تنتظر إسرائيل، حكومة ومعارضة وإعلاماً و«مجتمعات» على اختلافها، قرار «المحكمة العليا» في القدس المحتلّة، والتي تنظر في 8 التماسات ضدّ قانون «إبطال ذريعة عدم المعقولية» الصادر أخيراً عن «الكنيست»، والذي يحدّ من صلاحيات القضاء، ويشكّل، كما تراه المعارضة، انقلاباً على نظام الحُكم والديموقراطية في الدولة العبرية، فيما يتمسّك به الائتلاف الحاكم، من منطلق أن للناخبين السيادة على أيّ قواعد ديموقراطية مهما علت. مع ذلك، فإن القانون المذكور ليس هو الأهمّ في هذه المرحلة، سواء ألغته المحكمة أو أبقت عليه، أو عمدت إلى تفسيره بما يخفّف من وطأته؛ إذ تظلّ لدى القضاء أساليب وقواعد مختلفة تتيح له التدخّل في التشريعات الصادرة عن «الكنيست» والنظر فيها، مع إلغاء «المعقولية أو من دونه». الأهمّ ممّا تَقدّم، يلخّصه السؤال الآتي: هل تسمح «العليا» لنفسها بأن تَنظر في «قوانين أساس» تَصدر عن «الكنيست» - وهي تعادل القوانين الدستورية في دول أخرى - بعدما اقتصر دورها سابقاً على تفسير جزء من بنود تلك القوانين بلا تغيير أو إلغاء، مع التذكير هنا بأن إلغاء ذريعة «عدم المعقولية» أُدرج كبند في «قانون أساس: القضاء»؟ إن أعطت المحكمة لنفسها هذا الحق، ورفضت تهشيم سلطتها، فستكون قد وضعت عائقاً معتدّاً به أمام الائتلاف الحكومي، يَصعب عليه من بَعده سنّ تشريعات لاحقة يراد منها تقليص صلاحيات «العليا»، وجعلها تابعة للائتلاف، وهو ما يحذّر منه قادة المعارضة والإعلام والأكاديميون والخبراء. لكن قراراً كذاك سيستجلب تداعيات غير سهلة، كونه سيزيد الاحتقان في الشارع الإسرائيلي بين المعارضين الذي سيحتفلون والحال هذه، وأنصار الحكومة الذين سيحاولون الانتقام، بل وقادتها الذي كانوا قد لوّحوا بأنهم لن يمتثلوا لأحكام تَنتج من النظر في التماسات ترتبط بـ«قوانين أساس»، وسيعلنون عصيانهم ضدّها، وسيعملون على الحيلولة دون نفاذها بالوسائل كافة.
حكم المحكمة لن يَصدر غداً، ولا حتى في الأيام القريبة المقبلة


مع ذلك، لا يبدو معقولاً أن تَقبل «العليا» بتقليل صلاحياتها، لعدّة اعتبارات لا ترتبط فحسب بالقواعد القانونية والاجتهادات والآراء الفقهية، بل وكذلك بالهوية السياسية والاجتماعية وطبيعة نظام الحكم الذي يعطي القضاء صلاحية إدارة الخلاف بين مركّبات المجتمع الإسرائيلي، والتي تتباين في آرائها وتطلّعاتها وطرق عيشها، إلى حدّ يحذّر معه كبار السياسيين وعلماء الاجتماع من أنه سيدفع نحو احتراب داخلي إذا لم يجرِ ضبطه، ومنع تغليب أحد أطرافه على الآخرين. من هنا، يَظهر مرجّحاً أن تعمد المحكمة إلى توسيع صلاحياتها، بما يكفل لها إمكانية النظر في «قوانين أساس». على أن قانون «المعقولية» بذاته يشكّل محور تجاذب بين فقهاء القانون على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم، ومن بينهم بطبيعة الحال قضاة في «العليا»، الأمر الذي يعني أن احتمال نأي المحكمة بنفسها عنه، أو حتى مصادقتها عليه، يظلّ قائماً ومعتدّاً به.
لكن اللجوء إلى أيّ من الخيارَين المشار إليهما أعلاه لن يغيّر من النتيجة؛ إذ إن المهم والحاسم في حكم «العليا» المرتقب، هو أن تسمح أو لا تسمح لنفسها بالنظر في القوانين ذات المكانة الدستورية الصادرة عن «الكنيست»، بما سيحدّد الضفة التي ستقف عليها بين المعارضة والموالاة، وقد يكون كفيلاً بحسم أزمة طالت وأظهرت كلّ ما في إسرائيل من عيوب. والواقع أنه إن قرّرت المحكمة توسيع صلاحياتها، فستمنع الحكومة من سنّ قوانين وتشريعات مختلفة، كان قد أعلن عن معظمها، ومن شأنها تغيير نظام الحكم في إسرائيل، ليشابه في كثير من وجوهه وطرقه النظام البولندي أو المجري، حيث يمكن للائتلاف الحاكم أن يسنّ ما يشاء، بلا حسيب أو رقيب، ليس في ما يتعلّق بفلسطينيي عام 1948 فحسب، بل وأيضاً وببقيّة اليهود، ما سيدفع، والحال هذه، نحو مزيد من الاحتقان، وربّما أيضاً نحو الاحتراب نفسه.
على أيّ حال، فإن حكم المحكمة لن يَصدر غداً، ولا حتى في الأيام القريبة المقبلة، بل قد تمتدّ مداولاتها أشهراً طويلة، الأمر الذي سيخفّف من الوقع المنتظَر للحكم، ويمنع مفاقمة أزمة باتت غير مسبوقة في كيان يعاني من تشرذم اجتماعي حادّ، تسعى في خضمّه كلّ جماعة، ليس فقط إلى تعزيز مكانتها ومكاسبها، بل إلى إضعاف الجماعات الأخرى، وفرض إرادتها عليها.