ليس مستغرباً أن يُثار موضوع ازدواجية المعايير الغربية، عند كلّ منعطف سياسي أو صراع عسكري يمرّ به الشرق الأوسط، حيث الصراع في هذا الإقليم ذي الأهمية الإستراتيجية الوازنة، والذي غالباً ما يبدو مستداماً، لا يأخذ وجه التجاذب الجيو-سياسي بين محاور إقليمية أو دولية متباينة فحسب، بل يكاد يميط اللثام أيضاً عن صراع الغرب مع نفسه: بين مصالحه، وبين «قيمه»، وبين ما يدّعيه من حرّية، وما يمارسه على الأرض على الضدّ منها. ومن الطبيعي أن تكون تطوّرات العدوان الإسرائيلي على غزة، ولا سيما بعد استهداف مستشفى «المعمداني»، محور هذا الجدل المتجدّد، في ظلّ «السقطات» السياسية والإعلامية التي سجّلتها البلدان الغربية بالجملة، وتحديداً الولايات المتحدة، مع إصرار السواد الأعظم من إعلامها، أسوة بقادتها، على تكريس «سردية» تبدأ مع ما سمّته «هجوم حماس» في السابع من تشرين الأول، وتتجاهل ما قبله من سجلّ واسع من الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية المتواصلة منذ عقود بحقّ الشعب الفلسطيني.
ازدواجية السياسات الأميركية: ما الفرق بين بايدن وشي؟
في مشهد بدا مستفزّاً لكثيرين، بخاصّة لأبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، تبارى سياسيون وإعلاميون غربيون، منذ الأيام الأولى للعدوان، في إبراز «مشاعر التضامن» مع إسرائيل. وكان في طليعة هؤلاء الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي أظهر دعماً غير مشروط لكيان الاحتلال، والمرشّح الرئاسي «الجمهوري»، رون ديسانتيس، الذي طالب بدوره بطرد الطلاب الذين يعربون عن تأييدهم للجانب الفلسطيني من الجامعات الأميركية، وذلك بالتزامن مع دعوات أعضاء في الكونغرس إلى تجريد النائبة رشيدة طليب من عضوية الكونغرس، على خلفية انتقادها الاعتداءات الإسرائيلية على غزة. وفيما ظَهر جليّاً مدى انحياز تغطية وسائل الإعلام الغربية إلى «الرواية الإسرائيلية»، وُضع الموقف «الأخلاقي» للغرب في الميزان، واستُحضرت المقارنة بين أداء المعسكر الذي يصف نفسه بـ»حلف الديموقراطيات»، حيال حرب أوكرانيا، وتلك الدائرة في غزة. وفي هذا السياق، رأى البعض أن ما حمله موقف بايدن من غطاء سياسي «لا محدود» لحكومة بنيامين نتنياهو، للفتك بالفلسطينيين، لا يختلف في شيء عن إعلان الرئيس الصيني، شي جين بينغ، تدشين «شراكة إستراتيجية بلا حدود» مع موسكو، قبل أسابيع من بدء «العملية العسكرية» في أوكرانيا، التي فتح لها الغرب خزائنه المالية ومخازنه العسكرية، بوصفها «عدواناً» على سيادة دولة أخرى.
ما سبق، بات يَطرح أسئلة جدّية حول تداعيات غياب نجاعة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، بعدما تمحورت، ولوقت طويل، حتى في ظلّ الإدارة الحالية، حول التأييد اللفظي لمسألة «حلّ الدولتين»، من دون أن يرافق ذلك أيّ ضغط ملموس على إسرائيل لإجبارها على القبول به. والواقع أن هذا الأداء، المصحوب بإسناد عسكري غير مسبوق لتل أبيب، بات ينعكس سلباً على صورة الإدارة الأميركية الحالية، سواء في أوساط الشارع الأميركي، وبصورة خاصة لدى ناخبي بايدن من أنصار «الحزب الديموقراطي»، على وقع تسريبات إعلامية عن وجود حالة اعتراض كبيرة داخل الإدارة على مسألة الانحياز السافر إلى إسرائيل، تجلّت في استقالة مدير مكتب شؤون الكونغرس والشؤون العامة لدى وزارة الخارجية، أو لدى الرأي العام الدولي، وبخاصة في بلدان «الجنوب العالمي». فقد أظهر استطلاع جديد للرأي، أن غالبية القاعدة الناخبة لـ»الحزب الديموقراطي» باتت أكثر ميلاً إلى تأييد الشعب الفلسطيني، على حساب إسرائيل، وذلك للمرّة الأولى منذ عام 2001. وبيّن الاستطلاع، الذي أجرته «مؤسسة غالوب» المتخصّصة في دراسات الرأي العام، أن فئة الشباب المستطلعين، والذين تراوح أعمارهم بين 23 و43 عاماً، سجّلت التحوّل الأوسع في ارتفاع نسبة هذا التأييد، قياساً إلى الفئات العمرية الأكبر سناً، والتي تميل تقليدياً إلى إسرائيل.
واشنطن تواجه «ريحاً معاكسة»: «الجنوب العالمي» ليس معنا!
أمّا على مستوى الارتدادات الدولية لموقف البيت الأبيض، فلفتت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن تأييد بايدن للممارسات الإسرائيلية في غزة، أسهم في تضعضع «الأرضية الأخلاقية» التي تسوّقها واشنطن لدعم أوكرانيا (في إشارة إلى تصوير الغرب للحرب الأوكرانية - الروسية على أنها حرب تحرير)، وأوجد مخاطر بخلق رياح معاكسة جديدة لجهود واشنطن لكسب الرأي العام العالمي. وتضيف أن الحجج الأميركية، وعلى رغم ما لاقته من صدى في معظم أنحاء الغرب، إلّا أنها تلقى أصداء أقلّ في أجزاء أخرى من العالم، ملمّحةً إلى أن تساهل التعاطي الأميركي مع كيان الاحتلال الإسرائيلي كان سبباً في إثارة صيحات الاستهجان (الدولي) إزاء هذا النفاق، ولا سيما في بلدان «الجنوب العالمي» المعروفة بتضامنها التاريخي مع حقوق الشعب الفلسطيني.
استُحضرت المقارنة بين أداء المعسكر الذي يصف نفسه بـ»حلف الديموقراطيات»، حيال حرب أوكرانيا، وتلك الدائرة في غزة


وفي الاتجاه نفسه، يعتقد رئيس «مجموعة أوراسيا» للبحوث، كليفورد كوبشان، أن الحرب في الشرق الأوسط «ستؤدّي إلى دقّ إسفين متزايد بين الغرب ودول مثل البرازيل أو إندونيسيا»، التي تُعدّ دولاً وازنة ذات نهج غير منحاز في السياسة الخارجية، معتبراً أن ذلك سيجعل التعاون الدولي في شأن أوكرانيا، مثل فرض العقوبات على روسيا، «أكثر صعوبة». وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن حرب غزة لم تؤدِّ إلّا إلى زيادة استياء شعوب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والتي تستهجن الإفراط في تسليح أوكرانيا، بينما يتم تجاهل أهداف التنمية الدولية.
بدوره، ينبّه الكاتب الأميركي المتخصّص في الشؤون الدولية، هاورد فرينش، إلى أن الضرر الذي قد يلحق بالولايات المتحدة نتيجة التلكؤ في انتقاد إسرائيل، يمكن أن ينبع من مصدرَين: أولهما يتّصل بعدم قدرتها بعد الآن على تقديم نفسها كـ»وسيط نزيه» لحلّ الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيما يرتبط ثانيهما بالضرر الذي لحق بمكانة واشنطن الدبلوماسية في الشرق الأوسط وفي العالم الأوسع، مضيفاً أن «الضرر الطارئ الأشدّ وطأة، سيكون على مستوى (تراجع) دعم أميركا في الجنوب العالمي، في خضمّ الصراع بين روسيا وأوكرانيا». وتذهب محلّلة الشؤون الأوروبية الآسيوية في برلين، هانا نوت، من جهتها، إلى القول إن هناك تصوّراً لدى تلك الشعوب بأن الغرب «يهتمّ أكثر باللاجئين الأوكرانيين، وبمعاناة المدنيين الأوكرانيين، ممّا يفعل عندما يعاني الناس في اليمن، وغزة، والسودان، وسوريا».
وضمن السياق نفسه، تشير مجلة «فورين بوليسي» إلى أن «المعايير المزدوجة التي يُعامل على أساسها الفلسطينيون والأوكرانيون واضحة»، حيث حشد الغرب كلّ إمكاناته لمساندة كييف في وجه الآلة العسكرية الروسية، مشيرة إلى أنه في منظور الغرب «من المقبول، (التأكيد) على حقّ أوكرانيا في الدفاع عن نفسها... لكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة». كما تُسهب المجلة في استعراض مظاهر ازدواجية المعايير الغربية في ما يخصّ كلاً من أوكرانيا وفلسطين، من خلال المقارنة بين أسلوب العقوبات والمقاطعة الاقتصادية الدولية ضدّ روسيا، والذي قادته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وما لاقته «حركة مقاطعة إسرائيل» من حملات سياسية وقانونية من قِبَل تلك الحكومات. والأمر نفسه ينطبق على دعوات سبق أن وجّهتها بلدان الغرب لمقاطعة فعاليات فنية ورياضية روسية، وهو ما استنكرته البلدان عينها حين طالب ناشطون فلسطينيون بمقاطعة إسرائيل على المستويَين الثقافي والأكاديمي بهدف الضغط عليها لوقف احتلالها لأراضٍ فلسطينية. كذلك، تتوقّف المجلة الأميركية عند مسارعة «المحكمة الجنائية الدولية»، وتحت ضغط غربي واضح، إلى إصدار مذكّرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على خلفية اتهامه بجرائم حرب في أوكرانيا، على رغم عدم انتساب كلّ من كييف وموسكو إلى المحكمة، في حين لم تتحرّك الأخيرة على النحو نفسه للنظر في جرائم الجيش الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، علماً أن فلسطين دولة موقّعة على الاتفاقية المنشئة لنظام عمل المحكمة، المعروف بـ»نظام روما الأساسي».