الأخضر» التابع للقوات الأممية، التي تدخّلت لوقف أعمال التشييد، ما أدّى إلى وقوع صدامات بين الطرفَين. صداماتٌ عادت لتتجدّد أوّل من أمس، حيث جرى تداول مقطع مصوّر يوثّق مهاجمة عمّال قبارصة أتراك، عناصر من القوة البريطانية العاملة ضمن القوات الأممية، كانوا على استكمال أعمال الشقّ في منطقة تَعتبرها المنظمة الدولية خاضغة لسيطرتها. وكانت استدعت الاشتباكات ردود فعلٍ إقليمية ودولية؛ أوّلها من الأمم المتحدة التي حذّرت السلطات القبرصية التركية من القيام بأعمال بناء «غير مرخّص» بها في المنطقة العازلة، فيما انتقد مجلس الأمن الدولي، مطلع الأسبوع، تصرُّف سلطات الشطر الشمالي، معتبراً محاولتها شقّ طريق في المنطقة العازلة «انتهاكاً للوضع القائم».
في المقابل، تفيد رواية القبارصة الأتراك بأن الطريق المَنْوي تشييدها مخصّصة لـ«أغراض إنسانية»، مردّها أن سكان قرية بيله، لدى محاولتهم العبور إلى موطنهم، يقضون ساعات مضنية، مروراً أولاً بأراضي القاعدة البريطانية، حيث تنتشر نقاط التفتيش، قبل الوصول إلى نقطة التفتيش القبرصية التركية. إلّا أن القبارصة اليونانيين يرَون أن الأتراك يريدون وصْل بيله بقاعدة عسكرية تابعة للجيش التركي في يغيتلر، علماً أن سكان قبرص التركية يؤكدون أن جيرانهم طالبوا بشقّ طريق مماثلة في القرية نفسها إلى القسم اليوناني، وأن الأمم المتحدة سمحت بذلك. والطريق المراد شقّها من قرية يغيتلر التركية، إلى بيله الواقعة داخل المنطقة العازلة، يبلغ طولها 11 كيلومتراً، وقد بدأ تشييدها منذ سنة، حتى إن الجزء الواقع ضمن السيادة التركية، والبالغ طوله 7 كيلومترات، شارف على الانتهاء.
وفي ضوء الأحداث الأخيرة، علّق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، قائلاً إن «الذي حدث وضعٌ لا يمكن قبوله من جانبنا، وخصوصاً أنه حصل في منطقة تابعة لسيادة قبرص التركية»، واصفاً الحادثة بأنها تنمّ عن «سوء نية» من جانب الأمم المتحدة، فيما رأى الرئيس القبرصي التركي، إرسين تتار، أن القوات الدولية «هي التي جاءت إلى أرضنا وانتهكت سيادتنا». وفيما اعتبرت الأمم المتحدة أن الخطوة القبرصية التركية تمثّل «اعتداء» عليها، رحّب مجلس الأمن، في بيان، بوقف أعمال شقّ الطريق (التي عادت لتُستأنف كما اتّضح لاحقاً)، داعياً جميع الأطراف إلى «تجنّب أيّ عمل آخر أحادي الجانب أو تصعيدي، من شأنه أن يزيد التوتّرات ويهدّد فرص التوصّل إلى اتفاق»، لتردّ الخارجية التركية، بالقول إن البيان السالف «منفصل تماماً عن الحقائق على الأرض»، و«لا يقدّم أي مساهمة إيجابية»، بل «يُعقد الأمور». وأكدت أن طريق بيله - يغيتلر «مشروع إنساني» يهدف إلى تسهيل وصول القبارصة الأتراك القاطنين في قرية بيله بشكل مباشر إلى موطنهم، معتبرةً أنه، على رغم أن الإخطار في شأن أعمال الطريق تمّ قبل فترة طويلة، فإن «تدخُّل جنود قوّة حفظ السلام الأممية لعرقلة أعمال تشييد الطريق تسبّب في التوتّر»، فيما رأى وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، أن الأمم المتحدة فقدت حيادها. ومن شأن الأحداث الأخيرة، وفق مراقبين، أن تلقي بظلالها على المحادثات الجارية للتوصّل إلى حلّ بين شطرَي الجزيرة، كما أنها قد تنعكس سلباً على التحسُّن في العلاقات بين تركيا واليونان.
ثمّة مَن يضع الحادثة في خانة الصراع الإقليمي والدولي بين روسيا وتركيا من جهة، والغرب من جهة أخرى


وإذ أثارت الحادثة انتقادات مختلف القوى التركية التي تنظر إلى قبرص التركية باعتبارها جزءاً من «الوطن الأمّ»، كان لافتاً أن زعيم «حزب الحركة القومية»، دولت باهتشلي، انتعل جزمة عسكرية، مبدياً استعداداً للقتال دفاعاً عن «الوطن الصغير». ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة أنقرة، إيميتي غوزوغوزيللي، إنه «على رغم كلّ المضايقات منذ عام 1974، حافظت قرية بيله على وجودها التركي - الإسلامي، وبقي أهلها فيها. وعلى رغم كلّ المراجعات منذ ذلك الوقت، لشقّ طريق لأسباب إنسانية، رفضت الأمم المتحدة الطلب»، مضيفاً إن «القبارصة الأتراك رفضوا أن يستمرّ سكان بيله بالعيش كما لو أنهم في غيتو». وبدأت المسألة، بحسب الباحث، منذ أن حاولت تركيا، في عام 2019، فتح مدينة مراش جزئيّاً أمام الناس والحركة والعمل وإظهار سيادة جمهورية شمال قبرص على أراضيها.
في مقابل ذلك، كانت الحادثة توضع، في نظر العديد من المحلّلين، في خانة الصراع الإقليمي والدولي بين روسيا وتركيا من جهة، والغرب من جهة أخرى. فموسكو أعلنت، في التاسع من آب الجاري، اعتزامها فتح مكتب للخدمات القنصلية في ليفكوشا (نيقوسيا)، في خطوةٍ أشاد بها الرئيس القبرصي التركي، على رغم قوله إن افتتاح المكتب لا يعني الاعتراف بالشطر الشمالي. والمكتب ليس الأول لدولة أجنبية لا تعترف بقبرص التركية، حيث للولايات المتحدة وبريطانيا مكاتب مماثلة في الشطر التركي، لكن الخطوة الروسية اعتُبرت مفاجئة في خضمّ المواجهة بينها وبين الغرب، الذي بات يدعم بصورة متزايدة جمهورية قبرص (اليونانية)، كما اليونان، على الصعد كافة، ولا سيما العسكرية. وإذ قيل إن روسيا تسعى من وراء خطوتها إلى توجيه رسالة إلى الأتراك مفادها بأنها حريصة على علاقات جيّدة معهم، فإن مصادر تركية تشير إلى أن قبرص اليونانية نشطت، في الآونة الأخيرة، في شراء أسلحة روسية أو قطع غيار عسكرية لأسلحة روسية وبيعها إلى أوكرانيا التي لم تَعتَد بعد على الأسلحة الغربية. وأثار سلوك نيقوسيا غضب موسكو التي ردّت بفتح مكتب خدمات قنصلية تابع لها في الجانب التركي، علماً أن روسيا ضاعفت استثماراتها في قبرص الجنوبية، اعتباراً من عام 2015، ولكن التعاون الثنائي تلقّى ضربةً قوية مع بدء الحرب الأوكرانية، تمثّلت في انحياز نيقوسيا الكامل إلى جانب كييف، ومنْعها خمس سفن حربية روسية من استخدام موانئها، كما إغلاقها مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية بحجّة تطبيق العقوبات ضدّها.
وفي هذا الإطار، يقول عصمت أوزتشيليك، في صحيفة «آيدينلق»، إن «وصيّة أتاتورك هي الصداقة مع الاتحاد السوفياتي. وتركيا لم تدخل الأطلسي إلّا بناءً على رغبة الولايات المتحدة، فخلقت العداوة مع روسيا. في السنوات القليلة الماضية، عادت تركيا إلى سياسة التوازن وإرساء علاقات جيّدة مع الروس. لكن، أُريد من جديد لتركيا أن تصطدم بروسيا، بدليل الأحداث التي وقعت أخيراً في قبرص»، إذ يرى الكاتب أن «رفع قضيّة بيله إلى مجلس الأمن، كان هدفه نصب فخّ لروسيا» التي «تدخّلت لمنع صدور بيان معادٍ لتركيا»، لافتاً إلى أن قبرص اليونانية اتّهمت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعرقلة إصدار البيان الذي أعدّته بريطانيا وأيّدته الولايات المتحدة وفرنسا. ويخلص إلى أن «الحادثة أكدت مرّة أخرى أن روسيا صديق لتركيا. حتى دولت باهتشلي اتّهم الولايات المتحدة بأنها وراء كلّ رصاصة تُوجّه إلى تركيا». وفي الإطار نفسه، يرى الباحث المعروف منصور آق غون، في صحيفة «قرار»، أن أحداث بيله «أظهرت أهميّة موضوع سيادة قبرص التركية على أراضيها»، وأن «اشتراط تركيا حلّ الدولتَين قبل أيّ حوار غير ممكن، فيما المشكلات العالقة بين الشطرَين لا يمكن أن تبقى مجمّدة إلى ما لا نهاية، كما لا يمكن أن تبقى مراش بلا سكان ولا بيله معزولة عن الوطن الأمّ». ووفق آق غون، «يتوجّب البحث في طرق جديدة لإدارة ملفّ قبرص حتى لا يتحوّل إلى نزاع أشمل بين تركيا واليونان. الأمل هو في الجهود التي يبذلها إردوغان ورئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، في هذا الصدد لتكون بيله شرارة الحلّ لا الانفجار».