عبر متابعة الأحداث التي كانت تدور في السنوات الأخيرة في الغابون، الدولة الحليفة للولايات المتحدة، «وحارسة» نفوذ فرنسا في القارة الأفريقية، يمكن بوضوح تتبّع سَيْر «سلالة بونغو» نحو «حتفها»، إذ إن محاولة الانقلاب هذه ليست الأولى، خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، في بلد ينعم حكامه، بالتآمر مع مستعمريه السابقين، بالثروات والرفاهية، على حساب شعبه. ففي كانون الثاني من عام 2019، أَحبطت الغابون محاولة انقلاب أسفرت عن مقتل اثنين من «المتآمرين» المشتبه فيهم، وأسر سبعة آخرين، بعد ساعات فقط من سيطرتهم على الإذاعة الحكومية، في محاولة لإنهاء 50 عاماً من حكم أسرة بونغو، علماً أنّ آخر انقلاب شهدته البلاد قبل ذلك كان في أواخر الستينيات.وفي سيناريو بات مألوفاً في القارة الأفريقية، لم يفلح الدعم الغربي، ولا سيما ذاك القادم من الأميركيين والفرنسيين، في الحفاظ على استقرار الغابون، التي شهدت، أمس، عملية انقلاب شنّها عسكريون ضدّ الرئيس المنتخب حديثاً، علي بونغو، الذي سرعان ما وُضع قيد الإقامة الجبرية. انقلابٌ يبدو أنّ مؤشرات كثيرة كانت تُنذر بقدومه خلال السنوات الماضية، بعد استقرار «غير معهود» في بلدان أخرى في القارة الأفريقية، كان مدفوعاً، بشكل رئيس، بدعم فرنسي لحُكم «سلالة بونغو» لعقود، وتقرّب البلاد المستمرّ من الولايات المتّحدة، ما جعلها الحليف الرئيس للأخيرة في القارة.

«رجل» الغرب
قبل تولّي ابنه الحكم، ضمن الرئيس الأسبق للبلاد، عمر بونغو، أن تظلّ الغابون «بقعةً للاستعمار الجديد»، على حدّ وصف عالم الأنثروبولوجيا، مايكل ريد، في عام 1987، في وقت يؤكد فيه تاريخ الحكم المدعوم من فرنسا في البلد الأفريقي، والبعيد كلّ البعد عمّا يسمّيه الغرب بـ«القيم الديموقراطية»، وجهة النظر هذه. في الواقع، عرفت الغابون، منذ استقلالها عن فرنسا، في عام 1960، ثلاثة رؤساء فقط، هم: ليون إمبا الذي حكم من الاستقلال ولغاية عام 1967، قبل أن يتولّى عمر بونغو، السلطة بعد وفاته. والأخير عُرف بحكم البلاد بقبضة حديدية، على مدى 42 عاماً. وتفيد بعض المعلومات بأنّه، وبهدف الحفاظ على السلطة، أشرف على تغييرات في النظام الانتخابي الناشئ، «ضمنت ألّا يصبح مستقلّاً أو حرّاً أو عادلاً». وخلال فترة حكمه أيضاً، ساعد بونغو الأب في إبقاء النفوذ السياسي الفرنسي والقوّة العسكرية الفرنسية «على قيد الحياة»، من خلال توقيع العديد من معاهدات الدفاع المشترك مع فرنسا، في إطار ما يُعرف بسياسات «فرنسا-الأفريقية» (Françafrique)، وهو مصطلح يدلّ على علاقة فرنسا «الخاصة» بمستعمراتها السابقة، فيما يصنّفه البعض على أنّه استراتيجية تقضي بـ«دعم الطغاة الذين يحمون مصالح باريس الاقتصادية في القارة».
وبعد وفاة والده وتولّيه السلطة عام 2009، حرص علي بونغو أونديمبا، على الحفاظ على ولاء بلاده لفرنسا، معزّزاً أيضاً علاقاتها مع واشنطن، ولا سيما في عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما، ما جعل البعض يلقّبه بـ«رجل أوباما». ووفق ما أوردت مجلّة «فورين أفيرز» الأميركية، فإنه في السنوات التي تلت موت عمر بونغو، كانت الغابون تعزّز «بهدوء» دورها كحليف دبلوماسي «سلس» للولايات المتحدة في منطقة يهزّها عدم الاستقرار، فيما بلغت هذه العلاقة أوجها في عهد أوباما، عندما تولّت الغابون دوراً مؤقّتاً في مجلس الأمن بين عامَي 2010 و2011. آنذاك، كانت إدارة أوباما في حاجة ماسّة إلى إقناع أكبر عدد من أعضاء مجلس الأمن بالموافقة على التدخّل في ليبيا لإطاحة الرئيس معمر القذافي، وهو ما تجاوبت معه حكومة بونغو إلى حدّ كبير، فوافقت على قرار بفرض عقوبات على القذافي، ومنطقة حظر طيران فوق الأجواء الليبية. كذلك، تنقل المجلّة الأميركية عن إريك بنجامنسون، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الغابون بين عامَي 2010 و2013، قوله إنّ إدارة بونغو كانت تعطي أوباما «كمية ملحوظة» من المعلومات حول المحادثات التي كانت تجريها مع قادة أفارقة آخرين وراء الكواليس، حتى لو لم يكن البيت الأبيض ينظّم أو يقود تلك الجهود الدبلوماسية، وتستشير واشنطن لمعرفة ما إذا كانت قراراتها «تتلاءم» مع خطط الأعضاء الغربيين في مجلس الأمن، «وتعدّلها» بناءً على ذلك.
في الإطار نفسه، يؤكد مراقبون أنّ زعم علي بونغو، لدى سؤاله عمّا إذا كان الوقت قد حان لتتنحّى سلالته عن السلطة، أنّه سيحدث «تغييراً» في نظام الحُكم، وأنّه سيتحدّى «كبار السن» الذين كانوا يتولّون مسؤولية البلاد في عهد والده، «لم يكن مقنعاً» تماماً، إلّا أنه كان «من مصلحة واشنطن إلى حدّ كبير» أن يبقى في السلطة.
عجزت القوى الغربية مجدّداً عن توقُّع الأحداث القادمة في الغابون


تشابك في المصالح
على رغم إصابته بجلطة دماغية في عام 2018، وانتشار أنباء عن عدم قدرته على متابعة الحكم، وحالة الضعف التي كانت تبدو عليه في إطلالاته التلفزيونية، ثمّ محاولة الانقلاب عليه في السنة التالية، أصرّ الرئيس البالغ من العمر 60 عاماً على البقاء في السلطة. والأمر ليس بمستغرب؛ فهو لم يكن ليتخلّى عن مثل هذا الموقع «المربح»، في بلد تتعامل فيه العائلة الحاكمة مع خزينة الدولة كما لو أنّها «حساب مصرفي خاص بها»، على حدّ توصيف موقع «كوارتز» الإخباري الأميركي. ويؤكد أن تشابك المصالح الكبير بين فرنسا والغابون، «والنظام المشبوه» المكوّن من الشبكات السياسية والتجارية غير الرسمية، والذي يكرّس المحسوبية والربح غير المشروع والفساد، ويميّز الشركات والسياسيين الفرنسيين المتعدّدي الجنسيات، تحت شعار (فرنسا-الأفريقية)، «انفضح» في أعقاب انقسام وقع بين أفراد الأسرة الحاكمة، التي كادت «تتمزّق» بسبب خلاف على الثروة التي خلّفها بونغو الأب. وقُدّرت «الورثة» التي يتصارع عليها أفراد العائلة بنحو «مئات الملايين من الدولارات من الأصول، على شكل حسابات مصرفية سرية في موناكو وأماكن أخرى»، فيما من المرجّح أن العائلة تمتلك أيضاً «عشرات الفلل الفاخرة والقصور في باريس ولندن وحول العالم، بالإضافة إلى الطائرات والقوارب والقطع الفنية، والحصص الضخمة في الصناعات الرئيسة في الغابون»، علماً أنّه فيما كانت العائلة تبحث توزيع الغنائم، في عام 2015، أي بعد سنوات من وفاة عمر بونغو، كان ثلث السكان، البالغ عددهم 1.6 مليون نسمة، يعيشون تحت خط الفقر. وشغل هذا الخلاف ودور فرنسا في القارة الإعلام الفرنسي في تلك الفترة إلى حد كبير، وتحديداً صحيفة «ميديا بارت» الاستقصائية، التي نشرت مقالات عدّة حول هذا الملف، عُرفت بسلسلة «بونغو ليكس». وفي عدد من هذه التقارير، تستعرض الصحيفة أدلّة على صلة بشركة «دلتا سينيرجي» (Delta Synergie) التي تقبض العائلة الحاكمة عليها، «كشفت عن حجم من النهب لا مثيل له على الأرجح، في العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة». يشبّه موقع «كوارتز»، الشركة، بـ«صندوق باندورا» اليوناني، بصفتها لم توفّر قطاعاً واحداً في اقتصاد البلاد، من التأمين والبنوك والزراعة والأمن والنقل والأدوية والسلع والبناء والطيران والمنسوجات، إلى وسائل الإعلام ومبيعات الغاز والبنزين والخشب. وبحسب الوثائق التي نشرتها صحيفة «ميديا بارت»، فإنّ ما لا يقلّ عن أربع شركات فرنسية متعدّدة الجنسيات موجودة في الغابون، على غرار «بولير» «وبويغيز» «وإيراميت»، - والأخيرة أعلنت تعليق أعمالها في البلاد فوراً في أعقاب الانقلاب -، «وبي إن بي باريبا» هي على صلة بـ«دلتا سينيرجي»، التي يستحوذ عدد قليل من أفراد الأسرة على غالبية حصصها. كما أشارت تقارير أخرى إلى الدور الرئيس الذي أدّته شركة النفط الفرنسية العملاقة «توتال» في الاقتصاد الغابوني. بالإضافة إلى ذلك، يتابع «كوارتز» أنّه وعلى رغم أن الرؤساء الفرنسيين السابقين، بمن فيهم جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، ينفون ذلك، إلّا أنّ هناك مزاعم تفيد بأنهم استفادوا من ملايين الدولارات في حملات انتخابية غير قانونية، من شخصيات مثل عمر وعلي بونغو، في حين يتمتّع كبار المواطنين الفرنسيين بمنافع متزايدة في الدول الاستعمارية السابقة.
ويبقى لافتاً أن القوى الغربية عجزت مجدّداً عن توقُّع الأحداث القادمة في الغابون، علماً أن الرأي العام، في الأعوام المنصرمة، كان يعبّر عن عدم رضًى متزايد هناك، ما جعل بعض المراقبين يحذّرون من أنّ نظام بونغو بات يقف «على ساق واحدة». وتتزامن هذه المعطيات مع «فترة تاريخية» تشهدها القارة، حيث «تنبذ» دولها، واحدة بعد أخرى، سنوات من الاستعمار والفساد والإهمال، جرى خلالها استغلال مواردها ونهبها بشكل ممنهج.