يُعدّ آلان غريش من أبرز المفكّرين والخبراء الفرنسيين في قضايا الشرق الأوسط، وفي علاقة فرنسا بقضاياه، بخاصة الصراع العربي - الإسرائيلي. يقدّم غريش، في هذه المقابلة مع «الأخبار»، قراءته لخلفيات المواقف التي أطلقها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من الحرب الجارية في غزة، والتي تشي بتماهٍ شبه كامل مع الموقف الإسرائيلي. لغريش، وهو مدير موقع «شرق 21»، مجموعة مؤلفات مهمّة آخرها «أنشودة حب. فلسطين - إسرائيل: قصة فرنسية»


يمثّل اقتراح ماكرون تشكيل تحالف دولي ضدّ «حماس» على صورة ذلك الذي أُنشئ ضدّ «داعش»، تماهياً غير مسبوق من رئيس فرنسي مع المنطق العميق الذي يحكم السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ومع أهداف هذه السياسة. ما هو تفسيركم لمثل هذا الموقف؟
هذا الاقتراح فاجأ الجميع في باريس، بمن فيهم الدوائر الديبلوماسية الفرنسية، والاعتقاد السائد هو أنه نتاج ارتجالِ قسم من الفريق المحيط بالرئيس، والمعنيّ بالقضايا الأمنية، من دون معرفة الخلية الديبلوماسية في قصر الإليزيه، والمكلَّفة بتقديم المشورة له في الشؤون الدولية. نحن أمام تحوّل جوهري يقارب القضية الفلسطينية من منظور «الحرب على الإرهاب»، إذ يستعير الرئيس ماكرون المفاهيم التي تستخدمها إدارة بوش الابن بعد عمليات الـ11 من أيلول 2001. وقد رأينا مقارنات كثيرة في الإعلام الفرنسي بين ما حدث في الـ7 من هذا الشهر في غلاف غزة وبين تلك العمليات، مع الاستنتاج الذي يفرض نفسه بعد مثل هذه المقارنات، وهو أننا دخلنا مجدّداً في معركة مع الإرهاب. المدهش هو أن الأميركيين قاموا بنقد ذاتي لما فعلوه بعد الـ11 من أيلول، وأقرّوا بأن الحرب على الإرهاب وما قادت إليه من حروب في أفغانستان والعراق كانت كارثية تماماً بالنسبة إليهم. أظنّ أن هذا التحوّل في المواقف الفرنسية وثيق الصلة بفهم صنّاع القرار في هذا البلد، وفي الغرب عامةً، للعالم، واعتبارهم إيّاه مسرحاً لحرب بين الديموقراطيات من جهة، وبقية دوله من جهة أخرى. جو بايدن وَضع، في إحدى مداخلاته، المساعدات المقدَّمة إلى أوكرانيا وتايوان وإسرائيل في الخانة نفسها، للايحاء بأن المعركة واحدة في الساحات الثلاث، وهي تدور بين الخير والشر، أو بين الديموقراطيات والأنظمة والقوى الشمولية، بدءاً من الصين وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية. هذا تطوّر بمنتهى الخطورة، لكنّني لا أعرف إلى أيّ مدى ستستمرّ فرنسا في اتّباع ما يمليه من توجّهات، ستؤدّي بالضرورة إلى تعميق انقسامات العالم وتأجيج صراعاته.

لكن، وبمعزل عن اقتراح ماكرون، فإن مواقف الديبلوماسية الفرنسية منذ الـ7 من تشرين الأول، والتي أمّنت غطاءً للحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين بذرائع من نوع حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، وعبر رفض المطالبة بوقف لإطلاق النار، ما أدّى مثلاً إلى فشل «قمّة القاهرة» بين الدول الأوروبية والدول العربية المصنَّفة تقليدياً «معتدلة»، تعمّق الشرخ بين فرنسا والدول العربية والإسلامية بمجملها على اختلاف توجّهاتها. هل هذا ما يريده ماكرون وفريقه؟ ومن الذي يوصي بمثل هذه السياسة؟
تتناقض هذه السياسة تماماً مع مصالح فرنسا، التي لم يتوقّف نفوذها عن الانحسار في مناطق كالمغرب العربي أو أفريقيا جنوب الصحراء، إذ ستفضي إلى مزيد من هذا الانحسار في المنطقة العربية. أنا مهتمّ بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي منذ نصف قرن، وأظنّ أن المنعطف بالنسبة إلى كيفية مقاربة قطاعات وازنة من النخب السياسية له هو عمليات الـ11 من أيلول. في السبعينيات والثمانينيات، كانت القضية الفلسطينية قضية تحرّر وطني لشعب يقاوم الاحتلال في نظر قسم معتبَر من الرأي العام، لكنها باتت تُدرَج اليوم في إطار «التهديد الإسلامي».

غلاف كتاب «أنشودة حب. فلسطين - إسرائيل: قصة فرنسية»

وقد لعب خبراء وباحثون من أمثال جيل كيبيل دوراً مركزياً في الترويج لأطروحة المؤامرة الإسلامية الخارجية والداخلية على فرنسا، والتي تبغي في نهاية المطاف تغيير طبيعة نظامها السياسي، وتدمير العلمانية وغيرها من الاتهامات. وفي سياق هذا التحوّل، اختلفت مقاربة القضية الفلسطينية، وأصبحنا نسمع أصواتاً في فرنسا، بعد عمليات 2015 في باريس، تطالب بتبنّي النموذج الأمني الإسرائيلي. معطًى آخر أسهم في تعزيز هذا التحوّل، هو فكرة أن فرنسا تواجه اجتياحَ هجرةٍ غير قابلة للضبط، مصدرها أساساً دول إسلامية. نشهد مزايدات محتدمة بين غالبية الأحزاب السياسية الفرنسية، باستثناء قسم من اليسار، حول هذه الموضوعات. هناك خطّ بياني واضح يربط بين الإسلاموفوبيا والعداء للفلسطينيين وللعالم العربي، والتفاعل بين هذه المعطيات ينتج مناخاً أيديولوجياً وثقافياً يحكم إلى درجة كبيرة نظرة النخب الحاكمة الفرنسية إلى العالم. لم نشهد منذ 1967 حملة إعلامية مسعورة تأييداً لإسرائيل كتلك السائدة حالياً، وليس من المبالغة القول إنه من الأسهل نقد السياسة الإسرائيلية حتى في إسرائيل أو في الولايات المتحدة ممّا في فرنسا.

رأينا في العقد الماضي تضخّماً في دور مستشارين قادمين من خارج المؤسّسات وذوي قدرة على التأثير في قرارات شديدة الحساسية، كالدور الذي لعبه برنارد هنري ليفي مع نيكولا ساركوزي عندما أسهم في «إقناعه» بالتدخّل عسكرياً في ليبيا، وقام الأخير بذلك فعلاً من دون التشاور مع وزير خارجيته آنذاك، آلان جوبيه. من الذي يشير على ماكرون اليوم ويقدّم له التوصيات؟
أعتقد أن هناك عاملاً مهمّاً جدّاً، من بين أبرز مفاعيل النيوليبرالية، وهو خصخصة الدولة، وتراجع دور مؤسّساتها في عملية صناعة القرار. تهميش دور وزارة الخارجية الفرنسية مثال على ذلك. نظّم الديبلوماسيون الفرنسيون إضراباً واسعاً احتجاجاً على هذا الواقع، لكنهم لم ينجحوا في تغييره. بالنسبة إلى النخب الحاكمة، لم تَعُد هناك حاجة إلى جهاز دولة ضخم يضمّ موظفين يعرفون من كثب مناطق العالم المختلفة. السياسة في نظرهم، شأنها شأن التجارة والأعمال في الاقتصاد النيوليبرالي، منوطة بالصلات الشخصية مع نظراء من الممكن عقد الصفقات أو القيام بمقايضات معهم. كما سبق وأسلفتُ، فاجأ اقتراح ماكرون وزارة الخارجية، وبعض موظفيها ينتقدونه بشدّة في جلسات خاصة. نقطة أخرى ينبغي أخذها في الحسبان، وهي أنه ليست لماكرون أيّ تجربة سياسية. هو انتقل مباشرة من عالم الأعمال إلى رئاسة الجمهورية، وهو يدير الشؤون السياسية بمنطق عالم الأعمال والشركات الخاصة، أي عبر تغليب الصلات الشخصية على ما عداها.
هناك، منذ زمن بعيد، بون شاسع بين المخطّطات الأميركية وبين القدرة على إنفاذها على الأرض


منطقة الشرق الأوسط على فوهة بركان أكثر من أيّ مرحلة سابقة. الأوضاع الراهنة قد تتدحرج نحو الحرب الشاملة. هل يدرك ماكرون، وغيره من المسؤولين الفرنسيين، هذا الواقع، وهل يريدون تحقّق مثل هذا السيناريو؟
انطباعي هو أن الرئيس الفرنسي لا يدرك شيئاً. بطبيعة الحال، هو يطّلع على التقارير المرسَلة من السفارات الفرنسية في دول المنطقة، والتي تفيد بأن المواقف من فرنسا في أوساط رأيها العام وقواها السياسية أضحى شديد السلبية. لكن ماكرون يعتقد أنه بمجرّد تصريحه البارحة بأن حياة الفلسطيني تساوي حياة الإسرائيلي، بعد أن أيّد الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، سيتعدّل الموقف إيجابياً لمصلحة فرنسا بين شعوب المنطقة. هو وفريقه في الحقيقة يزدرون الرأي العام في هذه المنطقة، وما يسمّى «الشارع العربي». هم لا يعون أنه حتى في دول تفتقر إلى حياة سياسية ديموقراطية كالسعودية ومصر، الحكومات مضطرّة لمراعاة مواقف شعوبها من القضية الفلسطينية. إضافةً إلى ذلك كلّه، فإن وزن فرنسا على الصعيد الدولي أصبح محدوداً جدّاً، وإن أحداً لم يَعُد يأخذها على محمل الجدّ، حتى في لبنان حيث حاولت التوسّط بين أفرقاء أزمته السياسية. لدينا طبقة سياسية في فرنسا عمياء حيال تحوّلات العالم.

هل سيتورّط الغرب الجماعي في حرب كبرى في الشرق الأوسط رغم نزاعه بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، ومواجهته الإستراتيجية مع الصين؟
أتذكّر أن أحد مستشاري باراك أوباما، ردّاً على سؤال عن مدى جدّية إعلان الأخير الاستدارة نحو الصين، قال إن الاستدارة فعلية، لكن 90% من وقت عمل الإدارة مخصَّص للشرق الأوسط. العلاقات الخاصة الأميركية - الإسرائيلية والأهمية الجيوسياسية والجيواقتصادية للمنطقة، هي عوامل تحول دون «تهميش» الشرق الأوسط على جدول الأعمال الأميركي. هناك أيضاً اعتبارات السياسة الداخلية الأميركية، وتأثير إسرائيل وأنصارها فيها. تجد الإدارة نفسها في موقع المضطرّ للتدخّل رغم تناقض هذا الأمر مع أجندتها. حدّثونا لأشهر عن الهجوم المضادّ الأوكراني العتيد، لكن اتّضح بعد حين أن هذا الأخير هو فشل ذريع. الغربيون يتساءلون اليوم عمّا ينبغي فعله في أوكرانيا. المنطق يَفترض أن يتفرّغ هؤلاء لروسيا والصين، لكن جملة من الاعتبارات الداخلية والخارجية تمنع ذلك. هناك في رأيي، ومنذ زمن بعيد، بون شاسع بين المخطّطات الأميركية وبين القدرة على إنفاذها على الأرض.