تعرّض الأمن الداخلي التركي، لهزّة هي الأولى منذ وقت طويل؛ ففي تمام الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم أمس الأحد، كان المدخل الرئيسيّ للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي التركي، يتعرّض لهجوم بالأسلحة النارية على يد اثنَين من المسلّحين كانا يستقلّان سيارة مسروقة ترجّلا منها. ووفقاً لبيان القوى الأمنية، فقد فجّر أحد المسلّحين نفسه، وقُتل على الفور، فيما سقط الثاني بتبادل لإطلاق النار مع حرس المديرية الذين أصيب منهم عنصران تأكَّد أن حالتهما ليست خطيرة. وعلى إثر ما جرى، سارع وزير الداخلية، علي يرلي قايا، إلى موقع الحادثة، ليعلن «استمرار المعركة بلا هوادة ضدّ الإرهاب»، بعدما أكّد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أنه «لولا شجاعة حرس المديرية، لكانت العمليّة اتّخذت منحًى آخر».وعلى رغم سرعة انتهائها، إلّا أن الحادثة حظيت باهتمام المراقبين، كونها تميّزت بما هو آتٍ:
- أولاً، أنها استهدفت مقرّاً أمنيّاً صَرْفاً، في ما يمكن أن يكون رسالة إلى أنها تأتي رداً على السياسات المتشدّدة التي ازدادت في عهد وزير الداخلية الجديد ضدّ الأنشطة الإرهابية، أي إنها أيضاً لم تكن تستهدف مدنيين، علماً أن يرلي قايا كان قبل تسلُّمه وزارة الداخلية في حزيران الماضي، محافظاً لمدينة إسطنبول، وأتت العملية بعد أربعة أشهر فقط من تسلُّمه مهامّه.
- ثانياً، تقع المديرية العامة للأمن مباشرة قبالة المدخل الرئيسيّ للبرلمان التركي، الذي افتتح، أمس، سنته البرلمانية الجديدة، ومن تقاليدها أن يلقي الرئيس التركي خطاباً كان مقرّراً بعد أربع ساعات فقط من وقوع العمليّة، وهو ما أضفى، في المقابل، بعداً آخر على الحادثة يتعلّق بالدولة ككلّ، ورأسها على وجه الخصوص. وقد أكّد رئيس البرلمان، نعمان قورتولمش، أن ما حصل «ليس مصادفة، بل هو مقصود في يوم افتتاح العام البرلماني»، وأن «تركيا لن تنحني للإرهاب».
- ثالثاً، توجّهت الأنظار بطبيعة الحال إلى الجهة التي تقف وراء العملية. وقَبل أن يتبنّى «حزب العمال الكردستاني»، تبعاً لـ»رويترز»، العملية، فإن الاعتقاد الذي كان سائداً هو أن ما جرى يشبه أسلوب العمليات التي قام بها سابقاً عناصر تابعون للحزب؛ وآخرها تلك التي وقعت في ساحة تقسيم في إسطنبول، العام الماضي، واتُّهمت فيها امرأة اعتُقلت لاحقاً، بالانتماء إلى «الكردستاني». وفي ما لو صحّت الافتراضات، فإن ما جرى يمثّل ردّاً متوقَّعاً وتلقائيّاً على العمليات العسكرية الواسعة النطاق التي يقوم بها الجيش التركي ضدّ مقاتلي الحزب في العراق خصوصاً، كما في سوريا.
ولو صحّ ما تقدَّم، فإن هذا يعني، رابعاً، أن الحزب قرّر، للمرّة الأولى منذ فترة طويلة، تحديد الردّ في الداخل التركي، وفي الأماكن الحسّاسة والمعروفة والمكتظّة. ولا يُعرف بعد ما إذا كان ذلك، لو صحّ أيضاً، انتقال الحزب إلى أسلوب جديد من الردّ في الداخل التركي، بعد توقّف طويل عن تنفيذ مثل هذه العمليات. كذلك، يمكن أن توجّه الدولة أصابع الاتهام إلى جماعة فتح الله غولين، ولا سيما أن الحديث قد اتّسع أخيراً عن تحضيرات هذه الجماعة لإثارة الفوضى في الداخل التركي. وقد يربط البعض أيضاً بين العملية وما يجري في قره باغ من تهجير للأرمن، ولكنه افتراض بعيد من الواقع، ولا سيما أن الأرمن لم يلجأوا إلى مثل هذه العمليات منذ سنوات طويلة جدّاً. ولا تستبعد السلطات التركية الإشارة أحياناً إلى مسؤوليات تنظيم «داعش» عن بعض هذه العمليات.
ركّز إردوغان على أهميّة إعداد دستور جديد مدني يخلف الدستور الحالي


وفي حال وَجّهت أنقرة أصابع الاتهام إلى «حزب العمال الكردستاني»، فإنها لن تتردّد في الردّ من خلال القيام بعمليات عسكرية محدَّدة ضدّ المسلّحين الأكراد، سواء في العراق أو في سوريا، علماً أن المُتهمة بتفجير إسطنبول، العام الماضي، وُجّهت إليها تهمة الانتقال من سوريا (عفرين) إلى داخل تركيا لتنفيذ عمليتها. ولا يُعرَف ما إذا كان الردّ التركي ينتظر «سيناريو» تحديد هوية المنفّذين لعملية أنقرة، ومن أين جاؤوا ليبني على الافتراض مقتضاه. وقد أشار إردوغان، في خطابه أمام النواب، إلى أن تركيا ستردّ في عقر دار الإرهابيين، متّهماً أيضاً جماعة غولين بأنها تعمل على «نشر الإرهاب في كل البلاد».
وقوبلت عملية أنقرة بتنديد مختلف الأحزاب التركية، ومنها «حزب الشعب الجمهوري» الذي قال رئيس كتلة نوابه، أوزغور أوزيل، إن ما حصل «يذكّر بالفترة الدموية التي شهدتها تركيا بين عامَي 2015 و2017»، مطالباً «بضرورة الكشف عن منفّذي العملية ومَن وراءهم»، فيما أكّد رئيس كتلة «الحزب الجيّد» أن «تركيا لن تحني رأسها للإرهاب».
وبدا لافتاً أن أحد الأصوات القريبة من السلطة، قد حمّل وزير الداخلية مسؤولية ما جرى، إذ قال الصحافي فاضل دويغون، في تغريدة، إن «العملية أَظهرت ضعفاً في العمل الاستخباري، إذ كيف يمكن أن يصل مسلّحون بهذه السهولة إلى مديرية قوى الأمن. هذا ضعف استخباري ووزير الداخلية يتحمّل كامل المسؤولية».
وفي كلمته أمام البرلمان، ركّز إردوغان على أهميّة إعداد دستور جديد مدني يخلف الدستور الحالي الذي أعدّه العسكر عام 1982، وتلافي الثغرات الحالية، داعياً إلى «وقف إدخال التعديلات، وإعداد دستور جديد بالكامل يليق بمئوية الجمهورية التركية». وقد ألقى الرئيس التركي باللوم على أحزاب المعارضة بعرقلة إقرار دستور جديد. ولعلّ من أكثر التعليقات الدالّة في هذه النقطة، هو ما قاله رئيس «حزب السعادة»، تيميل قره ملّي أوغلو، من أن أهمّ ما في مقترحات الدستور الجديد، تعديل كلّ المواد التي تحول دون ترشُّح إردوغان لولاية رئاسية رابعة، مضيفاً أنه «ليس للتعديلات المقترحة أيّ علاقة بأيّ شيء آخر، مثل تعزيز الحريات والديموقراطية». وفي كلمته، مرّ إردوغان على السياسة الخارجية لتركيا، قائلاً إن «الحقّ قد عاد إلى أصحابه في آذربيجان»، منتقداً الاتحاد الأوروبي الذي «لا يبادر تركيا بالحُسنى»، وداعياً إلى «الإكثار من الأصدقاء»، بعدما «أصبحت تركيا قوّة لا غنى عنها». وتطرّق أيضاً إلى الوضع في سوريا، قائلاً إنه لن يترك أربعة ملايين سوري في الشمال الغربي لقَدَرهم، وسيعيد مليوناً إلى بلادهم قريباً، مشيراً إلى أن الشريط الأمني مع سوريا قد اكتمل، مضيفاً، في سياق موازٍ، أن تركيا «ستدافع عن وحدة الأراضي العراقية، وستقف دائماً إلى جانب الشعب الليبي».