من خلال مشاركته في عرض «شبه عسكري» وعدد محدود من الفعاليات برفقة ابنته، أحيا الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، أول من أمس، الذكرى الـ 75 لتأسيس البلاد، في «ميدان كيم إيل سونغ» في العاصمة بيونغ يانغ. ولعلّ أكثر ما ميّز هذه الذكرى، تزامنها مع بدء كوريا الشمالية، التي أغلقت حدودها على مدى ثلاث سنوات، وأوقفت تقريباً جميع التبادلات عبرها، للوقاية من وباء «كوفيد»، إعادة فتح حدودها جزئياً. على أن المراقبين الغربيين لم يستسيغوا الخطوة، خشية انتعاش العلاقات بين كوريا وحليفتَيها الروسية والصينية، ما من شأنه أن يسمح لها بالاستمرار بالصمود في مواجهة الحصار المفروض عليها، وانتعاش اقتصادها الذي أنهتكه سنوات الإغلاق. ويمكن فهم المخاوف الغربية بالنظر إلى الحضور اللافت لمسؤولي البلدَين في الاحتفال، وتلقّي كيم برقيتَي تهنئة من الرئيسَين: الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، يعدانه فيهما بالمضيّ قُدماً في تطوير العلاقات في مختلف المجالات. وتمهيداً للذكرى، كثّفت بيونغ يانغ، في الأشهر الماضية، من اختباراتها العسكرية، التي شملت صواريخ باليستية، ومحاولة إطلاق قمر اصطناعي للتجسُّس في أيار، ثمّ الكشف، قبيل الاحتفال، عن أول غواصة يمكن استخدامها في إطلاق صواريخ نووية.
«عودة» بيونغ يانغ
أرخت سياسة الإغلاق الصارم تداعيات حادّة على الاقتصاد الكوري، أدّت إلى انكماشه، وخصوصاً بعدما تراجع التبادل التجاري بينها وبين الصين إلى أدنى مستوياته منذ عقود، ليصل إلى 320 مليون دولار في عام 2021، منخفضاً بنسبة 90% عن مستويات ما قبل الوباء، وفق أرقام أوردتها صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية. ومع الاستئناف المحدود لحركة الشحن، العام الماضي، عادت التجارة لترتفع مجدّداً بين البلدَين، وصولاً إلى 1.06 مليار دولار خلال النصف الأول من العام الجاري. ومنذ أيار الماضي، أُعيد تشغيل خدمات القطارات مرتَين في اليوم، كما أعيد فتح بعض المرافق الجمركية في حزيران. كذلك، استعادت التجارة مع روسيا بعضاً من زخمها، وإنْ بمستويات أقلّ من تلك التي تتمّ مع الصين. وفي هذا السياق، أورد تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ»، في تموز الماضي، أنّ سفن الشحن والقطارات المحمّلة بالبضائع التي تصل إلى كوريا الشمالية في الفترة الأخيرة، تؤشّر إلى أنّ «كيم جونغ أون نجح في إيجاد طرق جديدة لملء خزائنه المستنفدة»، وأن هذه الأموال ستمكّنه من تجاهل «الحوافز المالية» التي يحاول الغرب إغراءه بها لإعادته إلى طاولة المفاوضات، وتتيح له، بدلاً من ذلك، «المضيّ قُدُماً في بناء ترسانته النووية». ووفق الأمم المتحدة، استأنفت روسيا، للمرّة الأولى منذ عام 2020، إرسال شحنات النفط إلى كوريا الشمالية، بعدما كانت قد استأنفت إرسال شحنات الحبوب في وقت سابق، فيما تخشى الحكومة الأميركية من أن تكون القطارات العائدة من بيونغ يانغ «محمّلة بذخائر» من مخزونها «الهائل» إلى روسيا، ولا سيما أن واشنطن حذّرت، أخيراً، من أن «مفاوضات أسلحة بين روسيا وجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية» تتقدّم بشكل «حثيث»، ووسط انتشار أنباء في وسائل إعلام أميركية عن أن «كيم سيسافر إلى مدينة فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين»، لمواصلة المحادثات حول هذا الملفّ على «مستوى القادة». وفيما لن تعيد هذه المساعدات الاقتصاد إلى «كامل عافيته»، إلا أنها ستضمن بقاءه مستقرّاً بما يكفي لـ«استمراره»، ما سيمكّن كيم، مجدّداً، من «مواجهة المجتمع الدولي»، بحسب الوكالة الأميركية.
واستناداً إلى ما تقدّم، تقول راشيل مينيونغ لي، التي عملت محلّلة في شركة تابعة لـ«وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية» لِما يقرب من عقدَين، إن «كوريا الشمالية تمكّنت دائماً من إيجاد سبُل للنجاة»، مشيرةً إلى أنّه «ليس هناك ما يُنذر بأنها ستعود إلى المحادثات النووية في أيّ وقت قريب».
للمرّة الأولى تحت نظام كيم، تفوّق القطاع الخاص في كوريا الشمالية على الصناعة التي تديرها الدولة


بين الدعاية والواقع
عندما يتعلّق الأمر بكوريا الشمالية، يشير العديد من النقاد إلى افتقار الخبراء والمحلّلين الغربيين من ذوي الاطلاع، إلى المعرفة اللازمة للأوضاع في البلد الآسيوي، الذي عادة ما يتمّ تصويره في الإعلام الغربي على أنّه جمهورية مرتبطة حصراً بالأسلحة النووية والفقر «والديكتاتورية». فالقصص «المثيرة»، التي تزعم مثلاً أنّ كيم «حظر» المعاطف الجلدية في البلاد، أو فقد الكثير من الوزن، أو دخل في غيبوبة، يمكن أن تقتل «الملل» لدى الجمهور الغربي، ما يجعل الصحافيين، بحسب أصحاب هذا الرأي، يميلون بشدّة إلى نشر الخلاصات المتسرّعة، من دون الاستناد إلى مصادر موثوقة أو التحقُّق من دقّة المعلومات، وذلك بهدف الحصول على أكبر عدد من المتابعين والمشاهدات، وتوازياً، تشويه صورة الدولة ونظامها، وربّما أيضاً الدفع في اتجاه تأجيج التوتّرات في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ولا سيما بين كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية. فقبل الإقفال العام في أعقاب الوباء، نشرت وكالة «بلومبرغ» تقريراً جاء فيه أنّ جهل المحلّلين والإعلام الغربي بحقيقة الاقتصاد في بيونغ يانغ يقوّض قدرة العقوبات على إلحاق الضرر اللازم به. ويتابع أصحاب هذا الرأي، الذين وصفوا النمو الاقتصادي الذي كانت تسجّله بيونغ يانغ آنذاك، بـ«السلاح السرّي»، أنّه «مع فرض الأمم المتحدة حزمة أخرى من العقوبات على كوريا الشمالية، بسبب استفزازاتها النووية، أصبح لا بدّ من التساؤل عن سبب فشل مثل هذه العقوبات لأكثر من عقد»، مشيرين إلى أن أحد الأسباب هو أنه «لا يتم فهم تحسّن الاقتصاد الكوري الشمالي كما يجب». فآنذاك، وعلى الرغم من أن البلاد كانت لا تزال تصنّف على أنها «فقيرة»، إلا أن ناتجها المحلّي الإجمالي ارتفع بنسبة تُقدّر بنحو 3.9%، في عام 2016، إلى حوالي 28.5 مليار دولار، والذي تزامن مع ارتفاع كبير في الأجور، مردّه بشكل أساسي إلى التجارة مع الصين.
على أن مساهمة القطاع الخاص في اقتصاد كوريا الشمالية تبقى لافتةً؛ إذ أوردت صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية، العام الماضي، أنه للمرّة الأولى تحت نظام كيم جونغ أون، تفوّق القطاع الخاص في كوريا الشمالية على الصناعة التي تديرها الدولة، منذ أكثر من 10 سنوات، ليحتلّ المرتبة الأولى في الأداء الاقتصادي، ويشكل نحو 38% من مجمل الاقتصاد الكوري. وبخلاف الدعاية التي تركّز على تصوير اقتصاد البلاد على أنه «كابوس اشتراكي»، فإنّ التوجه نحو إعطاء القطاع الخاص هامشاً أكبر من الحرية ليس مستجداً، إذ مُنحت المصانع، منذ عقود، هامشاً من الاستقلالية في ما يتعلّق بالإنتاج، بما في ذلك الحقّ في العثور على مورّديها وعملائها، طالما أنها تحقّق أهداف الإيرادات، فيما وصفته بيونغ يانغ بـ«أسلوب البلاد الخاص في الإدارة الاقتصادية»، وشبّهه مراقبون بالخطوات التي اتّخذتها الصين في الثمانينيات خلال انفتاحها على الأسواق الرأسمالية.
تزامناً مع ذلك، تستمرّ الدولة في تقديم الخدمات التعليمية والصحية لسكانها كافةً. وتجدر الإشارة إلى أن ما مجموعه 12 سنة من التعليم الابتدائي والثانوي مجاني وإلزامي، وموجّه لتدعيم أهداف بيونغ يانغ الاقتصادية بأصحاب المهارة والفنيين والعلماء. كما أنّ البرامج تقتضي أن ينخرط الطلاب جميعهم في عمل منتج، جنباً إلى جنب دراستهم، والذي يكون عادةً في مجال العلوم والتكنولوجيا، بحسب موسوعة «بريتانيكا». أمّا في ما يتعلق بالطبابة، وعلى الرغم من النقص في المعدات الطبية والأدوية والأطباء، الذي ترتّب عن الصعوبات الاقتصادية والعقوبات والأزمات التي واجهتها البلاد تاريخياً، إلا أن الرعاية الطبية تبقى مجانية، وهناك عيادة واحدة على الأقل في كل قرية. كما تتولّى الحكومة جميع التكاليف الطبية، عن طريق التأمين الاجتماعي للعاملين الذين يعانون من إعاقة مؤقتة أو دائمة، وللنساء أثناء الحمل والولادة، وتدفع أيضاً تكاليف الجنازات ومعاشات الشيخوخة، فيما تعمل دور المسنّين في كل مقاطعة تحت إشراف وزارة العمل.

القومية «المعتدلة»
على رغم العداء القديم وحالة الهدنة التي لم تنهِ الحرب فعلياً بين الكوريتَين، وتركيز الإعلام الغربي على بثّ الذعر لدى الرأي العام الكوري الجنوبي إزاء بيونغ يانغ في محاولة لتعزيز الانقسام، يجادل المحلّل بي آر مايرز، الخبير الأكاديمي في الدعاية الكورية الشمالية والمقيم في كوريا الجنوبية، في مقابلة مع موقع «ذا كونفرسيشن» الأسترالي، بأنّ الكثير من المثقفين في سيول، واليمينيون منهم تحديداً، «معجبون بكوريا الشمالية»، لأنها «تقف في مواجهة العالم»، وبصفتها دولة «حازمة وتفعل ما تقوله». أمّا الشعور الأكثر شيوعاً، بحسب المحلّل نفسه، فهو الانتماء إلى «الهوية العرقية المشتركة»، بغضّ النظر عمّا إذا كان الشعور القومي في سيول غير عميق «ومعتدل»، وإذا ما كانوا «لا يريدون التوحيد، تحت حكم كيم في الوقت الراهن». ويتابع مايرز أنّه إذا أرادت سيول وواشنطن الاستمرار في انتهاج مبدأ «الشرطي الجيد والشرطي السيئ» مع بيونغ يانغ، فستكون هذه الفكرة «مروعة»، ولا سيما عندما تكون كوريا الجنوبية في موقع الداعي إلى التهدئة وعدم الانجرار إلى حرب عسكرية مع جارتها الشمالية - وهو ما حصل في عدّة محطّات سابقة -، إذ يجعل ذلك القوات الأميركية تبدو كأنها «العقبة الحقيقية الوحيدة أمام التوحيد». ويقتبس المحلّل في حديثه مقولة للرئيس الكوري الجنوبي الأسبق، كيم يونغ سام (1993 - 1998): «لا يوجد حليف أفضل للمرء من أبناء عرقه»، في تلميح إلى القرار الذي قد تتّخذه سيول إذا وُضعت بين خيارَي عدم الانصياع للغرب أو شنّ حربٍ على جارتها.