في اليوم الخامس من عملية «طوفان الأقصى»، حاول الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أن يستدرك خطأه التاريخي المتمثّل في إعلان حياد بلاده بين القاتل والضحية، مبدياً استعداده للتوسّط بينهما. غير أن ما فعله الزعيم التركي كان، بلغة كرة القدم - وهو لاعب كرة سابق -، أشبه بهجمة مرتدّة فاشلة، أخفق فيها في تسجيل لو ما يصفونه في اللعبة بـ«هدف الشرف». وأمام نواب كتلة حزبه، «العدالة والتنمية»، تحدّث إردوغان بلهجة أراد من ورائها أن يعيد السهم إلى القوس، وهو ما بدا متعذّراً، بعدما كان السهم قد انطلق منذ اليوم الأول للحرب، إذ لم يغادر، في كلّ كلمة من الجزء المتعلّق بغزة، موقف الحياد من مسألة قتل المدنيين، مستمرّاً في المساواة بين الطرفَين، بقوله: «نحن ضدّ قتل المدنيين على أراضي إسرائيل. ولا يمكن قبول قتل المدنيين في غزة». ووصف إردوغان قطْع الكهرباء وتدمير المدارس والجوامع والمباني في القطاع، بأنه «مجزرة جماعية»، قائلاً إن «المنطقة والعالم لم يعودا قادرَين على التحمّل»، وإنه يريد من إسرائيل أن تتصرّف «مثل العمالقة»، لأنها «إذا لم تتصرّف كدولة، فسيتمّ التعامل معها باعتبارها منظّمة». وفيما حمّل الأمم المتحدة مسؤولية ما يحدث لجهة ترك الفلسطينيين لمصيرهم، تجاهل الرئيس التركي بالكامل مسؤولية إسرائيل عن احتلالها الضفة الغربية وحصارها غزة، وعدم تطبيقها القرارات الدولية منذ عام 1967 وما قبله. وهكذا، كرّر إردوغان دعوة الأطراف جميعها إلى «الاعتدال»، مبدياً مرّة أخرى استعداد تركيا لتأدية دور الوساطة و«التحكيم العادل»، ذلك أنها «لا تريد أن ترى الأطفال والأبرياء في إسرائيل وغزة وأوكرانيا وسوريا يُقتَلون... نحن لا نرغب في مثل هذه المآسي في إسرائيل ولا في فلسطين». وفي هذا الجانب تحديداً، ذكرت وسائل إعلام تركية أن إردوغان أوعز إلى فريق عمله، المباشرة بإجراءات الوساطة لمبادلة الأسرى بين «حماس» وإسرائيل.غير أن الإعلام التركي عزّز من صورة «الحياد» التي رسمها إردوغان عنواناً للمواجهة القائمة في فلسطين. إذ رغم مواصلة إسرائيل حملة الإبادة ضدّ المدنيين في غزة، فإن الصورة السلبية عن القطاع، والتي عمل إعلام «العدالة والتنمية» على الترويج لها، لا تزال هي القائمة. وفي هذا الإطار، انضمّ الصحافي المعروف، غونيري جيفا أوغلو، الموالي لإردوغان، إلى قائمة مَن يعملون على تشويه صورة المقاوم الفلسطيني. وفي مقالة له في صحيفة «ميللييات»، لفت إلى أن «أكثر من ألف مدني وجندي إسرائيلي قُتلوا حتى الآن، و»الأسوأ» أن مئة إسرائيلي هم أسرى في غزة»، مساوقاً السردية السائدة في الإعلامَين الإسرائيلي والغربي، بقوله أن «ستة ملايين يهودي فقدوا حياتهم في معسكرات النازية في ألمانيا، ودخلت هذه الأحداث في التاريخ على أنها إبادة. وبعد مقتل هذا العدد من المدنيين والجنود الإسرائيليين في هجوم حماس، تكون هذه «المجزرة الكبيرة الثانية» بعد الهولوكوست». ووفقاً لجيفا أوغلو، فإنه «أمر مثير ألّا تتسرّب أيّ معلومة عن لقاءات قادة حماس في الآونة الأخيرة في بيروت وفي غزة، فالفشل الاستخباري ليس حصراً بالموساد، بل بالاستخبارات الأميركية والإنكليزية أيضاً».
أمّا الكاتبة الإسلامية، نهال بنغيسو قره جه، في صحيفة «خبر تورك»، فرأت أن عمليّة «طوفان الأقصى» المدعومة من إيران، «كبيرة جدّاً بلا شكّ، وهي تكتسب بذلك صفة تاريخية. وربّما، للمرّة الأولى، تنجرح صورة إسرائيل، في ما شكّل رأياً عاماً بات يقول إن إسرائيل يمكن أن تنهزم». على أن الكاتبة لم تتأخّر كثيراً قبل أن تنتقل إلى مهاجمة «حماس»، معتبرةً أن «سقوط هذا العدد من المدنيين في الهجوم، أثار نقاشات تتعلّق بالجانبَين الأخلاقي والإسلامي من المسألة. يجب أن يُحاسَب الجانب الأخلاقي جرّاء هذه المشاهد الوحشية»، بعدما بات الأمر «يتطلّب حدوث معجزة لتصحيح الصورة التي رسّختها حماس». أيضاً، قالت الكاتبة إن «الضرر الذي تحدثه إسرائيل في غزة، أكبر بكثير ممّا ألحقته حماس بإسرائيل. وسوف تتّخذ إسرائيل ذلك ذريعة لتوسيع الحرب إلى لبنان وسوريا وإيران»، فيما أيّدت دعوة إردوغان الأفرقاء إلى «الاعتدال»، بالقول إن «كثيرين قد يرون ذلك مفاجئاً، ولكنه الموقف الصحيح».
ثمّة تحذيرات من تعاظم الانشقاق في المجتمع التركي حول القضيّة الفلسطينية


من جهته، واصل أحمد حاقان، في «حرييات» الموالية، «شرح» مواقف إردوغان، بالقول إن «حماس تَقتل مَن تصادفه من مدنيين ولا تبالي، وإسرائيل تَقتل المدنيين في غزة ولا تبالي. لذا، هناك ضرورة لوجود طرف ثالث للتوسّط، هو الطرف التركي»، لأنه «إذا كان هناك مَن سيطفئ النار في الشرق الأوسط، فهو تركيا». وفي الاتجاه نفسه، كتب ياووز دونات، في صحيفة «صباح» الموالية، مؤيّداً سياسة الحياد الحالية، خصوصاً أن «تركيا بلد واسع جغرافيّاً وقوّي، ويشكّل واحة سلام وسط حزام النار». ورأى أن «السياسة التي اتبعتها تركيا في الحرب الأوكرانية - الروسية، كانت صحيحة. وكان موقفها الهادئ والداعي إلى المصالحة في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني صحيحاً، ولولاه لَمَا عَرفت السياحة في تركيا، عام 2023، انفجاراً كبيراً».
ولربّما تُشكّل مقالة إرسين تشيليك، في صحيفة «يني شفق» الموالية، جرس الإنذار الأقوى، إلى الآن، إذ حذّر الكاتب من تعاظم الانشقاق في المجتمع التركي حول القضيّة الفلسطينية. وقال إن التساؤلات حول مبرّرات هجوم «حماس» وقتْل المدنيين تثير القلق، خاصّة بعدما اتّسعت نزعة العداء للعرب عموماً، بسبب اللاجئين السوريين في تركيا. ووفقاً لتشيليك، فإن «الرأي العام التركي انقسم حول فلسطين، وهو ما تريده إسرائيل. ودفع ذلك السفيرة الإسرائيلية لدى تركيا إلى أن تشكر الشعب التركي، فيما وسائل التواصل الاجتماعي تنبري دفاعاً عن إسرائيل. لقد أنشات إسرائيل في تركيا رأياً عاماً معادياً للشعب الفلسطيني. ويجب أن نعترف بأن إسرائيل باتت في داخلنا، وبأن الخطوة التالية هي قطع الرابطة التركية والإسلامية بالقدس والمسجد الأقصى»، معتبراً أن «صورة الإرهابي التي تروَّج عن الشعب الفلسطيني، ستدفع الرأي العام إلى القول لاحقاً: وما لنا وللمسجد الأقصى».
وفي «جمهورييات»، رأى محمد علي غولر، أن إسرائيل «تعمل على الاستفادة من الأمر الواقع الذي خلقته الإمبريالية في الشرق الأوسط منذ 75 عاماً. فهي تريد أن تقتل الفلسطينيين وتهجّرهم، ثم توسّع المستوطنات ليبقى خيار واحد: دولة واحدة إسرائيلية على الأرض. وهذا أيضاً هدف الولايات المتحدة التي تريد لإسرائيل أن تكون الشرطي الأميركي في المنطقة إلى الأبد. وحيث يقول جو بايدن: لو لم تكن إسرائيل موجودة، لَوَجَبَ خلقُها». ويشير غولر إلى أن «أميركا تريد دولة واحدة بشعبَين، ولكن عمليّة «طوفان الأقصى» يمكن أن تفتح الباب أمام حلّ الدولتَين»، مضيفاً أن «نتنياهو قال إنه سيردّ على حماس بقسوة شديدة، لكنه سيضطرّ في النهاية للجلوس إلى طاولة المفاوضات، خصوصاً أن الرأي العام الإسرائيلي لا يقف خلف رئيس حكومته الذي بات يوصف في الإعلام (وفق هآرتس) بزعيم عصابة يجب ألّا يبقى في سدّة المسؤولية». وهنا أمر آخر أَظهرته عمليّة «طوفان الأقصى»، وفقاً لغولر، وهو أن «زمام المبادرة لم يَعُد حصراً بيد الولايات المتحدة، فهناك التعاون الروسي - الصيني في المنطقة، وهو ما يعني أن الأمر الواقع الحالي في المنطقة لا يمكن أن يستمرّ. والسلام لا يولد من السلام، بل من الحرب، فيما حلّ الدولتَين أقرب من أيّ وقت مضى».
وفي إطار العلاقات التركية - الفلسطينية، استقبل زعيم «حزب السعادة»، تيمل قره مللا أوغلو، في مقرّ الحزب في أنقرة، ممثّل حركة «حماس» في تركيا، مصطفى عكاري، ومعه وزير الصحة الفلسطيني السابق، باسم نعيم. وغرّد قره مللا أوغلو، قائلاً إن «الذين يفترون في مواقع التواصل على حركة المقاومة الفلسطينية، لا يمكن أن يفهمونا أبداً، ولا أن يفهموا حساسيّتنا تجاه فلسطين». كذلك، التقى عكاري النائب عن «حزب الدعوى الحرّة» الإسلامي وأمينه العام، شهزاده ديمير، في مقرّ البرلمان التركي، فيما أعرب الأخير عن دعمه الكامل للشعب الفلسطيني.