في عام 1964، أعلنت الولايات المتحدة أن زوارق فيتنامية حربية أَطلقت النار على مدمّرتَين أميركيتَين في «خليج تونكين». وقد نتج من هذا الهجوم المزعوم، أنْ أَعلنت أميركا حربها على فيتنام، والتي أودت لاحقاً بحياة ملايين الفيتناميين. بعدها بعقود، وتحديداً في عام 2005، أقرّت واشنطن بأن الهجوم المذكور، لم يقع. ولكن قبل هذا الإقرار بعامَين، وكذريعة لشنّ حربها على العراق (2003)، ألصق الأميركيون ببغداد تهماً ثلاث: امتلاكها أسلحة دمار شامل، وما زعموا أنها علاقة تربطها بتنظيم «القاعدة»، جنباً إلى جنب «مشاركتها في هجمات الـ11 من أيلول»، ليُصار في ما بعد إلى إسقاط الولايات المتحدة هذه التهم. على أن الأكاذيب التي خاضت أميركا، على أساسها، حروبها الطاحنة في المنطقة، في العقود الماضية، نجحت بالفعل في جعل الرأي العام الغربي يتقبّل ما هو أشبه بـ«إبادات» ارتُكبت في حقّ شعوب أخرى حول العالم؛ إذ بات «الإرهاب»، في نظر هذه الشعوب، «شرّاً مطلقاً»، تُعدّ أيّ محاولة للبحث في «جذوره»، محاولةً لـ«تبريره»، فيما المطلوب «استئصاله والقضاء عليه»، مهما كلّف الأمر.وفي أعقاب عملية «طوفان الأقصى» التي أَلحقت ضرراً معنوياً ومادياً وبشرياً غير مسبوق بالكيان الإسرائيلي، تبدو السردية التي تتبنّاها الولايات المتحدة، والدول الغربية عموماً، مشابهة، إلى حدّ كبير، لِما جرى تصديره في الأمس القريب. هكذا، وبعدما انتهجت نُخب الغرب، في أعقاب الحروب الأميركية، مبدأ التمييز بين الجماعات الدينية التي تتبنّى أهدافاً قومية، على غرار حركات التحرُّر، أو التي تسعى إلى تولّي السلطة عبر الانتخابات، وتلك «المُعولمة»، على غرار «القاعدة»، تعمد تلك النُخب مجدّداً، وهذه المرّة من بوابة فلسطين المحتلّة، إلى «نسْف» هذا الطرح؛ إذ باتت «حماس»، وفقاً للسردية الجديدة، جماعة «إرهابية» تهدّد ليس فقط إسرائيل، بل العالم الغربي مجتمعاً، ويجب بالتالي، معاملتها معاملةً «تليق بالإرهابيين»، بما يَشمل قمع التظاهرات وسائر المظاهر المؤيّدة للفلسطينيين، ومنْع إرسال التبرّعات لهم من بعض الدول الأوروبية، على غرار ألمانيا والنمسا.
وبعدما كانت الصحف الأميركية والغربية قد بدأت، منذ الساعات الأولى لشنّ عملية المقاومة، تقارن الأخيرة بأحداث 11 أيلول، قبل أن تعمد إلى نشر أخبار مضلّلة، بهدف تشويه صورة مقاتلي «حماس»، أطلّ الرئيس الأميركي، جو بايدن، هذا الأسبوع، بخطاب دعم جديد لإسرائيل، قال فيه إن ما زَعم أنه «تعطّش حماس الوحشي للدماء»، يذكّره بتنظيم «داعش». ووصل الأمر ببعض وسائل الإعلام الغربية إلى حدّ الحديث عن أن مقاتلي الحركة قطعوا، خلال عمليّاتهم، «رؤوس الأطفال»، لتردّ الأخيرة بطلب نشر ولو «صورة واحدة» تؤكد تلك المزاعم. وقد دفعت الممارسات المتقدّم ذكرها، «حماس»، إلى إصدار بيان جاء فيه أن الحركة تؤكد «بشكل قاطع كذِب الادّعاءات الملفّقة التي تروّج لها بعض وسائل الإعلام الغربية، التي تتبنّى الرواية الصهيونية، وآخرها الزعم بقتل الأطفال وقطع الرؤوس واستهداف المدنيين»، مؤكدةً أن «كتائب القسام» «استهدفت المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية»، والتي تُعدّ «هدفاً مشروعاً». كما أشار البيان إلى أن قوات الاحتلال، هي التي قتلت، حتى يوم الأربعاء، ألفاً و55 مدنياً فلسطينياً، من بينهم أكثر من 300 طفل و200 امرأة، وتسبّبت في إصابات لخمسة آلاف و150 مدنياً، من بينهم أكثر من ألفين و200 طفل، وألف امرأة، فيما ترتفع الحصيلة مع استمرار القصف المستمرّ، جنباً إلى جنب قطع إمدادات المياه والغذاء والكهرباء عن القطاع. وفي هذا الإطار، أفادت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، أمس، بأن البيت الأبيض «تراجع عن تصريحات بايدن»، في شأن رؤية الأخير «صوراً لفظائع مزعومة» ارتُكبت في هجوم «حماس»، موضحاً أنه «لا بايدن، ولا أيّ مسؤول، شاهدوا صوراً، أو على الأقلّ تأكدوا من صحّة التقارير في شأن قطع إرهابيين رؤوس أطفال»، والتي روّجت لها، ابتداءً، وسائل إعلام إسرائيلية. على أن الاعتراف الأميركي جاء متأخّراً هذه المرّة أيضاً، إذ كانت التقارير والتصريحات التي تروّج لهكذا مزاعم قد حظيت بملايين المشاهدات.
تشبيه عمليّة «طوفان الأقصى» بهجمات الـ11 من أيلول «سخيف تماماً»


وأثارت مقاربة بايدن وغيره من المسؤولين الأوروبيين، قلقاً واضحاً لدى العديد من المراقبين الغربيين، ولا سيما أنها تأتي في أعقاب محاولة واشنطن «أخذ استراحة» من «أزمات» الشرق الأوسط، بعد فقدانها آلاف الجنود وتريليونات الدولارات من دون أيّ نتيجة تُذكر، والتفرّغ، في المقابل، لإلحاق «هزيمة» _ باتت تبدو أبعد من أيّ وقت مضى _ بروسيا في أوكرانيا، ومواجهة نفوذ الصين المتنامي، الذي وصّفته، في أكثر من محطّة، بـ«أكبر تهديد استراتيجي» يواجهها. وبحسب هؤلاء، يمكن اختصار المشهد كالآتي: في حال مضيّ الاحتلال قُدماً في قصف غزة وحصارها و«إبادتها»، تحت ستار أنه يشنّ «حرباً جديدة على الإرهاب» - وتجريد عمل المقاومة الفلسطينية بالتالي من أيّ سياق مادّي وتاريخي -، فمن المرجّح أن تدخل واشنطن وحليفتها في حالة استنزاف جديد للموارد والقوات العسكرية والأسلحة، تصل في أعقابها إلى طريق «مسدود»، لن يُنتج، في نهاية المطاف، إلّا مزيداً من الفوضى. وفي هذا السياق تحديداً، جاء في تقرير لـ«واشنطن بوست»، بعنوان: «المقارنات المُقلقة التي تحيط بهجوم حماس»، أن تشبيه الأخير بهجمات الـ11 من أيلول، «ينذر بتداعيات مُقلقة»، وأنه «في أعقاب الهجوم على بُرجَي التجارة، أمضت واشنطن نحو عقدَين من الزمن في شنّ حروب مكلفة على الإرهاب، وغزو الدول، والقتال ضدّ المتطرّفين الإسلاميين»، من دون أن تنجح في محو تهديد هؤلاء، فيما أبرز مثال على ذلك، عودة حركة «طالبان» إلى الحُكم في أفغانستان. أمّا في ما يتعلّق بالحرب على غزة، فيرجّح مراقبون أن تصطدم إسرائيل، مهما كانت محصّلة عدوانها، بأسئلة جوهرية، من الواضح أنها لا تمتلك أيّ أجوبة شافية عليها، وأبرزها، مدى قدرتها على سلْب «حماس» قدراتها العسكرية والإلكترونية، والتي أَلحقت، على حدّ تعبيرها، «العار» بالاستخبارات الإسرائيلية وقواتها. وفي حال وَجدت إسرائيل بشكل ما سبيلها إلى الهدف المذكور، فستكون، وفق أصحاب هذا الرأي، أمام معضلة أخرى، عنوانها «ماذا غداً؟»، نظراً إلى أن سلطات الاحتلال لا تمتلك أجوبة حول مَن «سيدير القطاع»، في حال نجحت إسرائيل في «تحييد حماس».
وفي ضوء ما تقدّم، تتركّز معظم التوصيات التي يقدّمها مراقبون ومحلّلون أميركيون لواشنطن، على ضرورة اتباع «الديبلوماسية والحوار» سبيلاً لتهدئة الأوضاع. وفي هذا الإطار، أمل توماس فريدمان، في «نيويرك تايمز»، في أن يطلب بايدن من إسرائيل أن تطرح أوّلاً سؤالاً على نفسها، خلال بحثها في «الخيارات» المطروحة للردّ على غزة: «ماذا يريد منها أعداؤها أن تفعل، وكيف تفعل عكسه تماماً؟»، مشيراً إلى أن ألدّ خصوم إسرائيل، وعلى رأسهم إيران «وحماس»، يرغبون في رؤية «إسرائيل تغزو غزة، وتُستنزَف استراتيجيّاً هناك». وأضاف: «نحن نتحدّث عن قتال سيتنقل من منزل إلى منزل، ما من شأنه أن يقوّض أيّ تعاطف تحظى به إسرائيل على المسرح العالمي، ويصرف انتباه العالم عن النظام القاتل في طهران، ويجبر إسرائيل على توسيع قواتها لفرض احتلال دائم على غزة والضفة الغربية». وبعيداً من الضخّ الإعلامي الذي ذكّر البعض بالاستراتيجية الغربية إبان غزو العراق، لفت فريدمان إلى أن جوهر الرسالة التي تريد «حماس» إيصالها إلى نتنياهو، وائتلافه اليميني الحاكم، هو أنّه من غير المسموح أن «يشعر هنا (أيّ في فلسطين) أنّه في منزله»، «بغضّ النظر عن حجم الأرض التي يبيعها لك إخواننا العرب الخليجيون»، مشيراً إلى أن «حماس»، والمقاومة ككلّ، كانت تدرك أن نتنياهو يسعى ليثبت لها أنه قادر، رغماً عنها، على انتزاع اعتراف الدول العربية، بما فيها السعودية، بإسرائيل، من دون أن يضطرّ لإعطاء الفلسطينيين، ولو «شبراً واحداً»، مقابل ذلك. وفي مقابلة منفصلة مع شبكة «سي إن إن»، اعتبر فريدمان أيضاً أنّ تشبيه عمليّة «طوفان الأقصى» بهجمات الـ11 من أيلول «سخيف تماماً»، إذ فيما شكّل الأول حدثاً «لا يُمكن تخيُّل حصوله»، وتمّ، عبره، تحويل عدد من الطائرات إلى «قنابل انتحارية»، فإن الهجوم الأخير كان «متوقّعاً بالكامل»، وقد بنت إسرائيل «حائطاً كلّف المليارات» لمنع حصوله، قبل أن يقوم أفراد من «حماس»، بشكل غير مفهوم، بهدمه بالجرافات، والعبور إلى الأراضي المحتلّة بـ«سياراتهم الصغيرة».