لا تكنّ أجهزة الاستخبارات في أي بلد أيّ مودة لنظيراتها في الدول الأخرى، ولو كانت على علاقة ودّ معها. والتعاون بين جهازَي الاستخبارات الإسرائيلية «موساد» والتركية «ميت» (MİT) بدأ منذ تأسيس الدولة العبرية، وشهد واحدة من أقوى العلاقات بين جهازَي استخبارات في العالم. ولعلّ عملية إلقاء القبض على زعيم «حزب العمال الكردستاني»، عبدالله أوجالان، في كينيا، في 15 شباط 1999، واقتياده جواً إلى تركيا، هي أحد أكثر النماذج شهرة في علاقات التعاون بين استخبارات تركيا وإسرائيل.ومع وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة عام 2002، وعلى رغم ميول الحزب الإسلامية، إلا أن التعاون استمرّ قوياً، والعلاقات بين الدولتين، تواصلت بالزخم نفسه. غير أن عنصراً مهماً طرأ على هذه العلاقة، وهو ازدياد اهتمام «الموساد» الإسرائيلي بالساحة التركية نتيجة عاملين: الأول هو تكثيف قيادات وعناصر «حماس» وجودهم على الأراضي التركية نتيجة التقارب الفكري بين الحركة وسلطة «حزب العدالة والتنمية»؛ والثاني حدوث المزيد من التقارب بين إيران وتركيا، بدافع الخلفية الإسلامية المشتركة.
لكنّ الأمور وصلت إلى مأزق كبير بين الطرفين مع التباعد الغربي والإسرائيلي عن تركيا، بعد محاولة انقلاب 15 شباط 2016 ضدّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، واتهام أولئك بالوقوف وراء المحاولة. ومع أن العلاقات تحسّنت بعض الشيء بعد بداية التطبيع من جديد قبل سنتين تقريباً، لكنّ عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها من بربرية إسرائيلية في غزة دفعت إردوغان إلى تصعيد المواقف ضدّ إسرائيل، ووصف رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، بأنه «هتلر، بل أسوأ منه».
وقد استتبع هذا الموقف رداً من رئيس جهاز «الشين بيت»، رونين بار، بتسريبٍ جاء فيه أن «إسرائيل ستلاحق قادة حماس أينما وُجدوا». وسمّى ثلاثة بلدان، هي: لبنان وقطر وتركيا. وبطبيعة الحال ردّت تركيا فوراً بأن أي محاولة في اتجاه ذلك على الأراضي التركية، ستعني تدهوراً خطيراً في العلاقات بين الطرفين.
وهكذا شرع جهاز الاستخبارات التركية باتخاذ إجراءات وقائية، لأن أي استهداف على الأراضي التركية لمسؤولين من «حماس» سيدفع تركيا ولو مرغمة إلى الدخول في صراع مفتوح مع إسرائيل، خصوصاً أن وزير الخارجية الحالي، حاقان فيدان، كان رئيساً لهذا الجهاز منذ أكثر من عشر سنين، وطوّر كثيراً في عملياته من الناحية البشرية والتقنيات الحديثة، حتى تحوّل إلى درع قوية للأمن القومي التركي، ضدّ مختلف أجهزة الاستخبارات. وقبل حوالى السنة، اشتهرت العملية التي قام بها الجهاز ضدّ الاستخبارات الإيرانية وإعلانه أنه منعها من ملاحقة واغتيال إسرائيليين على الأراضي التركية. وقد شكرته إسرائيل حينها على هذا العمل.
ومنذ أكثر من شهر، وبعد التهديدات الإسرائيلية، لم تخلُ الصحافة التركية، ولا سيما الإعلام الموالي لإردوغان، من أخبار شبه يومية عن اعتقال عملاء لـ«الموساد» من جنسيات مختلفة.
غير أن العملية التي قامت بها الاستخبارات التركية، الثلاثاء الماضي، في الثاني من كانون الثاني، لفتت الانتباه، نظراً إلى حجمها وأهدافها، إذ تمّ اعتقال عدد كبير من العملاء التابعين لـ«الموساد»، بلغ 34 شخصاً بتهمة «التجسس الدولي». وتمّت العملية بالتعاون بين الاستخبارات التركية والشرطة التركية، وشملت 57 هدفاً في ثماني محافظات، هي: إسطنبول، أنقرة، قوجا علي، هاتاي، مرسين، إزمير، فان وديار بكر. وتحدثت المعلومات التركية عن دخول فريق عملاء بهدف التخريب أخيراً إلى الأراضي التركية، وملاحقة فلسطينيين وعائلاتهم وتخريب منشآت تركية ومراقبة بيوت مسؤولين. وتقول معلومات الاستخبارات التركية إن العديد من هؤلاء العملاء أدخلوا معهم موادّ ومعدات ضمن محافظ (شنط) نايلون خاصة لا تراها أجهزة الكشف الشعاعية.
وتقول هذه المصادر، وفقاً للصحافة التركية، إن عملاء «الموساد» من جنسيات مختلفة، مثل: أفغانستان وسوريا ولبنان واليمن والعراق وشمال أفريقيا وتركيا نفسها. وينال هؤلاء رواتب أو أجوراً مرتفعة لقاء خدماتهم. ومجرد انتماء العملاء إلى جنسيات مختلفة دفع بالمصادر التركية إلى وصف شبكة العملاء بـ«الشبكة الدولية». وكانت الاستخبارات التركية شنّت عملية اعتقال واسعة في نيسان من العام الماضي واعتقلت ما يقارب المئة، وكلّهم من الجنسية التركية، بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، قبل أن يُطلق سراح معظمهم لاحقاً. وفي العملية الأخيرة، تمّ اعتقال 26 بتهمة «التجسس السياسي والعسكري»، وأُرسل 11 منهم إلى الفحص الطبي، فيما سُلّم ثمانية أشخاص إلى إدارة الهجرة لترحيلهم إلى بلادهم. وانتشر على مواقع للتواصل الاجتماعي أن من بين المعتقلين أكاديميين ورؤساء منظمات مجتمع مدني وإمام جامع.
وترى مروة سيرين، المختصّة بشؤون الأمن والاستخبارات، في «جامعة بايزيد» في أنقرة، أن «هدف تركيا من هذه العملية والملاحقات هو أن تكون ضربة استباقية، لمنع إلحاق الضرر بالأمن القومي التركي. وكذلك أن تحول تركيا دون أن تتحول أراضيها إلى مسرح لصراع استخبارات بين إسرائيل وإيران». ويلفت الكاتب المعروف، جان أتاكي، بدوره، إلى أن معظم الموقوفين هم من سوريا والعراق ويحملون الجنسية التركية، وهذا يعني أن «الجواسيس موجودون بيننا، ويأكلون ويشربون معنا».
على أي حال، لا شك في أن مثل هذه العملية ستضاعف من توتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل، من دون تخريبها، في وقت لم تعلّق فيه إسرائيل نهائياً على الحدث، الذي يمكن استثماره خارجياً وداخلياً، على أعتاب الانتخابات البلدية.