في عام 1967، عند صدور كتابه الهامّ «مقدّمة للتاريخ المعاصر»، رأى المؤرّخ البريطاني، جيفري باراكلاو، أنه «مع بداية القرن العشرين، كانت القوى الأوروبية في أَوْجِ سطوتها في أفريقيا وآسيا. لم تكُن أيّ دولة قادرة على الصمود أمام التفوّق العسكري والتجاري الأوروبي. بعد مضيّ 60 عاماً، لم يبقَ من السيطرة الأوروبية سوى الأطلال (...) لم يشهد التاريخ الإنساني برمّته انقلاباً ثورياً بهذه السرعة». يأتي حلول الهند، العام الجاري، محلّ مستعمِرتها السابقة، بريطانيا، كخامس أكبر اقتصاد في العالم، ليؤكد المفاعيل الطويلة الأمد لـ«الانقلاب الثوري» الذي أشار إليه باراكلاو. لقد نجحت هذه الدولة - القارة، وحالها في ذلك حال الصين، بعد انتزاع استقلالها من الاستعمار، في التحوّل إلى لاعب إقليمي ودولي بارز على المستويَين الاقتصادي والسياسي، فيما تسعى عبر شبكات علاقاتها الواسعة وشراكاتها إلى تعزيز الموقع وتعظيمه.تتبنّى الهند، اليوم، في سياستها الخارجية مقاربة تستند إلى مفهوم «الانحيازات المتعددة» (Pluriversalisme) الذي صاغه وزير خارجيتها، سوبرهمنيام جينشنكار، والذي يمكّنها من نسج شراكات مع أطراف دولية أخرى في ميادين محدّدة، حتى وإن كانت هذه الأطراف متناقضة في ما بينها. فهي تتعاون في ميادين الطاقة والتسلح، وكذلك في الميدان النووي، مع روسيا، فيما شريكتها التجارية الكبرى هي الصين، وتطوّر في الآن نفسه شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، تسعى نيودلهي إلى أن تكون «صوت الجنوب» المطالب بنظام دولي أكثر عدلاً يستند إلى مبدأ الندّية في العلاقات بين مكوّناته، مع التذكير بأنها هي من بين الأعضاء المؤسّسين لمجموعة «بريكس» ولـ«منظمة شنعهاي للتعاون». على أن التحدي المركزي الذي يَمثل أمام حكومة ناريندرا مودي، اليوم، يتعلّق بإمكانية المضيّ في مثل هذه السياسة الخارجية، في سياق دولي يشهد احتداماً للمواجهة على مستويَين: الاستراتيجي بين واشنطن ومحورها الغربي وروسيا وبكين من جهة، والمستوى التجاري والمالي بين دول «بريكس» ومعسكر الغرب الجماعي من جهة أخرى.
على المستوى الأول، يختلف تعاطي نيودلهي مع موسكو ومع بكين؛ فهي متمسّكة بالشراكة مع روسيا، ورفضت الانصياع للضغوط الأميركية لفرض عقوبات عليها، وزادت من استيرادها للغاز والنفط الروسيَّيْن، مع الدفع بالروبل، ما أثار حنقاً مضاعفاً لدى واشنطن. أما حيال بكين، الشريك التجاري الأكبر كما أسلفنا والجار التاريخي، فإن الموقف يختلف جوهرياً. رهاب حقيقي يحكم هذا الموقف، كما يوضح الدبلوماسي الهندي السابق المخضرم، م.ك. بدراكومار، في مقال على مدوّنته «إنديان بونشلاين»، بعنوان «مجموعة الدول الـ20 تحتاج إلى إصلاح حقيقي»، معتبراً أن «الولايات المتحدة ستعمل على استغلال ذلك الرهاب لدقّ إسفين بين دول بريكس، ومحاولة دفع الهند لتكون جسراً بين الغرب والجنوب العالمي». وجود أسباب موضوعية للخلاف والتنازع بين دول كبرى صاعدة ومتجاورة هو أمر معهود في العلاقات الدولية، غير أن من بين الوظائف الأساسية للسياسة والدبلوماسية إيجاد سبل للتوصّل إلى حلول سلمية للخلافات والنزاعات، إلا إذا كانت الإرادة الفعلية لأيّ من الطرفين هي الأخذ بخيارات أخرى. لا شك في أن الشراكة الاستراتيجية المتنامية بين نيودلهي وواشنطن، ومشاركة الأولى في تكتّل موجّه ضدّ بكين كحال «كواد» الذي تقوده الثانية، عاملان يرفعان من حدّة التوتر بين الجارتَين الآسيويتَين، وقد يمهّدان لصدام محتمل بينهما في المستقبل، في ظلّ اشتداد المجابهة بين الصين والولايات المتحدة. والواقع أن الشكوك والمخاوف المتبادلة بين الصين والهند ليست جديدة، لكن وصول حزب «بهارتيا جاناتا» الأصولي الهندوسي المتطرف بقيادة مودي إلى السلطة في نيودلهي، يشكّل بذاته منعطفاً سلبياً بالنسبة إلى مستقبل العلاقات بين البلدين.
مواءمة مودي بين تحويل الهند إلى دولة أصولية هندوسية وطموحاته للتحوّل إلى ناطق رسمي باسم الجنوب العالمي، ستكون مَهمّة بالغة المشقّة، إن لم تكُن مستحيلة المنال تماماً


المواجهة الثانية الدائرة في العالم اليوم بين دول «بريكس» من جهة، والولايات المتحدة ومن يسير في ركبها من جهة أخرى، والمتمحورة راهناً، من بين قضايا أخرى، حول قواعد نظام التجارة الدولي، تضع الهند في موقع حرج. فالتوجّه الأغلبي بين دول التكتل، كما يقول بدراكومار في مقاله المشار إليه، هو للتبادل التجاري في ما بينها بعملاتها المحلية بدلاً من الدولار، وهي «آجلاً أم عاجلاً، قد تعمل لإيجاد عملة بديلة منه». نيودلهي ليست متحمّسة بتاتاً لفكرة إيجاد عملة بديلة من الدولار، وهي تنظر بعين الريبة إلى عملية توسيع «بريكس» عبر ضمّ أعضاء جدد إليها، على اعتبار أن ذلك سيُترجَم تعزيزاً للنفوذ الصيني في داخل التكتل على حسابها. في الواقع، فإن العداء للصين، لأسباب أيديولوجية - عقائدية، يحدّد إلى درجة كبيرة الأجندة الفعلية لحكومة مودي، لا تلك المعلَنة.
تعكس السياسة الخارجية لحكومة مودي، إلى حدّ ما، توجّهاتها الأيديولوجية وسياستها الداخلية، الهادفة إلى تحويل الهند إلى «ديموقراطية إثنية». يشارك سكان مثل هذه الديموقراطيات في الانتخابات، ولكنهم غير متساوين أمام القانون، إذ تعاني قطاعات معتبرة منهم من أشكال متعدّدة من التمييز والاضطهاد بسبب أصولها الدينية أو الإثنية، كما هو حال المسلمين في الهند. وقد أتاحت عملية سيطرة السلطة السياسية على النظام القضائي، عبر تغيير نمط تعيين أعضاء المحكمة العليا، وهو ما يسعى اليمين القومي والديني المتطرّف لتحقيقه في الكيان الصهيوني، بتمرير مجموعة من القوانين التي تضاعف من حدّة التمييز بحق المسلمين والتنكيل بهم، إذ تمّ إلغاء البند 370 من الدستور الذي ينصّ على الحكم الذاتي لمنطقة جامو كشمير، وكذلك إقرار قانون يسمح فقط للاجئين غير المسلمين من بنغلاديش وباكستان وأفغانستان بالحصول على الجنسية الهندية. أيضاً، تتزايد عمليات العنف الطائفي والقتل الجماعي والتهجير ضدّ المسلمين من قِبل ميليشيات هندوسية تتواطأ الأجهزة الأمنية معها في غالبية الأحيان، فيما تعتمد الحكومة سياسة استيطان موسّعة ومتسارعة بغية تغيير التوازن الديموغرافي في منطقة جامو كشمير، مستنسِخة في ذلك «النموذج الإسرائيلي»، وهو ما يضاف إلى التعاون الأمني والتكنولوجي والعسكري مع الكيان، الذي بات مثالاً يُحتذى في نظر قسم وازن من قيادات ونخب التيار الهندوسي المتطرف. كما يرتكز حزب مودي، في سمة مشتركة أخرى مع اليمين الصهيوني، إلى دعم جناح من الأوليغارشية المالية والصناعية، يقف في مقدّمته، غوتام أداني، المساند لمودي، والذي يُعدّ بمثابة شيلدون أديلسون، الملياردير اليهودي الأميركي، الداعم لرئيس حكومة الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
وبالفعل، سمح الدعم الكبير الذي يتمتع به رئيس الوزراء من قِبل هذه الشريحة الاجتماعية، بوضع أبرز وسائل الإعلام الخاصة في خدمته، ما زاد من تأثيره وشعبيته في الهند.
مودي ماضٍ إذاً في مشروعه لتحويل الهند إلى دولة أصولية هندوسية، ورسم السياسات وتحديد التحالفات على قاعدة هذه الأولوية - إلا إذا خسر الانتخابات في عام 2024 -. لكنّ المواءمة بين هذه الأولوية وطموحاته للتحوّل إلى نموذج «ديموقراطي عالمي» في مقابل الصين أو إلى ناطق رسمي باسم الجنوب العالمي، ستكون مهمّة بالغة المشقّة، إن لم تكُن مستحيلة المنال تماماً.