في اليوم التاسع عشر من الحرب على غزة، خرج الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من مربّع الحياد الذي ركن إليه منذ بدء العدوان، مصعّداً لهجته ضدّ إسرائيل والغرب. وفي كلمة ألقاها أمام كتلة نواب حزبه، «العدالة والتنمية»، في البرلمان، أمس، قال إردوغان إنه «لا مشكلة لديه مع دولة إسرائيل»، بل مع «السياسات الوحشية التي تتّبعها والتي لا نوافق عليها»، إذ «قامت، منذ الـ7 من تشرين الأول، بأكثر الهجمات وحشية في تاريخها، ولا تجد بلداً آخر يفعل ما فعلته إسرائيل ضدّ غزة»، مذكّراً مَن يعنيهم الأمر بأن «حماس ليست منظّمة إرهابية، بل حركة تحرُّر ومجموعة من المجاهدين»، وكذلك بموقفه في «منتدى دافوس» عام 2009، وكيف أنه وقف، حينئذٍ، في وجه الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز. ولفت أيضاً، في هذا الجانب، إلى أن لقاءه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في نيويورك، الشهر الماضي، «كان بِنيّة حسنة، وقد أُسيءَ استغلالها. كنت أخطّط للذهاب إلى إسرائيل، وقد أَلغيت ذلك بعد حرب غزة». وانضمّ وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، إلى رئيسه، رافعاً السقف ضدّ إسرائيل، إذ قال، بعد لقائه نظيره القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الدوحة، إن العملية الإسرائيلية ضدّ غزة «تحوّلت بالكامل إلى وحشية ومجزرة»، في وقت ذكرت فيه وكالة «بلومبرغ» أن «تركيا علّقت خطط التعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة»، وأن وزير الطاقة فيها ألغى زيارة كانت مقرّرةً له إلى تل أبيب.ويردّ بعض المراقبين التحوّل في خطاب السلطات التركية إزاء ما يحدث في غزة، إلى استياء أنقرة من تجاهل الغرب لدورها، ولا سيما أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، لم يشملا تركيا في جولتيهما الأخيرتَين في المنطقة، فضلاً عن أن الجانب الأميركي لم يُقدِم على أيّ نوع من التواصل مع الأتراك، رغم عرْض هؤلاء الأخيرين، منذ اللحظة الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، التوسّط في مسألة الإفراج عن الرهائن لدى «حماس»، والتي تضطلع بالوساطة فيها كلّ من قطر ومصر. لكن في المقابل، لا يبدو ارتفاع الصوت التركي منفصلاً عن التطوّرات الداخلية، حيث يواجه موقف إردوغان «الحيادي» على امتداد الحرب، غضبة الشارع ومعظم زعماء المعارضة، فضلاً عن شريكَي الرئيس في الحكم، «حزب الرفاه من جديد» بزعامة فاتح نجم الدين إربكان، و«حزب الدعوة الحرّة» بزعامة زكريا يابجي أوغلو، واللذَين انتقدا الموقف الرسمي من الأحداث في غزة.
وفي هذا الإطار، شنّ زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، هجوماً لاذعاً على إردوغان، متهماً إيّاه بـ«ازدواجية المواقف»، قائلاً، في كلمة أمام كتلة نواب حزبه، إن «تركيا تحوّلت من دولة لها كلمتها، إلى دولة لا تُسمَع كلمتها ولا يعيرها أحد أيّ اهتمام». ووفقاً لكيليتشدار أوغلو، إن «السياسة الخارجية لتركيا أصبحت عديمة الثقة والاعتبار، تعرض نفسها للتوسّط ولا أحد يستمع إليها. باتت مستبعَدة، وانتقلت المهمّة إلى قطر»، متوجّهاً إلى إردوغان بالقول: «إنّك تصرخ وتقول ما الذي تفعله حاملتا الطائرات الأميركيتان في شرق المتوسط على بعد آلاف الكيلومترات من أميركا. ولكن يحقّ لي أن أسأل: ما الذي كان يفعله صهرك على متن إحداها؟ لن تستطيع أن تلعب لعبة مزدوجة». والجدير ذكره، هنا، أن زعيم المعارضة التركية كان يشير إلى دعوة وجّهتها قيادة حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس جيرالد فورد» المتواجدة قبالة سواحل المتوسط، إلى صهر إردوغان، سلجوق بيرقدار، وقادة عسكريين أتراك، للقيام بجولة على متن الحاملة التي كانت تشارك في مناورة مع القوات البحرية التركية، في 25 آب الماضي. حينئذٍ، نشر السفير الأميركي لدى تركيا، جيف فليك، صورة مشتركة مع بيرقدار على متن السفينة، معلّقاً: «معاً نكون أقوى».
ومن جهته، واصل زعيم «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، انتقاداته لسياسة إردوغان، بصفتها «ضعيفة وخجولة». وأثناء لقاء جمعه إلى السفير الروسي في أنقرة، ألكسي إرخوف، أشار إلى أن «أوّل دولة يمكن أن تتبادر إلى الذهن عند ذكر فلسطين، هي تركيا. وإذا لم تتبادر إلى الذهن، فذلك يعني أن الدور التركي غير موجود. وهذا ليس بسبب عدم أهمية تركيا، بل لأن السياسات التي اتّبعتها الحكومة، ضعيفة وخجولة»، معتبراً أن التجمُّع الذي دعا إليه «حزب العدالة والتنمية» يوم السبت المقبل، بعد ثلاثة أسابيع كاملة على بدء الحرب، «يأتي متأخّراً جداً، فضلاً عن أن دور أولئك الذين في الحكومة ليس تنظيم المهرجانات، بل اتّخاذ تدابير».
في السياق نفسه، يرى الخبير في الشؤون الخارجية، آيدين سيزير، في حوار مع صحيفة «جمهورييات»، أن فكرة «الضمانة» التي بدأت تَخرج من تركيا، ومفادها أن تكون الأخيرة من ضمن دول معيّنة «ضامنة» للحلّ الذي يمكن التوصّل إليه في غزة، على غرار «الضمانة» التركية - اليونانية - الإنكليزية في قبرص، «غير واضحة بعد، لناحية مَن هي الدول التي يمكن أن تكون "ضامنة" للحلّ»، لافتاً إلى أن «العلاقات التركية - الإسرائيلية تمرّ الآن بمرحلة اختبار جدّي، وتركيا لا يمكنها الآن أن تفعل أيّ شيء من أجل التوسّط بين إسرائيل وحماس، بل ليس واضحاً أصلاً ما إذا كانت تريد لعب الضامن لسلطة محمود عباس أو لحركة حماس. وفيما يتحدّثون عن مَحو حماس، ليست واضحة جدّية النقاش حول وقف إطلاق النار. ويبدو أن تركيا طَرحت مثل هذه الفكرة على عجل، لمجرّد طرحها». ويعتبر أنه «ما لم يُطلَق سراح جميع الأسرى، فلن تتوقّف الحرب»، مضيفاً أن بايدن «سيعطي الأولوية للأسرى، ولا سيما لمزدوجي الجنسية الأميركية - الإسرائيلية، بما يخدم الدعاية في الانتخابات الرئاسية الأميركية».
ذكّر إردوغان بأن «حماس ليست منظّمة إرهابية، بل حركة تحرُّر ومجموعة من المجاهدين»


وفي صحيفة «حرييات»، يتساءل سادات إرغين: «ماذا لو انفجرت حرب غزة، وتركيا لم تكن قد صحّحت بعد علاقاتها مع إسرائيل ومصر ودول المنطقة؟»، ليجيب بأن أنقرة، ومنذ بداية الأحداث، «تتواصل مع إسرائيل والفلسطينيين ومصر، وتدعوهم إلى الهدوء والاعتدال. وما كان لها أن تفعل هذه الحركة السياسية لو أن علاقاتها كانت سيّئة معهم». ويضيف أن «علاقات سيئة مع هذه الدول لم تكن نتائجها لتنحصر في مجال العلاقات الثنائية، بل كانت لتفتح الباب أمام تراجع الدور التركي في المنطقة ككلّ». أمّا عاكف باقي، في «قرار»، فينتقد المجتمع المدني في تركيا، قائلاً إنه «تحت ضغط المجتمعات المدنية المناهضة لإسرائيل، اضطرّت السلطات في الغرب لإلغاء الحظر على التظاهرات، فانطلقت موجة عارمة في شوارع باريس ولندن وبرلين وغيرها. أمّا في تركيا، فلم نرَ مثل هذه الحساسية المطلوبة للوقوف في وجه إسرائيل، رغم أنّنا نمتلك حساسية أكبر بكثير ممّا عُبّر عنه، وممّا هو موجود في أوروبا، ورغم أنه لا يوجد حظر عندنا على الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل». ويلفت باقي إلى أن «هناك كثير من الأصوات المعترضة على العدوان الإسرائيلي على غزة والدعم الغربي المطلق لإسرائيل، ولكن الدعوة إلى الحريات في أوروبا تنتهي عند حدود إسرائيل، وادّعاء الديموقراطية لا يمكن أن يجتاز الحدود إلى الجانب الفلسطيني». ويرى أن «أوروبا تنكر نفسها من أجل إسرائيل. إن تشبيه إسرائيل بالولاية الـ51 للولايات المتحدة، لم يأتِ من عبث. وَقَف بايدن مقدّماً جسده درعاً لحماية نتنياهو. حتى الإسرائيليون أنفسهم لم يحموا رؤساء حكوماتهم إلى هذه الدرجة»، لكن «أميركا أرادت أن تقول إن مَن يواجه إسرائيل سيجد قبالته القوّة العسكرية الأميركية. تتصرّف الدولتان كما لو أنهما أمّة واحدة. وأميركا أعلنت بنفسها أن العملية البرية في غزة ستبدأ حين تكتمل الاستعدادات الأميركية»، كما يقول.
في هذا الوقت، حظي خبر مطالبة تركيا قادة «حماس» بمغادرة أراضيها عقب عملية «طوفان الأقصى»، والذي نقله الكاتب المعروف، فهيم طاشتكين، بضجّة استدعت تكذيباً قاطعاً من الدائرة الإعلامية في رئاسة الجمهورية. ولكن المفارقة، وفقاً للكاتب مراد يتكين، أن التكذيب نُشر على موقع الدائرة باللغة العربية فقط، ولم يصل إلى القارئ التركي، علماً أن الادّعاء بوجود طلب تركي، لم يمنع من مواصلة الاتصالات بين إردوغان وقيادة «حماس».